مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

حتميـة التفكير الـمنطقي والعبث الـماركسي

 

 

قال أبو عبدالرحمن: يندرج في التفكير الـمنطقي عبارات من معطيات العلم الحديث، مثل: الـقوى الكهربائية، والطاقة الذرية؛ فيتضح من هذا أن التفكير الـمنطقي تلخيص لـمعطيات العلم الحديث. وهم يصفون إدراك تلك الـمعطيات بأنها آتية بواسطة النشاط الذهني، وهذا تحصيل حاصل، فكل إدراك لـمعطىً حسي مباشر كلون التفاحة أو الثوب، أو غير مباشر كلون بطن التفاحة، ولون حبيباتها الداخلية، وقيمتها الغذائية.. إلخ؛ لـن يكون إلا بنشاط عقلي، (ومن قوى العقل الذهن) قبل العصر الحديث وبعده إلى أن تقوم الساعة. وبالتحليل والتركيب تتنوع إدراكات العقل، فالتحليل هو التقسيم العقلي للشيء إلى عناصر لمعرفة أهمية العنصر، وانتقاء الجوهري. والتركيب ربط أجزاء جوانب الظاهرة، لفهمها في كليتها. ولا يجوز أن يقال: (إن تجريد الأفكار أفقر من المدركات الحسية الـمباشرة)؛ لأن أبسط الأفكار تعكس الطبيعة بشكل أكثر عمقاً وكمالاً وصدقاً؛ ولأنها تعكس الجوانب الداخلية التي ليست في متناول الـمعرفة الحسية الـمباشرة. والانتقال من الحسي إلى الـمجرد يمثل قفزةً جدليةً في عملية الـمعرفة من الأدنى إلى الأعلى، أي من التحليل إلى التركيب.
قال أبو عبدالرحمن: والنشاط العملي هو المحور في جدلية الـمعرفة الماركسية. ولنعرف مدى أمانة الدعاوى الماركسية مع الـمعرفة؛ يجب أن نبين الهدف الذي هو غاية المعرفة، وهو التقدم بالمعرفة من الجهل إلى العلم، ومن الـمعرفة الناقصة إلى معرفة أكمل وأدق. إذن ليست غاية الـمعرفة معرفة الموجود فقط؛ بل مهمتها اكتشاف أشياء ليست جاهزةً ولا متاحة في الطبيعة مباشرةً، وتلك أحكام استنتاجية. وموجز الفلسفة الماركسية في نظرية الـمعرفة ألـخصها بأمانة من كتاب (أصول الفلسفة الماركسية) تأليف (ف.ج. أفاناسييف)، ومن كتاب (المادية الجدلية) لمؤلفين سوفياتيين. وعمدة هؤلاء كتاب (الأعمال الكاملة) تأليف (لينين). وهؤلاء الماركسيون بدلالة مصادرهم تلك؛ يـحسنون الخطب، ويعز عليهم التفلسف، بسبب الإصرار على فكرة الإلحاد التي أصبحت شرطاً لكل تفكير ماركسي. ولو قدم هذا التفلسف الساذج طالب في مراحل الدراسة الأولية لوجب أن يكوى لسانه حتى لا يحلم بمثل هذا التفلسف الـغبي في مقتـبل عمره. بيد أن مثل هذا الأسلوب سينفر عشاق الحقيقة ممن يريد أن يلمس حيثيات دارس الفلسفة الـماركسية، قبل أن يقرأ نتائج دراسته. وإنني فاعل هذا إن شاء الله تعالى، ممهداً بأمور عامة هي:
أولاً: أن التفوق الـمادي الذي حققته دول الماركسية، ليس هو نتيجة جدلية المعرفة التي شرحتها الفلسفة الماركسية؛ وإنما هو نتيجة لنظرية المعرفة الصحيحة، ذات الشروط والعناصر الحقيقية الأكيدة الـمتجاهلة (بصيغة اسم المفعول)، المهضومة في التفلسف الشيوعي.
ثانياً: أن التفوق المادي الراهن في القوة العسكرية والـمعدات الحربية، وحسب؛ ليس هو صفة لذي التفكير الماركسي؛ بل ينازعهم ويتفوق عليهم أحياناً من عوالـم أمريكا وأوروبا، من ليست فلسفته في المعرفة فلسفةً ماركسية.
