(من يدخل مدينة الحب إما يعود طفلاً يحب كل الأشياء، وإما يخرج منها مسناً لا يدرك إلی أي سبيل يذهب).
نزار قباني
الفنان التشكيلي السعودي الكبير الذي يحمل قلب طفل يحب الحب ويعشق الوطن ويتأمل كل الأشياء حوله في شغف، كما أن له رؤياه في اللون والشكل والفنون، وله أيضاً حياة يعيشها بين أسرته ومحبيه وذكريات الدراسة والرحلات والمعارض التي أقامها، وتلك التي شارك فيها، يغرق أحياناً في بحر الألم من التجاهل، ولكن يقاوم الغرق بالغوص بحثاً عن كنوز المعرفة والثقافة والجديد في دنيا الفن، ويحمل خصوصيته في أسلوب الفراغية التي يعبر من خلالها بصدق عن مشاعره، بتلك الخطوط يصارع ويحب، يفرح ويحزن، ولكن يحيا وهو يحدوه الأمل في رؤية متحف كبير للفنون التشكيلية يليق بهذا الوطن المعجزة الذي أنبت كل تلك المواهب الجبارة.
من أبرز خصائص فن فيصل مفرداته النصية والشكلية، ولعل أهم كلماته النصية التي وظفها في أعماله هي كلمة (حب) وعلامتا (الاستفهام والتعجب)، أما الأشكال التي تعددت داخل لوحاته فنجد منها المسمار والمطرقة والميكرفون، والطائر والنخلة والهلال والشمس والمقاعد ومنصات الخطباء والطائرة الورقية ونادي النصر وخارطة الوطن.
والفنان المشاري يلخص تجربته بالقول: (أستطيع تلخيص تجربتي في هذه الكلمات، وهي أنني كفنان تشكيلي عندما أشرب كوباً من الماء فإنني لا أرسم الكوب ولكن أرسم الماء، أي عندما أشاهد نخلة فإن الذي يلفت نظري فيها هو الشكل، وحين تهب عليها نسمة هواء ويتطاير سعفها في الهواء فإن الذي يلفت نظري فيها هو المعنى الذي يحوّل النخلة إلى امرأة يجعل من سعفها شعرها ومن جذعها جسدها. لذلك فإنني لا أرسم الشكل ولكن أرسم المعنى. ولكن كيف أورد الشكل مورد المعاني؟! هذا هو دور الفن، والفن أسلوب، والأسلوب شكل، وكل فنان يرسم شكله).
ولأنه دارس للفن في أمريكا وفرنسا، وتجول في العديد من المعارض والمتاحف حول العالم يستطيع التلخيص والإيجاز في تعبيراته ولوحاته التشكيلية، ما يعني أن لديه قصدية في وضع مفرداته الشكلية. يقول: (الطبيعة في لوحاتي تأخذ بعداً معاصراً، والمعاصرة غالباً ما تتخذ الطابع الفراغي، أي الواقعي حد الفراغ. لهذا اخترت لها مسمى (الفراغية). فالطبيعة برمتها لم تعد الطبيعة كما هي، وإنما الطبيعة الدلالة، الطبيعة الإيحاء. فإن صلتي بالطبيعة تكشف فن تجليات الطبيعة، بل إن هذه الصلة تكشف عن حبي لهذه الطبيعة التي أجسدها بعدة أبعاد وأشكال لا تقف أمام الشكل الخارجي لهذه الطبيعة، ولكن ترتبط بما بعد ظواهرها أي أعماقها. والفراغ في لوحاتي صريح ومباشر، ولكنه من النوع الذي لا يفهم دون فهم (القصدية والمضامين). ومضاميني عامة ذات اتجاه إنساني مباشر وعميق، حيث إن الفكر الذي تحمله لوحاتي هو فكر عن الحب والجمال).
