مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

التراث المخطوط في بلاد الاغتراب

تفتخر أمم الأرض بما ورثته من تراث مكتوب يحفظ تاريخها ومعارفها وذاكرتها الأدبية والعلمية والحضارية. وما من أمة أنتجت تراثاً مكتوباً محفوظاً إلى الآن كالأمة الإسلامية. ولما كانت اللغة العربية هي الوعاء الحاوي للنتاج الفكري والعلمي للشعوب التي دخلت الإسلام فإن ما كتب بالعربية لا يمكن أن يرصد بسهولة، فقد استطاعت العربية التعبير عن كل ما أراد المبدعون كتابته، وابتدأ التأليف بالعربية منذ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري؛ فوضعت مؤلفات في كل مجالات المعرفة الإنسانية، من النفس البشرية إلى الأجرام السماوية، مروراً بما لا يعد ولا يحصى من العلوم والمعارف.

إن ما وصلنا من التراث العربي المخطوط لهو بعضٌ مما ألف وكتب، فقد خسرنا كثيراً من ذلك التراث حينما تعرضت أجزاء من العالم الإسلامي لويلات الحرب والاحتلال والاقتتال والغزو والتدمير والتحريق والانتقام. (مثال ذلك: الغزو المغولي، سقوط الأندلس، الغزو الأمريكي للعراق)، ناهيك بما أتلفته العوامل الطبيعية المناخية والحيوانية (حشرات، عث، قوارض) جرّاء سوء الحفظ والخزن، يضاف إلى ذلك ما تعرضت له هذه الثروة الإنسانية من عمليات سرقة (منظمة، وشخصية، ورسمية، وتجارية، وفردية، وجماعية، وإهداءات جائرة، وغير ذلك من ضروب تسرب المخطوطات العربية إلى بلاد الشتات).
وعبر كثير من الطرق والوسائل والقنوات وصلت المخطوطات العربية إلى مكتبات العالم، بل وتكدست في بعضها بأعداد هائلة، وبخاصة في مكتبات العواصم والمدن الأوروبية: ليدن، برلين، لندن، دبلن، فينا، باريس، روما، بطرسبورغ، والولايات المتحدة الأمريكية مثل برنستون والكونجرس. وقد رأيت بعيني ضخامة الأعداد في ليدن، وجستربتي، وسيلي أوك، وبرلين، وباريس. وهنا لا بد من كلمة حق نقولها عن حسن الحفظ والتخزين والخدمة لمخطوطاتنا في هذه المكتبات وحمايتها من السرقة وعوامل الضياع والفقدان، حيث مرت منطقتنا العربية بكثير من أوقات الصراع والاقتتال والاحتراب بين أطراف متنازعة مع عدم تقدير لأهمية تلك المخطوطات، فذهبت هي وكثير من الآثار المتحفية إلى أيدي تجار العاديات وهواة جمع التحف القيمة، ولعلّ أبرز مثال على ذلك ما حدث في العراق واليمن وليبيا وبعض أنحاء أفريقيا الغربية المسلمة.
وبغض النظر عن الأهداف التي دفعت المستشرقين للاهتمام بمخطوطاتنا، والتي تتراوح بين أهداف علمية بحتة يمكن أن توصف بالسامية، وبين أهداف أخرى لا تخلو في أحيان من الخدمات الاستخباراتية! أقول بغض النظر عن حقيقة الأهداف فقد حظيت الأصول الخطية لكثير من الكتب باهتمام بالغ؛ فنشروها منذ وقت مبكر نسبياً مع ما قام به العرب أنفسهم من نشر تراثهم المخطوط.
