مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المخطوط العربي تجربة ورؤية

اهتم الغرب بالمخطوط العربي ودراسته وتحديد مصطلحاته من الناحيتين المادية والنصية، وهما ما أطلق عليهما علمي الكوديوكولجي Codicology وعلم الباليوغرافيا paleography، أما الأول فيهتم بالمواد والطرق المستخدمة في صناعة المخطوط وتجليده من الناحية الأثرية المادية البحتة، وغالباً ما يشار إلى هذا العلم باسم علم أثرية الكتاب Archaeology of ،Book أما الثاني فهو ما يهتم بالنص وخوارجه، ويهدف إلى دراسة الخطوط القديمة، ومحاولة فك رموز المخطوطات القديمة وقراءتها. هذا وأيضاً لا نغفل علم الفيلولوجيا Philology وهو علم الاعتناء بالنصوص القديمة بالدراسة والنقد والتحقيق والضبط، ابتداء بالنصوص اليونانية واللاتينية فالشرقية العبرية والفارسية والعربية. وظهر في العالم العربي مصطلح علم الاكتناه وهو باختصار شديد علم يجمع بين علمي الكوديوكولجي والباليوغرافيا وهو أوسع معني من هذين العلمين.

ومن هذا المنطلق وعلى هذا التقسيم العلمي الأكاديمي جاءت تجرية مكتبة الإسكندرية من خلال مركز المخطوطات ومتحف المخطوطات بقطاع التواصل الثقافي، وهي تجربة متكاملة تخدم العملية التراثية الكاملة بالمخطوط، بدءاً من استلامه إلى حفظه حفظاً متحفياً سليماً، هذا مع الأخذ فى الاعتبار تحقيق المعادلة الصعبة وهي حفظ المخطوط وعدم تداوله بالأيدي، وفي نفس الوقت إتاحته للباحثين. وبالطبع استخدام التكنولوجيا الحديثة لرقمنة المخطوطات وإتاحتها مع إظهار نوادر المخطوطات بالعرض المتحفي اللائق، ولهذا تم تقسيم الهيكل الإداري لمركز ومتحف المخطوطات على مسارين، الأول يهتم بالجانب العلمي والأكاديمي لدراسة النص وفهرسته وتحقيقه وإقامة الفعاليات العلمية والأكاديمية التى تخدم الباحثين فى التراث العربي، والمسار الآخر هو ما يهتم بكل ما يتعلق بالجانب الكوديوكولجي للمخطوط وطريقة عرضه وحفظه فى بيئة مناسبة، فينقسم مركز المخطوطات على قسيمن: قسم المخطوطات الأصلية، وأهم أعماله تتمثل في إعداد فهارس تحليلية بمحتويات المجموعة الخطية التي تملكها المكتبة، وكذلك تقديم الخدمات البحثية للمترددين إلى قاعة الاطلاع الملحقة، فهو يضم مجموعاتٍ متنوعةً من المخطوطات منها: المخطوطات الأصلية، وعلى رأسها: مجموعةُ مكتبة بلدية الإسكندرية التي تشمل أكثر من ستة آلاف عنوان. أما القسم الثاني فهو قسم الدراسات الأكاديمية والفعاليات، ويهتم بجمع وترجمة وتحرير الدراسات العلمية الجادة الرصينة المتعلقة بالتراث العربي الإسلامي، بكل تجلياته، كما يهتم القسم بالإعداد والإشراف على جميع الفعاليات العلمية والأكاديمية التي يعقدها المركز، مثل الدورات التدريبية المتخصصة، والمؤتمرات العلمية، والندوات، ودورية المركز المحكّمة والتى صدر منها إلى وقتنا الحالي خمسة أعداد، هذا بالإضافة إلى الموقع الإلكتروني.
واستكمالاً لما طرأ على المركز من تكريسٍ لتوجُّهه الأكاديمي؛ أُنشئت وحدة فهرسة وتحقيق المخطوطات المصورة، سواء كانت ميكروفيلم أو رقمية، وتضم مجموعة من الباحثين المختصين بفهرسة المخطوطات العربية والإسلامية وتحقيقها، وقد قاموا بفهرسة مجموعات خطية كاملة مثل مجموعة دير الإسكوريال بإسبانيا. واستعانت بهم مؤسسات علمية عالمية كبرى في فهرسة مجموعتها الخطية. وتقدم الوحدة خدمة الاطلاع على مصورات المخطوطات وإتاحتها للباحثين.