ثالثاً: أن التفوق المادي الذي يتصف به الماركسي وغيره، ممارسةً حرفةً ومهارةً؛ يـحصلهــا الإنسان بالدراسة والممارسة ممن هو متوسط الذكاء وعاديه؛ لأن العالـم في مختبره ليس من الشرط أن يكون أقوى فكراً وأحسن نظراً من صعاليك الأدب الذين لم يموضعوا تفكيرهم لما هو ذو أثر مادي. والتفوق المادي إذا نظر في إعجازه من ناحية نظرية المعرفة؛ فالعبرة برائد الفكرة من الفرض والنظرية إلى الملاحظة إلى التجربة إلى صياغة الإنجاز في تعبير منطقي. ورواد التفكير سواء أكانوا شيوعيين أم يهوداً أم نصارى أم مسلمين أم عباد عجل؛ لم يـحققوا نظريةً علمية، ولا تجربة عملية إلا من خلال المعرفة البشرية التي فطر الله الخلق عليها بشروطها وعناصرها الطبيعية الـمسقطة في نظام التفكير الشيوعي عن فلسفة المعرفة. وهذا ما سأبرهن عليه إن شاء الله تعالى، مؤكداً أن نظرية المعرفة التي يؤمن بها المسلمون هي الأسعد بالشاهد من كل نظرية علمية عملية أثبتها العلم الحديث.
رابعاً: أن (ماركس) أولى النظرية الاقتصادية بكتابه (رأس المال) ما لم يوله سابقوه من تفلسف نظري، حتى شطح عامداً وفق مخطط ماسوني إلى جعل (الإنتاج المادي) أم الحقائق في الوجود، وأن المجتمع البشري الضعيف المربوب هو المهيمن، والمصرف المبدع! وأما إذا ردت القضية الاقتصادية إلى مكانها الطبيعي، لتكون إحدى قضايا الوجود لا جميعها؛ فإن التفكير ينعتق من النظرة الماركسية المتحجرة.
خامساً: أن كثيراً مما سردته من جدلية المعرفة الماركسية صحيح حقيقي، باعتباره أحد عناصر المعرفة البشرية؛ وإنما الحيف في اعتباره جميع عناصرها. والفلسفة الماركسية في نظرية المعرفة انقلاب على الفلسفة الـمثالية التي تغلب ذاتية المعرفة، (والمراد بالذاتية عندهم الحس الوجداني في النفس)، فتقر في نفسها معرفة الإنسان الفردية، وتؤمن بملهم للمعرفة تسميه (الفكرة المطلقة)، أو (الروح الشامل)، وهما تعبيران وثنيان عن مانح الوجود والمعرفة، ربنا جل جلاله. والفلسفة الماركسية في زعمها تعديل للفلسفة التجريبية التي تسقط دور التفكير المجرد في المعرفة.
قال أبو عبدالرحمن: وحقيقة الأمر أن الماركسية أسقطت هذا الدور أيضاً، والفلسفة الماركسية افتراء محض على الفلسفة العقلية التي ترى أن المبادئ الفطرية شرط لكل معرفة. وفي تعريف الشيوعيين أن الـمعرفة هي: (الانعكاس الإيجابي الهادف للعالم الموضوعي، وقوانينه في نفس الإنسان). وهذا تعريف لبعض المعرفة، وليس تعريفاً للمعرفة في عمومها. والقصور في هذا التعريف آت من جهتين:
أولاهما: أن (العالـم الموضوعي) هو ما كان خارج النفس، والإنسان قد يعرف شيئاً من أسرار نفسه. والواقع أن المعرفة هي (الصورة الحاصلة في عقل الإنسان التي يتذكرها إذا شاء)، فمن ليس في ذهنه صورة عن شيء فليس عارفاً ذلك الشيء. وأما كون تلك الصورة وهمية أو ناقصة؛ فذلك يتعلق بأنواع المعرفة لا بتعريفها، وإنما يعرف الشيء بالعنصر الذي يجمع أنواعه.
