متعة مطالعة المخطوطات ومعالجتها تحقيقاً وفهرسة ونشراً، هي متعة اختص الله بها ثلة من خلقه، بذلوا في سبيل ذلك نفائس أموالهم، وأنضر سني عمرهم، ويعد أبو الطب النفسي في السودان د. التجاني الماحي، من أهم صائدي المخطوطات العربية والإسلامية والإنسانية، وقد أهدى مكتبته الخاصة من المخطوطات إلى جامعة الخرطوم، ما جعلها من أهم الجامعات التي تحظى برصيد ضخم من الآثار الإنسانية التي قل نظيرها في العالم، فبعض هذه المخطوطات لا توجد منها غير النسختين والثلاث، وقد بُذل له كرائم الأموال من أجل شرائها، ولكنه كان يعلم أن قيمتها لا تضاهى بالمال، فهي الآن أحوج ما تكون إلى الاهتمام والتحقيق والنشر.
لقد اشتهرت مزادات اللوحات الفنية العريقة لأمهر الرسامين حول العالم، من أمثال دافنشي وبيكاسو، وقد تدفع مقابل اللوحة الواحدة مئات الآلاف من الدولارات، ذلك أن الحضارة الأوروبية، والثقافة كذلك، قد قدرت الفنون قدرها، فبالغت في تقديسها، واقتنائها. ما جعل التزييف والتزوير رائجاً في مضمار التراث الفني. وهو المعضلة الكبرى التي تواجه جامعي المخطوطات حول العالم، فما أكثر النسخ الزائفة، التي بُذل في سبيلها طائل الأموال! ما جعل أكثر المخطوطات الحقيقية عرضة للإهمال والتلف، بل وكثير منها يُباع بأبخس الأثمان، لأن من آلت إليه من الوراث لا يعرف قيمة الكنز الذي بين يديه.
إن من أصعب الأمور حصر المخطوطات العربية حول العالم، وقد بُذلت في سبيل ذلك مجهودات مقدرة من كثير من الدول العربية، كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، وغيرها من الدول التي تسعى لحفظ الهوية العربية وتراثها من الضياع. ولكن الثراء الفكري المكتوب باللغة العربية يجل عن الحصر، ذلك أن أمماً كثيرةً أسهمت في هذا التراث، وسعت إلى حفظه والتمسك به. فهنالك ملايين المخطوطات العربية حول العالم، بل ما من أمة ذات إرث حضاري وثقافي إلا وهي تمتلك كنوزاً من المخطوطات العربية.
إذا نظرنا إلى دول مثل: تركيا، والهند، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وكثير من دول غرب أفريقيا، لعلمنا إلى أي مدى هي حريصة على حفظ هذه المخطوطات، والتي تمتلك منها أعداداً يصعب تحقيقها خلال عقدين من الزمان.
على المستوى الشخصي ما زلت باحثاً عن مخطوطة ديوان الشاعر الأموي الأوسي الأحوص الأنصاري. فمنذ قرأت أشعاره وسيرته في كتاب الأغاني، وأنا مفتون بشاعرية تكاد تختلف كل الاختلاف عن صرها الذي وُلدت فيه. وقد بذلت وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، وأنا أبحث وأنقب في المكتبات والمواقع الإلكترونية، لأجد إشارة واحدة عن إمكانية العثور على ديوانه، وباءت جميع محاولاتي بالفشل، على الرغم من اضطلاع عدد من الباحثين الكبار بتحقيق ديوانه، أمثال عادل سليمان جمال، الذي حققه أكثر من مرة، وكذلك فعل إبراهيم السامرائي، وكذلك فعل غيرهما. غير أن جميعهم لم يقف على مخطوطة الديوان. وربما كانت آخر إشارة تدل على وجود مخطوطة هذا الديوان في القرن السادس الهجري، وهي إشارة ابن ميمون، صاحب منتهى الطلب (ت 597هـ)، وذلك من خلال انفراده بعدد من مطولات قصائد الشاعر، بصورة لا توجد في أي مصدر تراثي آخر.
الذي قرأ التراث العربي يُدرك أن كثيراً من المؤلفين قد كان ينقل الصفحات الكاملات عن غيره من العلماء، وأكثرهم يُشير إلى الكتاب أو المؤلف، فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى منهج أبي الفرج الأصفهاني في سفره الضخم، الأغاني، لوجدناه يشير كثيراً بقوله: حدثني، وأخبرني، وكثير من هذه الأخبار والأحاديث إنما هي مخطوطات كانت في عصره، لأعلام مشهورين، ولكتبهم شهرة وذيوع كذلك. وهذا الصنيع الذي كان يصنعه العلماء، قد أفاد أيما فائدة في حفظ كثير من الكتب في بطون كتب أخرى، وقد عمد المحققون إلى استلال كثير من الكتب من بطون كتب أخرى، لصعوبة العثور على المخطوط الأصل، وهذا الفرق الدقيق نجده كثيراً في دواوين الشعر العربي، فعندما نجد: (ديوان الشاعر الفلاني، جمعه وقدم له فلان الفلاني)، فهي إشارة إلى أن الديوان ليس من مخطوطة تخصه، وإنما تم جمعه من بطون كتب التراث، التي تستشهد بشعر الشاعر، وتنسب القول إلى قائله. بينما عندما نجد (ديوان فلان الفلاني، تحقيق فلان) فهي إشارة إلى وقوف على مخطوط للديوان، قد يقابل بنسخ أخرى، إن وجدت، أو يتم الاكتفاء بالنسخة الواحدة، ومقابلتها بما ورد من شعر مبثوثاً في كتب التراث الأخرى.
يكاد يكون أمر حصر المخطوطات العربية مستحيلاً، لكثير من الأسباب، أهمها تلف كثير من المعلومات الأساسية لأكثر المخطوطات، إذ تكون هوية المخطوط في صفحاته الأولى. بجانب كثرة هذه المخطوطات وتفرقها في أنحاء العالم. وثمة سبب يخص المخيلة العربية وثقافتها، وهي عدم إيداع هذه المخطوطات في دور الوثائق التي أنشئت لتحفظ ذاكرة الأمم وهويتها. فحبذا أن تشيع في الناس ثقافة إيداع مخطوطاتهم الشخصية، أو ما توارثوه، في دور الوثائق، ليسهل الأمر على الباحثين.
يزداد الأمر صعوبة في كثير من الدول التي تعاني من شح الموارد التي تعين على تثقيف الناس بأهمية المخطوطات، وأهمية المحافظة عليها. وكم سطر الباحثون في الأدب السوداني مثالاً لا حصراً من منعهم من تحقيق بعض المخطوطات المهمة، أو مطالعتها. ما يجعل كثيراً من المؤلفات التي كان أصحابها أحياء حتى منتصف القرن العشرين، تدخل في زمرة المخطوطات النادرة. وبين يدي وصديقي الدكتور الأصم بشير التوم عدد من مخطوطات ديوان الشاعر محمد عثمان جرتلي (1925 - 1983م)، نعمل على تحقيقها منذ عام، وفي كل مرة نقف على نسخ جديدة ومختلفة من القصائد. ما أظهر لنا مشقة أمر تحقيق المخطوطات.