مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بين الجهالة والشتات

هناك جهات ناشطة في مجال المخطوطات العربية تعنى بها عناية فائقة حفظاً وترميماً ونشراً، وعلى رأسها مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة للشيخ والصديق الفاضل جمعة الماجد حفظه الله، الذي يردد في عبارة لا تخلو من شفافية الطرح والعفوية والرغبة الأكيدة في الحفاظ على المخطوطات والعناية بها بقوله حفظه الله: (أنا مسؤول عن ترميم أي مخطوط في العالم). وقد نفذ بعض ما وعد به في كثير من الجهات العربية الحافظة وقام بترميم ما لديها من مخطوطات تحتاج للترميم بصفة عاجلة. لكن الأمر حقيقة أبعد من ذلك، فكل جهة لابد أن تكون على مستوى هذه الحماسة التي تصب في صالح حفظ المخطوطات الأصلية، ثم الصيرورة إلى ما بعد الحفظ والترميم.

‏ونحن هنا لا ننكر جهد المراكز الأخرى التي أخرجت نوادر المخطوطات في كافة أقطار العالم العربي في المشرق والمغرب، لكن إيراد المثل هنا كدلالة على حماسة من يتولى أمرها، والجهد الذي يبذله إزاءها.
‏والاهتمام أيضاً لابد أن يكون على إخراج ما يمكن إخراجه من المخطوطات بشكل أكاديمي مهني يليق بمؤلف المخطوط وأهمية ما كتب، والمسؤولية تقع على الجامعات العربية التي مازال الكثير منها لا يعتد بالمخطوطات كرسائل للماجستير والدكتوراه.
‏والأمر الذي يدعو للغرابة أن الفائدة متحصلة في عنونة الرسائل بعبارة (دراسة وتحقيق) فهذا العنوان لأي رسالة سوف يحقق فائدتان: إخراج مخطوط من قمقمه الورقي المحفوظ إلى كتاب متداول يقرأ لكافة الباحثين، فضلاً عن دراسة أكاديمية يُراعى فيها كل ما يتعلق بالمخطوط وعصره، ومؤلفه، وأهميته، وتحليل مادته مقارنة بغيره من المؤلفات، وغير ذلك مما تتطلبه حرفية التحقيق.
‏والفائدة الثانية هي نيل الدرجة العلمية المناسبة التي تقاس بإجادة التحقيق والدراسة، وإن كانت هناك ملاحظات بدت يتم استدراكها من خلال لجنة المناقشة التي تشكل لهذا الغرض. فالهدف بهذا النسق قد تحقق في مثالي إخراج المخطوط والاستفادة منه. والأمثل بعد ذلك أن تتولى الجامعات طبع تلك الرسائل طبعات تكفل انتشارها بين الباحثين الذين بحاجة ماسة إلى مطالعتها والاستفادة منها.
ومن خبرتي بالتطواف على مراكز المخطوطات الحافظة لها أن العديد من الجهات لا ترقى إلى المستوى المثالي للحفظ، ولا الترميم، وبذلك يخشى على النسخ الخطية من التلف، وبخاصة أن الحفظ والحاجة الماسة للترميم هما أولويتان لا يمكن تجاوزهما بحال.
والأمر الذي يلاحظ أيضاً أن بعض الجهات مازالت لا تملك فهارس يعتد بها، أو أن فهارسها غير مكتملة في توصيفها، وهذا يضيف أيضاً جهالة لما تملكه، وبخاصة فيما يتعلق بالمجاميع التي تحتوي في ثناياها على أكثر من مخطوط، فالبعض يقصر الأمر على ذكر المخطوط الأول أو الأشهر دون الباقي.
‏ويزيد الأمر جهالة وتغييباً عن الباحثين أن بعض الجهات لا تدرج تعمداً في فهارسها أسماء ما لديها من نوادر المخطوطات، رغبة في منحها فيما بعد لمن يتولى تحقيقها من الباحثين الذين يعملون لصالحها، وتمر السنين تلو السنين ولا أحد يتصدى لتحقيق تلك المخطوطات، فتظل قابعة في خزائنها دون مبرر ولا فائدة متحصلة.
‏ ولا يقف الأمر أيضاً على الجهات الرسمية المعروفة بالحفظ والتحقيق والنشر، فالكثير من المخطوطات توجد في مكتبات خاصة قد يمتلكها العارفون وغير العارفين، ويزيد الأمر سوءاً وجهالة عندما تؤول تلك المخطوطات إرثاً متوارثاً لمن لا يقدر قيمتها ولا فائدتها، فإن المهمة تغدو أكثر صعوبة في الوصول إليها.
‏ يقيني أن الأمر برمته يتطلب جهة عربية مسؤولة تقوم بمهمة معرفة العدد الحقيقي من المخطوطات لكل جهة حافظة لها وعناوينها، وأن تساعد تلك الجهات في فهرستها، ورصد ما تحقق منها وما لم يطله التحقيق، وهذا لعمري مناط بمعهد المخطوطات العربية والجهات التي تماثلها مثل اليونسكو والأيسيسكو وما ماثلها من الجهات المناط بها هذا الأمر.

ذو صلة