وثانيتهما: أن (العالـمُ الموضوعي)، (الضم في مثل هذا دائماً على الحكاية)؛ في عرف الماركسيين والتجريبيين هو ما تم الإحساس به. والعالـم الموضوعي بهذا التعريف ليس مصدراً للمعرفة؛ لأننا لا نعرف ما لم يتم الإحساس به بعد؛ وإنما هو مصدر لأحكام المعرفة، أي المعرفة بالواقع المغيب. إن الشيوعي حينما يقول: (العالـم الخارجي المحيط بالإنسان هو مصدر معرفة الإنسان، وهو المصدر الوحيد)؛ إنما يقصد ما تم الإحساس به، ولهذا رفضوا الإيمان بالواقع المغيب من أحوال يدركها الإنسان بعد الموت وقبيل الموت عندما يكون بصره حديداً. وللحيطة من مغالطات الفكر الشيوعي؛ ألح على الملاحظات التالية:
أ- أن العالـم الخارجي ليس هو ما تم الإحساس به؛ وإنما هو الواقع المحسوس، والواقع المغيب. والإيمان بواقع مغيب تـحتمه أشياء كثيرة، منها: أنه لا يزال يستجد للعالـم الحديث وقائع مغيبة، ولهذا لم يعد مجال لاحتمال نفي وجود عالم مغيب. وإذا كان العلم الحديث يزعم أنه رسم خارطة لقشرة الكوكب الأرضي محددة بالسنتيمتر، وأنه أحصى قياساً استدلالياً لـمسافة ما بيننا وبين القمر أو المريخ.. إلخ؛ فأنّى له الزعم برسم خارطة لهذا الكون بأجـمعه؟ بل أنّى له الجزم بانتهاء الكون عند عدد من الأفلاك يدعي إحصاءها، وإن بلغت الملايين والبلايين. وأما المسلم المؤمن بأن وجوده وعقله منحة من ربه؛ فيؤمن إيماناً علمياً عملياً بعظمة خلق الله، وأن هذا الكوكب الأرضي يساوي واحداً من عشرة قصور في الجنة ينعم بها ربنا على آخر أهل الجنة خروجاً من النار، كما صح بذلك الحديث الصحيح. ويؤمن بأن الله منذ خلق البيت المعمور جعل سبعين ألف ملك يطوفون به في اليوم، ولا يعودون إليه مرة أخرى، ولا يعلم عظمة الملائكة إلا خالقهم، ولا يعلم عظمة الكون الذي قبضته في يد الرحمن إلا هو جل جلاله الخالق الأعظم. فمن هذه التصورات المـأخوذة من النص؛ علمنا أن الكوكب الأرضي العظيم في تصورنا إنما يساوي ذرة في كون الله. ثم جاء العلم الحديث وآمن بملايين الأفلاك التي أثبتها المجهر، فعلمنا أن ما آمن به العلم الحديث من ملايين الأفلاك إنما هو يسبح في الفضاء دون السماء الدنيا؛ لأن السماء الدنيا غير مأذون للبشر بدخولها إلا بإذن من الرحمن، كالإذن برفع الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته بعد موتهم، وهكذا أرواح الشهداء رضي الله عنهم. وما دون السماء الدنيا من الأفلاك، مما لم تبلغه حيلة العلم الحديث؛ هو فوق قدرة الإحصاء البشري. وإنما أوجه هذا الكلام للمؤمنين، وأما الملاحدة فحسبي أن يقال لهم: إذا لم تـحصوا لنا ببرهان علمي هذا الكون، وتحددوه بالكم والكيف؛ فلا يحق لكم ببراهين العلم الحديث نفسه أن تسقطوا من تصوركم وجود العالـم المغيب.
ب- أن (العالـم الخارجي) بمعنى ما تم الإحساس به، هو مصدر لـمعرفتنا بلا ريب. وكونه مصدراً لـمعرفتنا لا يعني أنه جميع معرفتنا؛ بل يعني أنه بعض معرفتنا، وأنه مصدر معرفتنا بما عرفنا وجوده من الواقع المغيب. وأن الإحساس معرفة حسية، وفي نفس الوقت هو أحد عناصر المعرفة البرهانية التي يعرف بها غير المحسوس.
قال أبو عبدالرحمن: في تقنين الماركسيين أن خبرة المجتمع الإنساني هي المصدر للانعكاس الإيجابي، أي المعرفة الحقيقية. وينقض هذه الدعوى أنه يوجد للفرد معارف حقيقية لا تستند إلى خبرة البشرية على الرغم من وجودها، لخفائها عنه، أو عجزه عن استيعابها. وغاية ما يقال: إن الخبرة البشرية من أهم أسباب المعرفة الحقيقية، وليست سببها الوحيد المشروط. وإذا كانت (الخبرة البشرية) التي تستند إليها المعرفة الإيجابية هي الإنتاج المادي؛ فهذا يعني أن الإنتاج المادي هو الإنتاج للخبرة البشرية! وليس هذا سوى تأليه للبشر بلا ريب، وهو يدفع بأمور:
أولها: أن الإنتاج المادي موضوع لمعرفة بشرية، وليس مؤسساً لكل معرفة بشرية، كما أنه مصدر لمعرفة بشرية وليس مصدراً لكل معرفة بشرية. وبيان ذلك أن الإنتاج المادي من خبرة البشر؛ جزء من العالـم المحسوس، وإنما المصدر لأحكام المعرفة هو العالـم المحسوس كله.
