مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الكتابة والقلق وأطياف من الماضي البعيد (13)

 

كنت توقّفت في الحلقة السابقة عند الحدث الأبرز في الحياة الثقافية والأدبية والاجتماعية، وهو رحيل كلٍّ من الرّائدين محمّد سرور الصبّان، وحمزة شحاتة -رحمهما الله-. ولم تفصل بين رحيلهما إلا أيّام معدودة. وحدث ذلك في البلد العربي مصر، في شهر ذي الحجة 1391هـ. وكان شحاتة قد نزح إلى مصر في نهاية الستينات الهجرية. أما الصبّان فكان في رحلة عمل، حيث كان يشغل منصب رئيس رابطة العالم الإسلامي.
وكانت هذه الحقبة قد شهدت أيضاً سجالاً فكرياً وأدبياً بين بعض المشتغلين بالكتابة في الصُّحف، ومن أبرز تلك السجالات ما كان يدور على صفحات جريدة المدينة بين كلٍّ من الأديبين أبو تراب الظّاهري، وأبو عبدالرحمن عقيل. وكان أبو تراب -رحمه الله- يزعم أنّه يملك نسخة خطّية من كتاب (الإيصال) للفقيه ابن حزم الظّاهري، وكان أبو عبدالرحمن يطالبه بالدّليل. ولعلّي أثبت معلومة أخبرني بها أستاذنا في مادّة الأدب العربي في ثانوية أحد بالمدينة المنوّرة، الأستاذ محمود بكر، بأنّ كلاً من أبو تراب وأبو عبدالرحمن التقيا للمرّة الأولى في المدينة المنوّرة في بداية التسعينات الهجرية، وأقامت لهما أسرة الوادي المبارك حفلاً تكريمياً، مع أنّ أكبر أعضائها تأسيساً ومنزلة أدبية وتربوية قد انتقل إلى رحمة الله تعالى في بداية التسعينات الهجرية 1392هـ، وهو المؤرّخ والأديب محمّد سعيد دفتردار. ولا أستطيع الجزم بأنّ كلاً من أبو تراب وأبو عبدالرحمن قد التقيا شخصيّاً للمرّة الأولى في رحاب البلدة الطّاهرة، ومردّ هذا الشك هو أنّه جمعني قبل حوالي عقد من الزمن لقاءٌ مع الشيخ (أبو عبدالرحمن) في منزل الصّديق الأستاذ يوسف عبدالستّار الميمني، عضو مجلس الشّورى السّابق، وذكر أبو عبدالرحمن في ذلك اللّقاء أنّه اجتمع مع والد أبو تراب في مكّة المكرمة، واسمه كما ورد في بعض كتب التّراجم عبدالحق بن عبدالواحد بن محمّد الهاشمي العمري (1303 - 1394هـ). وأنّه -أي أبو عبدالرحمن- تلقّى عنه إجازة في علم الحديث النّبويِّ. وكان الشيخ عبدالحق مدرّساً بالحرم المكّي الشّريف.
كما ذكر الشيخ أبو عبدالرحمن في ذلك اللّقاء بأنّه زار مع أبي تراب الشيخ محمّد نصيف، وسأله عن مخطوطة، فأجابه بأنّه بسبب حالته الصّحية لا يعرف مواضع المخطوطات في مكتبته، التي تعتبر من أهمّ المكتبات الخاصّة في الجزيرة العربية. ومعلوم أنّ وفاة الشيخ النّصيف كانت في عام 1391هـ، ويمكن التدليل على ذلك بأنّ كلاً من الرجلين -أي أبو تراب وأبو عبدالرحمن- قد عرفا بعضهما البعض قبل لقائهما في رحاب المدينة المنوّرة. وربّما أفاد شيخنا الفاضل أبو عبدالرحمن نفسه عن هذه القضية.
