إنه لما كان الشعر ديوان العرب، والشيح والقيصوم ظلالهم، وبيوت الشعر أوطانهم، هيأ الله لهم الكلام نباتاً لألسنتهم كي يكون النبع وما سواه الغَرَب، فجاء الشعر الشعبي ليكون الوعاء الذي يحتوي كل مكونات الأمة بوعيها التاريخي من فن، وفكر، وعلم، وأدب، وفلسفة، وهو بهذه الأركان يشكل هويتها ووجدانها.. شخصيتها وعنوان بقائها أمام كل التحديات للحفاظ على هويتها قبالة الغزو الثقافي، والهيمنة الحضارية، فالشعر الشعبي يحمل في طيّاته عادات وتقاليد شعوبها من خلال الاطّلاع على مضامين إرثها الشعبي؛ لقياس مدى عراقة شعوبها، وعمق وجودها الحضاري، وتطورها على مرّ القرون.
لعلّ من أهم وظائف التراث في الحياة أن يكون موصولاً بالمعاصرة مع ما يترتب على ذلك من توطيد الصلة بين العادات، والتقاليد، والقيم الحميدة من جهة والحداثة من جهة أخرى، فإماطة اللثام عن التراث وبعثه من مرقده هو الطريق نحو فهم المستقبل وإعادة تشكيل أمجاد الغابرين من الأجداد، وتوطيد الصلة بيننا وبين دوائرهم المعرفية، ومعارفنا المستخدمة وفاء لهم، ولتاريخ أمتنا.
ونحن لا يمكن أن نشعر بقيمة أنفسنا إلا إذا اعترفنا بقيمة غيرنا وبفضلهم لأن وجودنا من وجودهم، فإذا أردنا أن نحافظ على حاضرنا من أجل بناء مستقبل أفضل، علينا أن نوجّه دراساتنا نحو مضامين الشعر الشعبي لتحقيق الوحدة الثقافية التي نراها في دواويننا واستراحاتنا.. أفراحنا وأتراحنا.. من المحيط إلى الخليج ممثلة بسيرة (عنترة، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي)، وسيرة العظماء من أجدادنا.
إن الموروثات الشعبية كالقصص، والملاحم، والسير، والحكايات، والأمثال، والنوادر ليست عامل فرقة أو عناصر تفتيت في البلاد العربية بل هي من أبرز عوامل الائتلاف والوحدة، وإذا نظرنا إلى تراثنا بعيون مفتوحة على ثقافة العصر، أمكننا أن نعرف قيمة هذا التراث بلا مبالغة، وأن ننقده بلا خجل، وأن نعيشه بلا جمود، فنجدد ونبتكر، ولا نقف عند حدود المحافظة على القديم أو تقليد الوافد، وذلك أن إعادة تفسير الماضي، في ضوء حاجيات الحاضر، وتطلعات المستقبل، تحيل كتلة الماضي إلى زخم يدفع الحاضر نحو المستقبل. فالأمة التي تعتز بذاتها وأصالتها تطمح لأن يكون لها شأن بين بقية الأمم، فتبذل قصارى جهدها من أجل رصد مكوناتها التراثية كون التراث هو الينبوع الذي ترتوي منه فئات المجتمع كافة حينما يتوجّد حاضرها على ماضيها لبناء مستقبل مشرق. (كتوجد الحوار على الناقة).
ها نحن ننظر حولنا فنجد مجتمعاتنا تمر بمرحلة تطور متسارعة مع فقدان لهويتنا مع تسارع الغزو الثقافي لهذه الأمة، وما جمع التراث ودراسته وتوثيق مادته بجميع أشكاله إلا واجب على كل غيور لا يريد انعدام الصلة بالماضي، يأسره الحاضر بكل متغيراته حتى تنعدم الرؤية لمستقبل مشرق أمامه.
لست هنا بحاجة إلى دليل على ما لشعرنا الشعبي من ميزات وخصائص تربطه بأصله العربي الفصيح، ولا أظنني أجد منكراً من أن الشعر الشعبي قدّم فوائد جليلة في مناح عدة من حياتنا سواء في مجالها التاريخي، أو الأدبي، أو الاجتماعي، وهو لا يقل في أهميته عن الشعر الفصيح الذي تتالى عبر العصور، حيث إن الشعر النبطي حمل صفاته الممثّلة بأغراضه الشعرية كما حمل معه الأوزان العروضيّة. والقصيدة الشعبية لا يمكن أن تكون بديلاً لأختها الفصيحة لأن ذلك يعدّ تنازلاً خطيراً عن اللغة الأم، والهوية العربية، ولغة القرآن الكريم، والتراث العربي الأصيل.
إن المشكل الذي يواجهه الشعر الشعبي هو محاولة تهميشه والتعالي عليه بل بتغييبه وإقصائه والحكم بعدم شرعية انتمائه إلى تراث الأمة على الرغم من كونه نتاج ثقافة شعبية عريضة شاركت في التأسيس والتنظيم لوجدانها وعقلها، وهي بالتالي إحدى مكونات الثقافة العربية. كما يجب أن لا يغيب عن البال أن معظم المناهج النقدية المعاصرة نشأت في رحم الشعر الشعبي رغم ما مورس عليه وعلى أصحابه من اتهام بالتأخر والرجعية، فقد ظلا قلعة راسخة حمت الوطن من محاولات الاختراق والمسخ والتفتيت. وأرى أن من واجبنا أن نقوم بجمع هذا التراث، وأن نعمل حثيثاً على نشره بكافة السبل الممكنة، وأن نناضل من أجل تقريبه إلينا، وأن نكسب له الحضور، والمكانة الثقافية اللائقة وأن نيسّر للأجيال القادمة مهمة الاتصال به والتواصل الدائم معه. وهنا تأتي أهمية توظيف عناصر من التراث الشعبي في ثقافة الطفل العربي المتمثل بالأغاني الشعبية، والمواويل، والأهازيج، والألغاز، وهي من المحاور الثقافية الفاعلة في تربية الطفل كونها تعمل على ترسيخ القيم النبيلة في ذهنه، فالحكاية الشعبية تعدّ أحد أهم الينابيع التي تروي عطش الأطفال للخيال بالإضافة إلى قوة سحرها الفني في تمسكهم بتراثهم، والحفاظ عليه.
إن عدم فهم التراث الشعبي يدفع الكثيرين للهجوم عليه، ولذا لا يمكن الحكم على التراث من أناس لا يفهمون لغته وأساليبه، ولم يعايشوه، ولم يفهموا وظيفته الاجتماعية. ولذا لا يجوز لأي عالم أو باحث أو ناقد أن يقوم بتسفيه شعب بكامله بأن يزدري أدبه وتراثه، ويرفضه جملة وتفصيلاً.