وثانيها: أن الإنتاج المادي حصر للوجود، وليس حصراً لكل موجود.
وثالثها: أن المعرفة البشرية أسبق من الإنتاج المادي، وإنما استجدت المعرفة بإنتاج مادي، لأنه استجد شيء من الوجود. فالماركسيون لم يفرقوا بين وجود ملكة المعرفة وبين إضافة موجود تجدد وجوده.
ورابعها: أننا لم نعرف بأن الإنتاج المادي موجود إلا بأصول المعرفة التي نعرف بها وجود الأشياء قبل وجود الإنتاج المادي. وأما وسائل المعرفة المستجدة من الميكروسكوبات وصواريخ الفضاء فتدل على تجدد موجودات، ولكنها لا تدل على أن ما استجد ويستجد هو معيار المعرفة الإيجابية. وأن المعرفة بغيرها لا تصح لأمور، منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، (وهو لا يملك مجاهر من صناعة البشر)؛ جاء بأخبار لا تزال المجاهر عاجزة عن إدراكها، وبأخبار لم تعرف إلا بالمجهر وصواريخ الفضاء، كالخبر عمن يصعد في السماء منذ مجاوزته الجاذبية؛ فكل هذا وجود ثابت بالخبر الشرعي في دين المسلمين بالنقل المتواتر. ومنها أن فاعلية المجاهر في التقريب والاستكشاف مـحصلة من ملكات معرفة البشر في حسهم وعقولـهم ومن براعة حرفتهم بأيديهم وحركاتـهم، و من موجود مخلوق من حديد وحجر ورمل.. إلخ. والإنسان لم يخلق مواهبه الجسمية والعقلية، ولم يخلق مواد المصنوعات. وما صنعه الإنسان أو عرفه بمجاهره؛ لم يستقل عما وهبه الله إياه من حس وحركة وعقل، ولم يستقل عما أوجده الله له من مادة. والإيمان بفاعلية المجهر مشروط بما تقره ملكة المعرفة البشرية قبل أن يصنع المجهر.
قال أبو عبدالرحمن: ومن المغالطة قولهم: (الممارسة هي بدء عملية المعرفة وأساسها ومعيارها)؛ والصواب أن الممارسة هي بدء إخضاع الشيء للمعرفة سلباً وإيجاباً. وهناك معارف تأتي منحةً بدون ممارسة؛ إلا أن الماركسيين لكفرهم لا تتسع صدورهم لهذا، ولهذا مجال آخر من الحديث. والممارسة هي بدء استخدام عملية المعرفة، فعملية المعرفة نفسها مخلوقة موجودة في الإنسان قبل أن يمارس استخدامها. وعلى هذا لا تكون الممارسة أساساً للمعرفة، وأيضاً فليست الممارسة معياراً للمعرفة؛ ولكنها إحدى الوسائل. والمعيار لصحة المعرفة قوانين العقل الفطرية، وحينئذ تكون الممارسة موضوعاً للمعرفة لا معياراً. ولا ريب أن هدف المعرفة هو تشكيل فكرة صحيحة عن الواقع؛ ولكن ليس من شرط الصحة معاينة الموجود أو معاينة إحدى كيفياته؛ وإنما يعني: معاينة الموجود، أو العلم بوجوده دون معاينته، أو معاينة الكيفية، أو العلم بوجودها. وليس من المسلم به قول الشيوعيين: (إن المعرفة مجرد نشاط نظري إذا لم تلتحم بالخبرة الاجتماعية)؛ بل هي مجرد نشاط نظري برهاني إذا لم يشهد لها الواقع المحسوس، (وهو أشمل من الخبرة الاجتماعية). وبشهادة العالـم المحسوس ننطلق إلى معرفة جديدة بواقع محسوس، أو واقع مغيب. ووصف المعرفة بأنها نظرية؛ لا يعني أنها غير حقيقية، وأن الحقيقة لا تكون إلا من المعرفة الحسية، لأن العلم النظري هو المعيار لصحة المعرفة الحسية؛ وإنما يعني ذلك أن المعرفة معرفتان: معرفة نظرية حسية، لأن المعروف محسوسة كيفيته؛ أو هو نفسه كافة، أو أن معرفته نظرية اضطرارية، لأن المعروف معلوم وجوده، أو وجود كيفيته، وإن لم يتم الإحساس به في نفسه أو كيفيته. ويزعم الحسيون بما فيهم التجريبيون والماركسيون أن المعرفة تبدأ بالإحساس.