ومن اللافت في فكر الفنان فيصل المشاري أنه لا يعدم وسيلة من الوسائل للتعبير عن ذاته وطموحاته وأفكاره، ومن الفيسبوك وتويتر اتخذ مكاناً ومقعداً يتحدث من خلاله إلى متابعيه وعشاق فنه. وعن تويتر يقول: ما أجمل حرية ذلك العصفور التويتري على صغره وضعفه حين نزع وتر العود وصعد به إلى السماء لو بقي حبيس آلته لما سمع تغريده العالم!
هذا الطائر جاء من أقصى خيال طفولة فنان إلى بيادر وبساتين وحقول الشعر والثقافة والأدب ليبني عشه ومشروعه الحضاري على صفحات جريدة محلية، وفاءً ورسماً طوال سبعة عشر عاماً ملأ فضاءها وسماءها تغريده، انتهت (بالقتل المعنوي)، ووجد عالمه في تويتر لو بقي على أسطح صفحات الصحافة لم يسمعه أحد!
ولأن تلك الدراسة النقدية تبحث في بوح الفنان من خلال كتابات تويترية؛ يسترجع أمامها ذكريات طفولته فيقول:
في طفولتي لم أشاهد (ميكي ماوس) ولم ألعب بالألعاب المصنعة التي يلعب بها الأطفال اليوم، كنت أحب اللعب بطائرة ورقية صنعتها بنفسي وكانت صناعتها متعة والإمساك بقطعة الورق الصغيرة بخيطها والركض بها عكس اتجاه الريح في شوارع أبها وجبالها وفوق صخورها وجبالها لتطير في الهواء، ورؤيتها وهي تصعد وتهبط على حسب قوة الرياح حتى تستقر فوق بعيداً بعيداً في السماء؛ متعة أخرى، وبعد ذلك جعلتها تدخل في لوحاتي بأسلوبي الخاص، كم أحببت تلك الطائرة! كما أدخلت معها شخصية الطفل (أبو شوشة) فكانت سلسلة من اللوحات تتناول هذه الفكرة. وكما أدخلت الطائرة الورقية في لوحاتي فقد أدخلت النبيطة ضمن عناصري في اللوحات التي رسمتها في فترة متأخرة من تجربتي الفنية، مستوحاة من ذكريات طفولتي، فقد كانت لدي في صغري هواية غريبة بعض الشيء، وهي البحث في شجر الطلح المنتشر بكثرة في مدينة أبها عن النبيطة تسمى (فغوة)، وكانت تتكون من عودي خشب متلاصقين على شكل الرقم سبعة أو حرف V، ونحن صغار كنا نبحث عن هذا الشكل في شجر الطلح كرمز عن جودة النبيطة، وكان يتطلب منا البحث فيها عن هذا الشكل المتناسق والدقيق عبر كثير من الأغصان المحملة بالأشواك إلى حد أنه يتطلب مني الوصول إلى هذا الشكل في الشجرة لتكسير كثير من الأغصان وأحياناً إلى الشجرة بأكملها ولا يبقى منها إلا جذعها الذي نحفر عليه التاريخ والاسم كشاهد على ذلك الإنجاز يسجل لنا في ذلك المكان وفي نفس الوقت شهادة على حصولنا على الشكل (سبعة) من ذلك المحترف في الطبيعة، وكم كانت صعبة وشاقة جداً هذه الرحلة بين الأغصان والأشواك للوصول إلى الشكل المطلوب لعمل نبيطة، وبعد أن أحصل عليه أشعر بنوع من الانتصار بحصولي على هذا الشكل الجمالي، وكنت أشاهد أثر هذا المجهود على وجوه أطفال الحي، ولم أكن أعلم أن هذا الشكل يعبر عن النصر، وهذه العلامة هي التي جعلتني فيما بعد، عندما انتقلت الأسرة إلى الرياض، أعشق نادي النصر الذي لفت نظري رئيسه المرحوم الأمير عبدالرحمن بن سعود.
