كان من أكثر وجوه التعب والعَنت والمعاناة التي واجهها المشتغلون بتحقيق التراث ونشره، قبل أن تتطور وسائل الاتصال؛ هو الحصول على نسخ مصورة من الأصول التراثية التي يعكفون على تحقيقها ودراستها، وما يبذلونه من جهد ومال ووقت طويل في المراسلة مع دور المخطوطات لأجل ذلك.
وفي مقدمات التحقيق التي تتصدر الكتب التراثية المحققة خلال القرن الماضي نماذج عديدة من الجهود الجبارة التي بذلها المحققون الأوائل في هذا السبيل، وربما اضطر بعضهم للسفر آلاف الأميال لزيارة المكتبات وفحص نسخها أو البحث في فهارسها وتصوير المخطوطات بعد تعذر المراسلات أو ضياعها.
وتغير الحال بعد ثورة التقدم التكنولوجي وتطور وسائل الاتصال التي أزالت الحواجز بين الدول والأمم والشعوب، وقرَّبت البعيد. وكانت المخطوطات محاطة بأسوار المكتبات وخزائنها المنيعة، فطالتها وسائل الاتصال وجعلتها في متناول الجميع.
لقد ساهمت ثورة الاتصال في توفير المحتويات المتعلقة بالتراث والمخطوطات على صفحات الإنترنت، ووفرت مادة غنية في الإشارة إلى النسخ المخطوطة وعرض نماذج منها والتعريف بما يطبع محققاً من التراث، فيسَّرت بذلك على الباحثين وخفَّفت من المعاناة التي عاناها أسلافهم.
ومنذ عام 2005م تقريباً درجت بعض المكتبات ودور المخطوطات -في أوروبا خصوصاً- على إتاحة نسخ إلكترونية من محفوظاتها لاطّلاع الباحثين، وقدمتها بجودة عالية لا تتهيأ في الوسيلة المتبعة سابقاً بالتصوير من الميكروفيلم، مثل المكتبة الوطنية بباريس، ومكتبة جوتا والمكتبة الوطنية ببرلين، والمكتبة النمساوية بفيينا، ومكتبة جامعة كامبيريدج ببريطانيا، وجامعة ييل، وجامعة برنستون، والمكتبة الرقمية بميونيخ (ألمانيا).. وغيرها الكثير. وأُنشئت مكتبات رقمية خاصة بالمخطوطات، بل إن المكتبة الرقمية بميونيخ التي تحمل رمز MDZ لا تتيح لك معاينة المخطوط وتنزيله فقط، بل توفر لك إمكانية البحث عن أي كلمة أو جملة داخل المخطوط ذاته، وهو أمر ملفت في تطور استجابة الحواسيب والبرامج الإلكترونية مع النص العربي الذي يأخذ فيه الحرف العربي أشكالاً مختلفة بحسب نوع الخط وطريقة النسّاخ، ويزداد الأمر صعوبة في التعامل مع الخطوط المغربية والأندلسية التي لها بصمة خاصة، لا يتهيأ لبعض الناس قراءتها وتفكيكها.
وتبعاً لذلك، فقد كثرت المنتديات العربية المتخصصة بالتراث المخطوط، وعملت على تنزيل هذه المخطوطات وعرضها على القراء، وتقديم وصف عام لطبيعة النسخ ومحتوياتها، مثل موقع ودود للمخطوطات، وملتقى أهل الحديث للمخطوطات.. وغيرهما.
وتطور الأمر قبل بضع سنوات بإنشاء قنوات خاصة بمقتنيات دور المخطوطات على بعض منصات التواصل الاجتماعي، مثل برنامجي تليجرام وميجا، وهي تتيح خاصية الاستعراض الفوري وتنزيل المخطوطات والمواد المحمّلة عليها بسرعة فائقة وجودة عالية وبصورة شديدة الوضوح، وأصبحت مكتبات كاملة مكونة من آلاف المخطوطات متاحة على شاشة الحواسيب والهواتف النقالة، إضافة إلى كمية كبيرة من الأرشيف العثماني على تنوعه، وسجلات المحاكم الشرعية التي غدت متداولة على الإنترنت لإطلاع العوام فضلاً عن الباحثين، وتحظى سجلات النفوس ووثائق القبائل ودفاتر الأشراف وغيرها بالرواج والتداول بحثاً عن الأسر وأفراد العائلة.