واستكمالاً لما كنت قد أشرت إليه من قبل، بأنّ الصّراع الفكري والأدبي بين جيل الروّاد والجيل الصّاعد قد بدأت آثاره في الظّهور، وكانت صفحة الأدب بجريدة المدينة، والتي كان يشرف عليها المرحوم القاص والأديب سباعي عثمان، تحتفي ببعض من إنتاج الجيل الصّاعد، وخصوصاً في فنّ القصّة، والتي كان من أبرز كُتّابها في تلك الفترة: أنور حسن عبدالمجيد الجبرتي، وحسين علي حسين، وسليمان سندي، وعبدالله باقازي، وعبدالله السّالمي، وعلي حسّون، وسواهم. وكان من بين الأسماء الأكثر شهرة من جيل الشّباب هو الأستاذ عبدالله جفري، الذي جمع بين الكتابة الصحافية والكتابة الأدبية. ومازالت الذّاكرة تحتفظ بعناوين الموضوع الذي شارك في كتابته على صفحات جريدة المدينة بعض من جيل الشّباب آنذاك، من أمثال: عبدالله منّاع، الجفري، هاشم عبده هاشم، وعلوي طه الصّافي، إضافة إلى المشرف على صفحة الأدب نفسه، سباعي -رحمه الله-. ومن تلك العناوين المثيرة، والتي تدلّ على الحراك الأدبي في تلك الحقبة: (العوّاد مبخرة لم يبقَ فيها إلا الرّماد، الربيع، اكتفى بقراءة دواوين العوّاد لينقدها، الشخصية الأدبية الوحيدة التي نخافها أو نجلّها هو عزيز ضياء، أبو تراب الظّاهري- عفا الله عنه).
وتعطي هذه (المنشيتات) التي صاحبت نشر ذلك الموضوع انطباعاً بأنّ جيل الشّباب بدأ يبحث عن مكان له في خارطة الأدب. وكان من أهمّ الموضوعات التي كثر الجدل حولها هو موضوع الشّعر الحرّ، مع أنّ بعضاً من جيل الروّاد مثل العوّاد وشحاتة وحسن القرشي، ومن بعدهما محمّد العامر الرّميح وسواه قد كتبوا هذا الضّرب من الشعر.
وامتدّ النّقاش حول قصيدة الشّعر الحرّ ليشمل بضجيجه بعضاً من جيل الأكاديميين، مثل أسامة عبدالرحمن عثمان -رحمه الله-، الذي كان يكتب القصيدة التقليدية بأدوات ووسائل تعبيرية جديدة، وغازي القصيبي -رحمه الله- الذي كان يجيد بإتقان كتابة القصيدة التقليدية، إلى جانب قصيدة التفعيلة. وكان الرّأي النّقدي -وما زال- يميل إلى أنّ من كتبوا القصيدة المحافظة هم الأقدر على كتابة قصيدة التفعيلة، ضاربين الأمثلة ببعض الرّموز الشّعرية المعروفة مثل: نازك الملائكة، وبدر شاكر السيّاب، وعبدالوهّاب البياتي. ومن أفضل الدّراسات التي تعرّضت لقضية التجديد في القصيدة العربية في العصر الحديث، كتاب الباحث S Moreh الموسوم Modern Arabic Poetry 188 - 1970. والكتاب في الأصل رسالة قدّمها الباحث المذكور لمعهد الدّراسات العربية والأفريقية بجامعة لندن للحصول على درجة الدكتوراه، وبإشراف أستاذ الأدب المعروف البروفسور وليد عرفات، الذي كان من ضمن تلاميذه السعوديين في حقبة الستينات الميلادية الدكاترة: منصور الحازمي، حسن باجودة، وحسن شاذلي فرهود -رحمه الله-. ويعتبر تحقيقه -أي عرفات- لديوان حسّان بن ثابت نموذجاً للتحقيق العلمي غير المسبوق.
وعندما انعقد مؤتمر الأدب السّعودي الأوّل في رحاب مكّة المكرمة عام 1939هـ، كانت موضوعاته تقليدية، إلا من بحث قدّمه -فيما أتذكّر- الأستاذ عبدالله الماجد، عن الشّعر الحديث. ومردّ تلك التقليدية إلى أنّ معظم المشاركين في ذلك المؤتمر كانوا من جيل الروّاد.
ولعلّه كان من المثير آنذاك، عندما كنّا ندرس في المرحلة النهائية في قسم اللغة العربية بكلية الشريعة بمكّة المكرمة- أن نشاهد الشخصية الأدبية، والتي تميّزت بكتابة الشّعر والنّثر على حدٍّ سواء، وهو الرّائد حسين سرحان-رحمه الله-، وكان السرحان قد حضر بصحبه العلامة المؤرّخ الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله-الذي كان من أوائل المهتمّين بنشر شعر السرحان، وقام بالإشراف على طباعة ديوانه الأوّل (أجنحة بلا ريش) عام 1388هـ. ويبدو أنّ الشيخ الجاسر قد بذل جهداً مضنياً في إقناع السرحان بنشر إنتاجه الشعري، حيث يذكر في مقدمة ذلك الديوان: (من تلك الحوافز الثلاثة اتصلت بالشّاعر وألححت عليه بأن يجمع شعره، وأن ينشره، فسوَّف ثمّ وَعَدَ ومَطَل، وبعد إلحاح منّي ومطل طويل منه دفع إليَّ دفتراً يضمّ 16 مقطوعة تقع في 269 بيتاً بعد أن نمّق غلاف ذلك الدّفتر (أجنحة بلا ريش)).