 قال أبو عبدالرحمن: لا أعلم لهم حجة إلا تعميق ما زعمه (جون لوك) بأن العقل صفحة بيضاء والحس ينقش فيها معارفه. أي أنه ليس في العقل معرفةً فطرية أولية، وأن مبادئ الفكر وقوانينه مستفادة بالحس. ونقاش الفلاسفة في هذا طويل مستهلك، وموجز دعواهم: أن قانوناً عقلياً كالقول (بأن لكل شيء سبباً) لم يكن قانوناً عقلياً إلا بعد معاينة اطراد الأحداث مع أسبابها. والواقع أن الاطراد أكد القانون ولم يؤسسه؛ لأن كل مفكر في أول تمييزه يحتكم إلى هذا القانون، قبل أن تكون له الخبرة الحسية الكاملة. كما أن كل مفكر طيلة عمره مشدود بهذا القانون على الرغم من أنه لم يـحصِ الأسباب والمسببات في كون الله بحسه. ولا يزال ولن يزال مبدأ السببية شرطاً في صحة التجربة، ومعياراً للملاحظة، ودافعاً إلى إعمال الفرض والنظرية. ويخلط التجريبيون، بما فيهم الماركسيون؛ مذهبهم بنظرية مثالية على الرغم مـما بين المذهبين من بون شاسع. فيزعمون أن الانعكاس الذهني بواسطة الإحساس صورة مثالية لا تنتمي إلى الخارج؛ بل تنتمي إلى النفس العارفة. وهذا وهم وقع فيه عشرات الفلاسفة، لأنه يلزم من هذا المذهب أن الذهن أوجد هذه الصورة ولم يكتسبها، وأن هذه الصورة لا وجود لها في الخارج! بينما الواقع أنه ينطبع في الذهن صور وهمية وصور حقيقية؛ ولكن العقل يفحص المحسوس ووسائل الإحساس، ويفرق بين الحقيقي والوهمي. وأما تمثيل الماركسيين باختلاف الانطباع لدى مصغيين إلى سيمفونيين؛ فهو تمثيل غير موفق لعدد من الأمور، أولها: أن هذا الاختلاف اختلاف في الفهم بواسطة الحكم الجمالي لا الحكم المنطقي، وليس اختلافاً في الإحساس بالصوت. والخلاف هنا عن الانطباع الحسي لا الحكم الجمالي، وخير مثال ما ذكره أبوحامد الغزالي وغيره رحمهم الله تعالى؛ وهو أننا لا نرى انتقال الشمس بالثانية، ولكننا ندركه بقياس الظل؛ فهذا يوهم أن الإحساس لا يمثل الواقع بدقة، وأوضح منه تمثيل المعاصرين برؤية لوحة الخشب ملساء مع أنها بالمجهر ألياف.
قال أبو عبدالرحمن: هذا غير معكر، ولا يعني أن انطباع الإحساس وهمي؛ بل يعني أن حقيقة الماصة أنها ملساء برؤية العين المجردة، وأنها ألياف برؤية المجهر؛ وكلتا الرؤيتين حقيقيتان. وإذن فثمة فرق بين قولـهم: (الـحس يدرك الواقع كما يتبدى له)؛ وبين قولهم: صورة الذهن ذاتية، (يريدون أنها صورة في نفسها ولا تعني شيئاً في الخارج). وهذا مصداق ما أخبرنا به خالقنا خالق الحس والمحسوس جل جلاله: إن الناس يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا. وجعل الماركسيون الإدراك الحسي مرحلةً تلي الإحساس؛ والواقع أن الإحساس هو نفسه الإدراك الحسي. غاية ما هنالك: أن الإحساس، (وهو نفسه الإدراك الحسي)؛ يكون إدراكاً لجانب كانطباع الذهن عن شكل التفاحة، ويكون إدراكاً لعدد من الجوانب كإدراك شكل التفاحة ولونها ورائحتها وطعمها وملمسها. وإلى لقاء في الشهر القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

 

 

ذو صلة