ورؤيتنا أن يتم تحقيق المخطوطات النادرة تحقيقاً علمياً، ونشر هذه التحقيقات بالتعاون مع المراكز والمؤسسات العلمية ودور النشر الكبرى. وكذلك جمع الأبحاث النادرة المنثورة في بطون الدوريات العلمية الخاصة بأحد أعلام الدراسات التراثية العرب أو الأجانب المهتمين بالتراث العربي، وترجمة ونشر أحدث الدراسات الأكاديمية وأعلاها رصانةً فيما يخص مباحث وفروع التراث العربي والإسلامي كافة، وكذلك نشر وتحرير الفهارس الخاصة بالمجموعة الخطية بالمكتبة، وعقد المؤتمرات البحثية والدورات العلمية المتخصصة التي تخدم جمهور المهتمين بدراسات التراث العربي والإسلامي. هذا وقد خُصصت قاعة الاطلاع للمخطوطات الأصلية والمصورة مع التشديد على الإجراءات الوقائية فى معاملة المخطوطات وتوفير أمهاتِ المصادر التراثية المطبوعة التي يحتاج إليها الدارسون والباحثون في شتَّى مجالات العمل التراثي، والاطلاع على المصادر، والمراجع، والفهارس المتاحة بداخل القاعة الخاصة بالمخطوطات وعلى جميع استفسارات الباحثين.
فكانت الرؤية من هذه القاعة الاطلاع على الفهارس الورقية وقاعدة البيانات الإلكترونية التى تم تصميمها وتنفيذها داخل المكتبة لتكون أشمل قاعدة بيانات فى العالم، من حيث الحقول، ومناسبة لطبيعة مخطوطاتنا العربية، وإتاحة خدمة تصوير المخطوطات والمراجع التراثية (ورقي - رقمي)، وأيضاً للرد على استفسارات الباحثين وتقديم الخدمات المرجعية والبحثية لهم. ولإتاحة كافة الأوعية والمصوَّرات للباحثين المتخصصين والتى تجاوزت مئة ألف عنوان مصور.
أما المسار الآخر والخاص بكودوكولوجيا المخطوطات فهو متمثل فى متحف المخطوطات والذي يتميز بطابع ثقافي أكاديمي عملي تعليمي، إذ إنه يضم بين جنباته أقساماً مختلفة تتميز بالنهج المعرفي العلمي المتطور. والرؤية كانت تتركز فى تكريس جميع الجهود لخدمة الزائرين والباحثين والمتدربين. وأن نهدف إلى التعريف بالذخائر التراثيَّةِ ونوادرِ المخطوطاتِ والكتبِ وحفظِها والعناية بها بشكل علمي سليم، وذلك لجميع الفئات العمرية. ويهدف أيضاً إلى التعاون والتبادل العلمي في مجالِ المخطوطاتِ مع المتاحف والمراكز المناظرة في دول العالم. ويهتم متحف المخطوطات بتطوير وتدريب الكوادر البشريَّة في مجال الحفظ المتحفي وترميم المخطوطات والعمل على نقل الخبرات في مجال الترميم والحفظ البيئي إلى صغار المرممين في المؤسسات الإقليمية والدولية، لصنع جيلٍ من المرممين الجدد يقوم بدوره داخل مؤسساته التي يعمل بها، من خلال الدورات التدريبية وورش العمل، وهذا ما نفتقده بشدة فى وقتنا الحالي، لذا أنشئ قسم الصيانة والترميم حيث يقوم قسم الصيانة والترميم بالحفاظ على التراث بواسطة مجموعة من المختصين في أعمال الترميم الذين تم تدريبهم وإعدادهم داخل مصر وخارجها، ليقوموا بهذا العمل وفقاً للمفاهيم والمعايير الدولية. وقد أصبح بذلك من أهم المراكز المعنية بالترميم في مصر والشرق الأوسط. ويضم القسم ثلاث وحدات: وحدة صيانة وترميم المخطوطات، ووحدة صيانة وترميم الكتب النادرة، ووحدة التدريب على الترميم تخدم مصر والمتدربين من جميع أنحاء العالم مع الشريك الأساسي فى عملية الحفاظ وهو قسم الحفاظ والضبط البيئي. حيث يقوم القسم بعمل المعالجات الكيميائية والميكروبيولوجية الخاصة بالمخطوطات، ومتابعة ظروف الحفظ الوقائي في أماكن الحفظ والعرض، هذا بالإضافة إلى تصنيع الألياف المستخدمة في عمليات الترميم الآلي. وعلى صعيد آخر رأينا أن الميكروفيلم والرقمنة من أهم الوسائل التي تُستخدم في حفظ المخطوطات والمطبوعات النادرة والوثائق المهمة، التي يخشى ضياعها أو تلفها مع كثرة التداول ومرور الزمن. وتعد الوسيلتان يسيرتين لعملية الاطلاع على المخطوطات والوثائق المصورة دون المساس بأصولها. وقد أنشئ قسم التبادل والأرشيف إثراءً للمحتوى الرقمي من المخطوطات والقيام بعمليات تبادل نُسخ المخطوطات مع الجهات الأخرى المعنية بهذا الشأن لإثراء المكتبة بكلِّ ما هو جديد ونادر من المخطوطات في مختلف العلوم. كما يقوم القسم بإتاحة أكبر قدر منها للباحثين والمتخصصين، وذلك من خلال عدة مشروعات، منها مشروع الأرشيف الرقمي للمخطوطات، ومشروع جمع المئة ألف مخطوط.