وعندما اشتد عوده وأصبح ابن ستة عشر عاماً، وفي الصف الثالث من الدراسة المتوسطة (الإعدادية)، أقام معرضه الشخصي الأول عام 1976م، ولهذا المعرض قصة تحدث عنها بالقول: (لن أنسى لقائي الأول في مرحلة الشباب برئيس لجنة الفنون التشكيلية في جمعية الثقافة والفنون بالرياض الأستاذ المرحوم محمد السليم، في ذلك المساء من عام 1975م، فقد كنت في تلك الأيام أتابع الصحف والمجلات باهتمام بالغ، ومنها عرفت نشاط الجمعية. وعرفت أن هناك فناناً تشكيلياً كبيراً هو محمد السليم، مسؤول النشاط التشكيلي بالجمعية. كان السليم وقتها عائداً من إيطاليا، وكانت الجمعية ترحب بأي فنان موهوب، وتسعى لمساعدته، وفي تلك الأثناء كان يشغلني هاجس إقامة معرض شخصي لأعمالي، فذهبت لمقابلة محمد السليم. وفي ذلك المساء من عام 1975م، وعمري 16 عاماً؛ كنت ما أزال في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، ولم أكن أملك سيارة بعد، ذهبت لمقابلته مشياً على الأقدام من بيتنا في حي السليمانية إلى مبنى الجمعية في مقرها القديم في حي المربع، مروراً بشارع المطار، وأذكر أنني توقفت في طريقي عند محل (موكا) أيام عزه بشارع المطار القديم طريق الملك عبدالعزيز حالياً، وتناولت (ميلك شيك وكرواسون)، وكان في تلك الفترة يعد من علامات التمدن والرقي، حيث لا يوجد به كراسي ولا طاولات، وكان مرتادوه يتناولون الوجبات والعصيرات وقوفاً. وعندما وصلت الجمعية كان الوقت قرب صلاة العشاء، فوجدت رجلاً يهم بالخروج فاستوقفته وسألته عن محمد السليم فقال لي: أنا محمد السليم، ماذا تريد؟ فعرفته بنفسي وعن رغبتي بإقامة معرض شخصي، وكم كانت سعادتي وأنا أخطو خطواتي الأولى في طريق الفن التشكيلي، وطلب مني رؤية لوحاتي فما كان مني إلا أن دعوته لزيارة مرسمي الصغير، وقد لبى دعوتي دون تردد، وفي تلك اللحظة أخذني في سيارته ذات اللون الذهبي (البونوفيل موديل 75) إلى بيتنا ودخل مرسمي واندهش عندما شاهد لوحاتي، وبدأ يعد من واحد إلى ثمانية وعشرين، حيث اختار (28) لوحة من بين أعمالي، وقال إنه سيقيم لي معرضاً بهذه اللوحات. بعد عدة أشهر كان المعرض الأول الذي تبنته جمعية الثقافة والفنون على شرف الأمير فهد بن سلطان، نائب الرئيس العام لرعاية الشباب، أمير تبوك حالياً، وافتتحه نيابة عن سموه الأستاذ عبدالرحمن العليّق مدير الشؤون الثقافية السابق برعاية الشباب، عين فيما بعد مديراً لمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، وقد حضر المعرض والدي رحمه الله، وفنانون تشكيليون وصحفيون وإعلاميون والتلفزيون السعودي وزملائي في المدرسة. كما صاحب المعرض صدور كتالوج اشتمل على صورتين من لوحاتي ومقدمة كتبها الفنان المرحوم محمد السليم، ذكر فيها أنني كنت أول فنان تشكيلي سعودي متعاون مع الجمعية، فقد كتب -يرحمه الله- في كتالوج المعرض: (من أول وهلة ترى فيها شخصاً تستطيع أن ترى شيئاً معيناً من مميزاته الشخصية، فببساطة فناننا الشاب قد لا ترى فيه الحماس والجرأة والشجاعة، والاندفاع، أن ترى إنساناً هادئاً مسالماً بسيطاً، يصل إلى مرحلة السذاجة، وعندما دعاني إلى مرسمه البسيط وجدت عكس ذلك، وهو ما ذكرت اندفاع وشجاعة وحماس إلى التعبير بإخلاص للفن التشكيلي، وجدت المرسم وكأنه ورشة فنية قد هيئت له خصيصاً، فتجد في كل زاوية مجموعة من الأعمال بين أكوام من علب الألوان والأوراق المرسومة، وكأنك تحس أن هذا الشخص خلق لهذا الشيء. إنه شاب لا يزال في مقتبل عمره، ومع ذلك فهو في عمره الفني أكبر بكثير من عمره الزمني.