وأميل إلى الرّأي بأنّه لولا الجهد المضني الذي بذله الشيخ الجاسر في إقناع الشّاعر السرحان بنشر هذه المجموعة، لربّما ظلّت تلك الإبداعات بعيدة عن متناول الذين كانو يرون في شحاتة والسرحان أسطورة، وإذا كان الديوان الأوّل للسرحان قد ظهر في نهاية الثمانينات الهجرية، فإنّ ديوان شحاتة الشعري لم يظهر إلا بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً، وبمبادرة من سمو الأمير عبدالله الفيصل، الذي سئل في مقابلة تلفزيونية عن الشّعراء في بلادنا فكانت إجابته: الأوّل بينهم شحاتة، وبينه وبين الآخرين كثير، والثاني حسين سرحان، وبينه وبين الآخرين كثير.
ولعلّ الموضوعات تتداخل لدى القارئ في هذه الحلقات، ومردّ ذلك هو أنّ كاتبها يعود إلى الذاكرة فيما يكتب. فلقد ذكرت الشاعر سرحان وحضوره افتتاح مؤتمر الأدباء السعوديين الأوّل برفقة الشيخ الجاسر، إلا أنّنا كطلاب في قسم اللّغة العربية بكلية الشريعة كنا نجتاز الطريق من العزيزية إلى الساحات المحيطة بالحرم المكي الشريف، وفيها تنتشر المكتبات المتخصصة ومن بينها مكتبة الثقافة التي عرفت بحرصها على توفير الكتاب الأدبي، وكان المرحوم السرحان قد اعتكف في داره في المعابدة، وكان يقيم في الدور العلوي من الدار، حيث يطلّ على الحياة من النّافذة، أمّا الدور السفلي فكان مفتوحاً للضيوف والزائرين ممّن يعرفون الأستاذ أو من الغرباء، وكان هناك من يقوم بتقديم كؤوس من الشّاي والقهوة لهم، وتشاء الأقدار أن أركب حافلة الأتوبيس من مقر الجامعة في العزيزية، وكان من محطات وقوفها جهة دار الأديب السرحان، فركب معنا بلباسه البسيط، وكانت محطة النزول واحدة في مكتبة الثقافة، فترجّل الأستاذ، وكانت في انتظاره مجموعة من الصحف والمجلات يعدّها له المسؤول في المكتبة السيّد محمّد عطّاس، ثمّ سلك الطريق إلى حيِّ سوق اللّيل، وكانت تقوم (دكّة) يجلس عليها عدد من كبار السنّ، وكان يتولّى رعايتهم صاحب حانوت ومقهى صغير، رجل من عامة النّاس واسمه (بابا ريّس)، ويظلّ الأستاذ جالساً في ذلك المكان المظلّل إلى قبل صلاة العصر، ثمّ يسلك الطّريق ثانية إلى داره في المعابدة. ولعلّ أحدهم سأله ذات يوم أنّه -أي السرحان- في الوقت الذي لا يميل إلى مخالطة المثقفين والأدباء كثيراً بينما هو يقضي وقتاً طويلاً مع عامّة النّاس! فأجاب: (إنّهم لا يتعبونني بأسئلتهم).
ولعلّ ممّا يستدعي التوقفّ عنده ظاهرة العزلة، أو الانكفاء على الذّات، التي انطبعت بها شخصيات أدبية عديدة في الحقب الماضية، فمبدعون وأدباء أمثال: شحاتة، والسرحان، وسراج خزّاز، وحمد الحجّي، ومحمّد عالم أفغاني، وسليمان سندي، وعبدالله سلامة الجهني، والأستاذين الكبيرين في خاتمة حياتهما الشاعر الكبير محمد حسن فقي، والأستاذ الراوية محمّد حسين زيدان، هؤلاء وسواهم انسحبوا تدريجياً من ساحة الفكر والأدب، وفضّلوا البقاء في دورهم، فهل هو أمر ذاتي محض، يرتبط بحياة بعض المشتغلين في الأدب، أم أنّه لبواعث أخرى ربّما يكون في مقدمتها عدم إيلاء هذه الشخصيات ما تستحقه من تقدير ورعاية وتكريم!

 

ذو صلة