ويضم القسم وحدتين رئيستين: وحدة التصوير والمسح الضوئي للميكروفيلم، ووحدة التبادل والأرشيف الرقمي. تقوم الوحدة الأولى، وحدة التصوير والمسح الضوئي للميكروفيلم، بتحويل نُسَخ المخطوطات الميكروفيلمية والفيش إلى نسخ رقمية باستخدام أحدث الأجهزة في هذا المجال حتى يتيسَّر للباحث الحصول عليها في صورةٍ رقميةٍ أو ورقية. وتقوم بعمل نسخ أخرى بديلة للأصول الميكروفيلمية، للحفاظ عليها من التلف نتيجة لكثرة التداول، وكذلك تصوير المخطوطات الميكروفيلمية على نسخ ورقية لخدمة الباحثين. وقد تم تزويد الوحدة بأحدث أجهزة النسخ والمسح الضوئي التي تجمع بين السرعة في الأداء ووضوح الصورة، مما يُيسِّر للباحثين سهولة الاطلاع
فى النهاية كان لابد أن يتم عرض نوادر المخطوطات بشكل علمي صحي ونقوم بالتعرف بالمجموعات الخطية فجاء قسم الإرشاد المتحفي لتقوم مجموعة العمل بقسم الإرشاد المتحفي بتقديم الجولات الإرشادية بقاعة عرض المخطوطات والكتب النادرة، وتحتوي القاعة على حوالي مئة وخمسين مخطوط وكتاب نادر من أندر ما تحتويه مكتبة الإسكندرية تم تقسيمها وفقًا للعلوم. بالإضافة إلى المقتنيات النفيسة، والجداريات المنتقاة لصور المخطوطات والمنمنمات.
والمستمدة من قسم الكتب النادرة والمجموعات الخاصة والذي يضم القسم قرابة ستة عشر ألف كتاب نادر، يرجع تاريخ أقدمها إلى عام 1482م، بالإضافة إلى عدد من الخرائط النادرة والمقتنيات الشخصية والأوراق الخاصة بكبار المؤلفين ومجموعة من الوثائق المهمة والطوابع والعملات. ويقدم القسم خدمات بحثية متميزة للباحثين والدارسين، ويقوم بعمل فهرسة للكتب والدوريات، بالإضافة إلى إعداد قوائم ببليوجرافية وكتيِّبات عن أهم محتويات القسم للتعريف بمحتوياته. ويحتوي القسم على العديد من المجموعات المهمة التي يصل محتواها إلى أكثر من خمسة وثلاثين ألف كتاب، وأربعة وخمسين ألف عدد من دوريات مختلفة. وترجع أهمية هذه المجموعات إلى أهمية مُهديها أو مقتنيها الأصلي.
ومن ثم فإنها تجربة بدأت منذ أكثر من عشرين عاماً وفق رؤية استشرافية يحتذي بها، تجربة متكاملة تجري وفق معايير دولية، بداية من دخول المخطوط وتعقيمه وتصويره رقمياً وفهرسته ودراسته وترميه وعرضه وحفظه.

ذو صلة