فتهنئة لوالديه اللذين أتاحا له هذا الجو، وتهنئة لبلدنا ولفننا التشكيلي بانتماء شاب سيرفع في المستقبل من قيمة فننا السعودي. وتحية للزميل الشاب فيصل عيسى المشاري. ولجنة الفنون التشكيلية بالجمعية يسرها أن تعرض أعماله كأول شاب متجاوب بصدق وإخلاص مع الفن، وهي تدعو الشباب من أمثاله لإبراز إنتاجهم حسب خطة عملها في تشجيع الفن والفنانين السعوديين).
فقد كانت مرحلة تحول أخرى في حياته الفنية بدأت من هذا المعرض عام 1976م. وقد أثبت الفنان الراحل محمد السليم بحدسه العميق أنه كان يقرأ خطوط المستقبل على راحة الفن التشكيلي السعودي، ولو لم يكن مقتنعاً بتجربته لما قام في الجمعية بتبني معرضه، ويسجل له في هذا المجال الريادة. فقد شق بشخصيته دروباً جديدة من دروب الفن التشكيلي.
مجموعة (المطرقة والمسمار) باكورة أعماله في الفن الرقمي الذي شاع بين الفنانين منذ ظهور برنامج الفوتوشوب عام 1994، ويعد المشاري أحد مؤسسي الفن الرقمي بالسعودية، أو من أوائل من اشتغلوا على الفن الرقمي باستخدام برنامج هو بالأساس لمعالجة الصور.
اكتشف مساره الخاص في صحراء بياض اللوحة الخالي الذي اختار لها مسمى (الفراغية) التي توحي بمعنى الصحراء، وتعني تفريغ اللوحة من الواقع ورسم واقع آخر للفنان، أي من خلال مشاعره، وهي صدى الصوت الذي يرده المكان الخالي إذا صوت فيه حين ينتهي مدى عين البصر، ويبدأ دور عين البصيرة في امتداد رؤية تورد الشكل مورد المعاني!
كما أن المشاري يتأثر جداً بالأمثال والحكمة والمعاني الإنسانية، نجد هنا المثل الروسي (إن كان قلبك وردة فكل ما يخرج من فمك يكون معطراً!) يجعله يعتني بالأوراق عموماً وبأوراق الأشجار بشكل خاص بين أن يرسمها حباً أو فارساً يقاتل، وتلك مجموعة سماها (الورقة).
هذا هو المواطن الغيور على وطنه والفنان الذي يحمل داخل صدره قلب طفل يبتسم، أو يبكي ويصرخ أحياناً، يتذكر والده عيسى المشاري -يرحمه الله- وحياته وطفولته وشقاوته ونادي كرة القدم (النصر) الذي ينتمي إليه، ومطربه المفضل طلال ويدندن أحياناً أغانيه، وحتى مربيته السيدة عائشة جيلان -يرحمها الله- التي ودعها قبل سفره لأمريكا عام 1980م بزيارة لمسقط رأسه في حي الجبل بجازان، فيصل المشاري فنان يستحق كل التقدير.