مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بلاد الحجاز في رحلات المغاربة

تعرّف الرحلة بأنها (الانتقال الفعلي في الزمان والمكان)، وفي تعريف أوجز هي (حكاية السفر). وقد برَّز الرحالون المغاربة فيها، ممارسة وكتابة، فرحلوا ودوّنوا رِحْلاتهم منذ القرن الهجري السابع، وبرعوا خصوصاً في الرحلات الحجازية أو الحجية التي ابتغى بها الرحالون أداء الفريضة أولاً، إذ (لا يوجد في تاريخ الإنسانية موقع جغرافي حجّ إليه ملايين البشر في كل جيل مثل الجزيرة العربية، ولا يوجد موطن استقطب حس الإنسانية في طموحاتها الفكرية وتطلعاتها الروحية مثل الحجاز، الوطن الروحي الأول لكل مؤمن). ثم الاغتراف ثانياً من معين العلوم والأخذ عن الشيوخ وتبادل الأسانيد والإجازات. وقد جلَّت هذه الرِّحْلات مناحي الحجاز من منظور الرحالين باعتماد المشاهدة. ومن أبرز هذه الرحلات:
- أُنْس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب، لأبي عبدالله القيسي الشهير بالسرّاج والملقب بابن مليح، حج عام 1040هـ.
- تعداد المنازل الحجازية أو التعريف والإيجاز ببعض ما تدعو الضرورة إليه في طريق الحجاز، لأبي سالم العَيّاشي، حج عام 1068هـ،
- ماء الموائد، له، حج عام 1072هـ.
- المعارج المرقية في الرحلة المشرقية، لمحمد بن علي الرّافعي الذي حج عام 1096هـ.
- هداية الملك العلّام إلى حجّ بيت الله الحرام والوقوف بالمشاعر العظام وزيارة النبي عليه الصلاة والسلام، لأبي العباس أحُوزي الهَشْتوكي، حج عام 1096هـ.
- الرحلة المقدّسة، لمحمد المرابط بن محمد الدِّلائي الصَّنْهاجي.
- رحلة حجازية، لمحمد بن أبي القاسم ابن القاضي.
تعدّ الرحلة العياشية سنة 1072هـ عمدة الرِّحلات، إذ عليها متكأ الرحّالين اللاحقين في معرفة المسالك والممالك والمناسك، فضلاً عن رحلة أنس الساري لابن مليح السابقة عليها. وفي فلك هاتين الرحلتين سيدور المقال، ساعياً إلى استشفاف رؤيتيْهما للحجاز خلال الفترة المذكورة.
الحجاز بين عامي (1040- 1042هـ)
درج الرحّالون المغاربة على سلوك طريق الشرق (الجزائر فليبيا ثم مصر) للوصول إلى الحجاز، وقد اختار هذا الرحالة سلوك الطريق الصحراوية. يقول محقق الرحلة: (وتعتبر هذه الرحلة فريدة من نوعها، لأن صاحبها قصد الحجاز على طريق الصحراء، مخترقاً بلاد درعة وتوات وتديكلت (...)، وهو يصف المراحل التي قطعها في الصحراء المغربية إلى أن وصل الفزان، ثم تابع السير قاطعاً البلاد الطرابلسية إلى أن دخل القطر المصري). وسنقف مع مشاهد من رحلته تنبئ بمنظوره من خلال:
مشاهد من الرحلة
يصف الرحالة المنازل التي مرّ بها وهي: ينبع، بدر، رابغ، الجحفة، خليص، عقبة السكر، عسفان، وادي الشريف، سبيل الجوخي، ثم مكة أخيراً التي قال عنها: (ثم دخلنا مكة شرفها الله تعالى يوم الجمعة السابع من ذي الحجة السنة المذكورة).
ويقدّم وصفاً للركب الحجازي وقت دخوله إلى مكة ممزوجاً بعواطفه الجياشة تجاه مكة المكرمة، يقول: (فكان دخولنا إليها من كداء الثنية التي بأعلاها، والأصوات تصافح المسامع بالتلبية، والألسنة تضج بالرغبات والأدعية، فلو رأيتهم نفعنا الله بهم، حين طبقوا الآفاق بالتلبية والتكبير، وتمجيد العلي الكبير، واستعلوا تلك الربى الفاضلة ربوة ربوة، وسعوا بأفضل مسعى بين الصفا والمروة، وطافوا للقدوم بالبيت الكريم، ووقفوا بالمُحصَّب العظيم، ودخلوا الحجر ابتغاء الفضل الأعود، واستلموا الحجر الأبيض المسمى بالأسود، فيا له يوماً طرز به العمر، وانشرح له الصدر، ووضع فيه الوزر، وأجزل الثواب والأجر).