لقد ساهم التقدم العلمي في رواج المخطوطات وانتشارها، وأنتج آثاراً محمودة وفوائد كبرى لا تخفى، ويسَّر على الباحث مهمة تحصيل المخطوطات، سواءً تلك المتاحة على المواقع الإلكترونية للمكتبات، أو بطلبها من المكتبات مباشرة، فيتم إرسالها بالإيميل.
إن توفر النسخ المخطوطة وكونها في متناول الجميع، وتقريب المصادر التراثية وتوفيرها لغايات البحث والدراسة، مع توفر البرامج الخادمة التي تحتوي على المصادر والمراجع مثل المكتبة الشاملة وغيرها، إضافة لتطور برامج قراءة النصوص وإمكانية تحويل النص المخطوط إلى صيغة الوورد (كما هو الحال في المكتبة الرقمية بميونخ)؛ كل ذلك قدّم خدمات كبرى للمحققين، وهو أمر لا يمكن إغفاله أو إنكاره، ولا يقدره إلا من عانى البحث في المصادر لتخريج النقول من مظانها، أو تخريج الأحاديث النبوية والأشعار، أو التعريف بالأعلام المكانية والبشرية.
مثلما وفَّرت وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات العلمية فرصة للتشاور بين الباحثين في شؤون التراث المختلفة، وتبادل المعرفة حول نسخ المخطوطات وأماكن وجودها وصحة نسبتها لأصحابها، من خلال المجموعات الخاصة بتحقيق التراث؛ فيقوم بعض الباحثين أو الطلبة بوضع صور من النصوص المخطوطة التي استعصى عليهم قراءتها ويبادر مَن له معرفة بالمخطوطات لتقديم المساعدة.
وكما هو الحال في أثر التكنولوجيا على مناحي الحياة الأخرى؛ فإن لها مساوئ وأضراراً، ومما يخشى ضرره أن يتصدر لنشر هذا التراث مَن لا يعرف الأسس العلمية في التحقيق وفق الأصول التي قررها أهل الصناعة، ويكون توفر هذه المخطوطات وانتشارها بين أيدي الناس محفزاً لفاقدي الأهلية العلمية والمعرفة الكافية للعمل على طباعة الكتب التراثية وإخراجها غير محققة وفق الضوابط العلمية، وعلى وجه غير لائق، فيكون عبثاً بالتراث وتشويهاً للإرث الحضاري الذي تركه الأجداد.
ويزداد الأمر سوءاً مع غياب النقد والمراجعة لما يُطبع! وكانت المؤلفات عموماً بما فيها النصوص التراثية المحققة عرضة للمراجعة والنقد ضمن المجلات العلمية، وبلغت بعض المناقشات للأعمال المحققة جانباً كبيراً من القسوة، مثل النقد القاسي الذي وجهه علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر ـ يرحمه الله ـ تجاه أحد الأعمال المحققة، ونشره في حلقات متتابعة على صفحات مجلته العرب بعنوان: (الدكاترة والعبث بالتراث)، لقد وفَّرت هذه السُّنة الحميدة جانباً من المحاكمة الأدبية للمشتغلين بالتراث، ومن المؤكد أنها كانت في اعتبار المحققين عند عملهم في إخراج النصوص التراثية، ومما يؤسف له توقّف مثل هذه المراجعات في أيامنا هذه، وأصبحت الكتب المحققة تصدر بطبعات متعددة دون أن تقع المساءلة، وجُل ما ينشر حولها في الصحف وبعض المجلات هو من قبيل التقريض والمديح.
وبرزت مؤخراً ظاهرة المتاجرة بالنسخ الإلكترونية من المخطوطات، ويتم تسويقها على وسائل التواصل الاجتماعي، مع تقديم خدمات أخرى تتضمن نسخ المخطوطات وإعداد الدراسات حولها! والزبائن -في العادة- هم من طلبة الدراسات العليا، وبخاصة في مرحلة الماجستير.
إن المخطوطات العربية والإسلامية، باعتبارها تراثاً مادياً، ومنجزاً علمياً، تحتاج إلى حفظ كرامتها عند التعامل معها، وحُسن صورة تقديمها وخدمتها، وحمايتها من العبث والجرأة عليها، بكثرة الأصول المتاحة بين أيدي الناس وتوفر وسائل الطبع والنشر.