ولا يظنن ظان أن الكم الهائل من المخطوطات العربية المتناثر في أقطار الأرض والمفهرس بفهارس وجداول هو كل ما سلم من آفات الزمن، بل هناك الكثير الكثير الذي لم يرصد إلى الآن، حيث تحتفظ بعض الأسر والمكتبات الخاصة ومقتنو الكنوز والتحف بعدد كبير من المخطوطات، وهم يضنون بها عن النشر أو الفهرسة لما يعتقدون أنه إرث شخصي خاص بهم أو لأسباب أخرى خاصة بهم، ولا أنسى ما رأيته من المخطوطات والوثائق عند إحدى الأسر اليمنية العريقة من ذوي اليسار في إحدى قرى اليمن خلال زيارتي سنة 1992، وهي غير مرصودة ولهم رأي في ذلك، وكذلك مشاهدتي لصناديق من المخطوطات عند بعض الأسر العلمية في مدينتي بخارى وسمرقند عند زياراتي المتعددة لجمهورية أوزبكستان وكانت أولاها سنة 1994. كما أننا نسمع بين الفينة والأخرى عن مكتبات شخصية غير مرصودة في تركيا والهند وبعض أقطار أفريقيا جنوب الصحراء. وأنا أعرف شخصياً عائلات ورثت بعض المخطوطات بل والوثائق أيضاً تزين بها غرف منازلها باعتزاز وفخر لتستدل بها على عراقة نسبها وحسبها وماضيها.
لكن الاستشراق بصورة عامة أخذ يذوي في معظم أرجاء العالم، وبالتالي فإن الاهتمام بالمخطوطات العربية نَزر، وبقيت المخطوطات حبيسة المخازن والمتاحف ودور الحفظ، لا يطرق بابها -في الأعم الغالب- إلا ورثتها وأحفاد زمنها الآفل، ينشدون نصاً فريداً، أو مادة جديدة لاستكمال بحث أكاديمي لنيل شهادة علمية. أما المستشرقون فهم الآن قلة قليلة، بل نحن نحيا الآن أواخر عصر الاستشراق، ويكفي أن نعلم أن أقسام اللغة العربية، وكراسي اللغة العربية وآدابها في الجامعات الهولندية آخذة في الانكماش والإغلاق (جامعة نايميخين مثال ذلك)، وقد شهدنا رحيل ما يمكن اعتباره الجيل الأخير والمهم منهم؛ فاهتمام العالم اليوم لم يعد مرتبطاً بجذورٍ أو ماضٍ مهما عظم ذلك الماضي، وإنما ينبهر هذا الجيل بما يسمى العالم الافتراضي؛ فيقفز قفزات سريعة تذكرنا بما شرحه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في نظريته لتفسير نشوء الحضارات، التحدي والاستجابة، حيث يرى أن المجتمعات حينما تتعرض للتحدي الطارئ، فإنها تستجيب له بثلاثة أساليب مختلفة: إما هروب للماضي، وإما طيران للمستقبل، وإما استجابة هادئة متزنة هي المطلوبة، حيث تؤدي الاستجابتان الأخريان إلى التخلف الاجتماعي.
ومع وجود توصيات ومقترحات كثيرة صدرت عن المؤتمرات والندوات التي عقدها متخصصون بالمخطوط العربي أجد أن أهم خطوة تخدم المخطوط العربي هي إصدار فهرس شامل يحتوي محتويات كل دور الحفظ والمكتبات المختلفة، يوثق كل المخطوطات العربية في العالم، وفيه وصف واف لكل مخطوط؛ فيوثقه ويبيّن أهميته ويكون دليلاً ضافياً لمن أراد المعرفة عن أي مخطوط كان، كما أن التركيز يجب أن ينصب على وضع آلية لرصد المجموعات الخاصة غير المرصودة وغير المفهرسة بطريقة ترضي أصحابها، مع إمكانية استفادة الباحثين منها في رفد المعرفة الإنسانية. ومن الأهمية أن نطلب دعماً أكبر لمشروعات تحقيق المخطوطات ونشرها نشراً علمياً لائقاً. كما أرى أن المؤسسات الدولية كاليونسكو يجب أن تبذل اهتماماً أكبر في هذا المجال، وخاصة لمؤسسات حفظ المخطوطات للدول النامية، وأن تتحمل مسؤوليتها في باب حفظ التراث المادي للشعوب؛ فهي مسؤولية علمية إنسانية يجب أن يضطلع بها الجميع.

ذو صلة