كما يصف مشاهدته للكعبة المشرفة في قوله: (وحين حمدنا السرى، وصلنا إلى أم القرى، وعلمنا أننا أضياف الله فظفرنا منه بحسن القرى، وتبدت لنا الكعبة الغراء في أستارها، وتجلت لنا المليحة بأنوارها). ويعبر عن رؤية الكعبة بلسان الشعر في قوله على لسانها:
إليَّ إليَّ يا عشّاق حُسني
فكأسُ وِصالِها قد دارَ صِرْفًا
وقامتُ دونَكُمْ وَصْلي وقُرْبي
وقد سعدتْ عيونٌ قد رأتها        
فهذا الوقتُ وقتٌ لا يُضاهى
وشمسُ جَمالِها أَبْدَتْ سَناها
تحلّوا تُحْرِزوا عِزًّا وَجاها
وقد شقيتْ عيونٌ لا تراها
يركّز الرحالون على لحظة الدخول إلى مكة، ولحظة رؤية الكعبة، مازجين ذلك بمشاعرهم، ففي الرحلات الحجازية (لا يتم تقديم الأمكنة إلا من خلال مكان مركزي، والمكان المحوري (...) هو الكعبة المشرفة، فإليه تشد الرحال، ومنه تتم قراءة الأمكنة المنتشرة في مشارق الأمة الإسلامية ومغاربها).
وينتقل الرحالة إلى وصف المناسك التي أدّاها بمعيّة الحجاج من طواف وسعي ووقوف بعرفة، ومنها انتقال بعضهم إلى المدينة المنورة، يقول: (فأول منزلة نزلناها، ودار كرامة حللناها، وادي الشريف عشاء، فنادى أمير الركب بالمحلة ألا وإن الرحيل نصف الليل، فخذوا في أهبته من سقي الماء وغيره. فما تم نصف الليل حتى رحلنا، وجد السير باقي ليلتنا، وغدونا إلى أن وقفت الشمس واشتد الحر. فنزل الركب للمقيل، لقوله: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل). ثم سرنا إلى المغرب فما نزلنا ببئر عسفان المتقدم الذكر إلى نصف الليل على العادة، ثم استقينا الماء ورحلنا لقديد ثم منه لرابغ، ثم مرحلة صحرا، ثم سبيل حسن، ثم لبدر، ثم للجديدة، مدشر عامر أحدثت به أجنة من أنواع الفواكه صيفية وخريفية، اجتمع ذلك كله في الوقت، ذات عيون جارية، فتزودنا من ثمارها، وأخذنا من مياهها، ثم لقبور الشهداء).
هكذا مرّ الركب في طريقه إلى المدينة بمنازل عديدة وهي: وادي الشريف، بئر عسفان، قديد، رابغ، سبيل حسن، بدر، الجديدة، آبار علي، وادي العقيق. وفي ذكره لها يقدم أحياناً أوصافاً طبيعية وجغرافية واقتصادية، وفي ذلك إعانة للحجاج اللاحقين على السفر إلى الحجاز وأداء المناسك.
ويتكرّر فيض مشاعر الرحالة عند رؤية المدينة في مشهد شبيه برؤية مكة، يقول: (فمن هناك تراءت لنا أعلام المدينة الغَرّا، ولاحت للناظرين الروضة الكريمة كأنها في سماء الفخر كوكب الزَّهْرا، وشاهدنا نوراً خارقاً للعادة إشراقه، وعزَّ على ضوء النيرين لحاقه، وطاب إصباحه وإغباقه، وعرفته البصائر قبل الآثار، لما لاح على مرقبة الاشتهار، فسرحت طَرفي في ذلك الأفق خيالاً، وأرسلتُ دمعي سجالاً).
ويتوسّل الرحالة بالشعر للظفر بروعة المشهد في قصيدة منها:
الله أكبرُ حَبَّذا إِكْبارُهُ
لاحتْ معالمُ يثربٍ ورُبوعُها
هذا النخيلُ وطيبةٌ ومُحمدٌ
هذا المصلّى والبَقيعُ وها هنا
هذي منازلهُ المقدّسةُ التي
هذي مواضعُ مَهبِطِ الوحي الذي        
لاحَ الهدى وبَدَتْ لنا أنوارهُ
مَثْوى الرسول ودارُهُ وقَرارُهُ
خيرُ الورى طُرًّا وَها أنا جارُهُ
رَبْعُ الحبيبِ وهذه آثارهُ
جبريلُ رَدَّدَ بينَها تَكرارهُ
تَشْفي الصدورَ من العَمى أسْطارهُ
هدية السلطان
يتوقف الرحالة عند هدية السلطان المغربي الوليد بن زيدان السعدي إلى المدينة، وهي عادة درج عليها المغاربة، يقول: (والهدية حسكتان من عسجد، مركبتان على يواقيت من زبرجد، وزن كل واحدة منهما أربعة أرطال من ذهب، وحسكتان خالصتان من فضة خالصة، وزن كل واحدة منهما عشرة أرطال، وصندوقان مملوءان بشمع العنبر، الذي مثله لم يبصر، وعشرة آلاف من الذهب المطبوع، ورسالة وقصيدة عجيبة التركيب، بارعة الإطراء (...) فتح له باب الروضة فدخل حتى وضع جميع ذلك بداخل الروضة، ووضع الرسالة والقصيدة، بعد فض ختامها، وقرئت بمرأى سيد البشر، بمحضر أهل البدو والحضر).
إرفاق الهدية بالقصيدة عادة درج عليها المغاربة منذ عهد الدولة المرينية فظهر غرض شعري سمّي بـ(الحجازيات). كما زار الرحالة مسجد قباء وأُحُداً وروضة الصحابي الجليل حمزة والبقيع، ووقف بمشاهد طائفة من الصحابة والأئمة، أمثال: العباس بن عبدالمطلب وعثمان بن عفان والحسن والحسين ومالك بن أنس ومحمد الباقر ومحمد بن الحنفية.
كما يقدّم انطباعه الذاتي عن المدينة المنورة، الصادر عن معاينة، وهو انطباع عاشق للمكان، يقول: (والمدينة المكرمة متسعة الأرجاء، مشرقة الأنحاء، طيبة الهواء، كثيرة النخيل والماء، حسنة الترتيب والبناء، لم أر قط أنور من رباها، ولا أعبق من شذاها، ولا أشرق من ضياها، ولا أطيب من نورها، ولا أرقّ حاشية من أديمها، ولا أعلق بنياط القلب من أرجها وشيمها).
توديع المدينة المنورة
يبرز الرحالة مشاعره إزاء لحظة توديع الركب للروضة النبوية، يقول: (وودّعنا الروضة الشريفة المكرمة، والتربة المقدسة المعظمة، يوم الإثنين السابع من المحرم من السنة المذكورة بعد صلاة الظهر، فيا له وداعاً، ذابت له الأجساد، والتهبت به الأكباد، وكاد يتصدع له الجماد (...) إنه لموقف تنتزع فيه الأرواح انتزاعاً، وترى الخلق من هوله سراعاً، كل يقاسي مرارة مذاقه، ويبوح لربه بأشواقه، ولا طاقة لأحد على تجرع كأس فراقه).
يطغى على لحظة التوديع ألم الفراق، لكن سلوة الرحالة في طِيبةِ أهل طَيْبةَ الذين أحسنوا في تشييعهم مخففين عنهم، يقول: (فخرج أهل المدينة مشيعين لنا كباراً وصغاراً، باكين متحسرين على انفصالنا عنهم بعد الألفة الأيامَ القلائل، وخوفاً علينا من غوائل الطريق لأننا شرذمة قليلة، وعصابة يسيرة، لانفصالنا عن الركب التونسي وهو ركب كبير، وذهب معه جل أصحابنا، وبين محط محلتهم والمدينة، أعراب تنهب الرفاق، وتأكل الرماق، فتوادعنا وانفصلنا عنهم، ولسان الحال يقول:
لِسَانِي يُمَجِّدْكُمْ وَقَلْبِي يُحِبُّكُمْ
وَلا نَظَرَتْ عَيْنِي مَليحاً سِواكُمُ
ولوْ قيلَ لي: مَاذا عَلَى الله تَشْتَهي؟
لقلتُ: رِضا الرَّحْمن ثمَّ رِضاكُمُ)
هكذا قدّم الرحالة في رحلته معطيات مهمة، منها:
-تاريخية: تاريخ الأمكنة المَزُورة وحضارتها، وبخاصة ما تعلق بمكة والمدينة.
- جغرافية: وصف المسالك والتضاريس والغطاء النباتي ومواطن الماء، والمنتوجات الزراعية.
- اقتصادية: وصف حركة الأسواق والمعاملات التجارية.
- اجتماعية: وصف الجماعات المارّ بها في رحلته، عاداتها وتقاليدها.
- ثقافية: مشاعر الرحالة تجاه الحرمين، ووثق فيها ثروة شعرية تجلّي تعلق المغاربة بالحجاز.

ذو صلة