مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

حافظ القيم وناقلها

يتميز الشعر الشعبي بكثير من السمات الصوتية والعروضية التي تيسر حفظه وإلقاءه وتجعله مصدراً للطرب لدى من يستمع إليه. والشعر الشعبي في السودان أنواع شتى، منه الدوبيت والمسدار والجراري والشاشاي والهداي، ولكل منها سماته وخصائصه. ومع اختلاف أنواع الشعر الشعبي وتعدد مواضيعه، فهو يكتب بلغة سهلة، جزلة، يفهمها معظم الناس، حتى وإن استعصت عليهم بعض مفرداته، بسبب طابعها البدوي وارتباطها بمناطق جغرافية معينة، أو لهجات محلية من مناطق محددة، أو أنها لأسباب تاريخية لم تعد جارية على الألسن. ولا يركز هذا المقال على هذه الخصائص اللغوية والأسلوبية، على أهميتها، ولكن ينصب تركيزه على جانب آخر يتعلق بمضمون الشعر الشعبي ومواضيعه، خصوصاً فيما يتعلق بحفظ القيم ونقلها من جيل إلى آخر.
الشعر الشعبي شديد الارتباط بالوجدان العام لأفراد المجموعة السكانية التي ينتشر في وسطها وهو قريب لقلوب أفراد ذلك المجتمع، يرتبط لديهم بذكريات شتى، ويحث فيهم قيماً وخصالاً عزيزة لديهم، ويرسي ويستديم ما تحرص تلك الجماعة على صونه ونقله من جيل إلى آخر، من مبادئ أخلاقية ومن مكارم الأخلاق وسمح السجايا. فهو بذلك مستودع لتلك القيم، وهو وسيلة تربوية لغرسها في عقول الناشئة، وهو كذلك وسيلة لحفظ نسيج التماسك الاجتماعي واستدامته.
وظل الشعر الشعبي يتناول مواضيع في هذا السياق، من قبيل الشجاعة والكرم والغزل والعفة والأمانة، وغيرها مما يفخر به البدوي ويعتز به بين الناس. فقد كان الشاعر الشعبي في الماضي بدوياً يتنقل من مكان إلى آخر، أو يعيش مستقراً في بيئة بدوية، أو يتنقل مهاجراً وناهضاً لطلب الرزق واقتنائه عنوة، ويعبر عن تلك الحياة، ويعلي من مكانة القبيلة التي ينتمي إليها وينسب إليها كل ما هو جميل ومحبب من صفات، ويعرب عن اعتزازه بقوة قومه وبشجاعتهم وبسخائهم وبحمايتهم للضعيف المستجير بهم، وينذر أعداءه ويتوعدهم بقوة عشيرته وسطوتهم، وبقدرتهم على هزيمتهم، ويتشبب بجمال محبوبته ووجده بها، مع تأكيد أن حبه عذري عفيف، وبانتماء المحبوبة إلى القبيلة فهو يسمو بها عن كل ما يدنس سمعتها ويمس شرفها، والشاعر كذلك يفتخر بحمايته للمرأة والذود عنها، فهو (مقنع الكاشفات) و(دراج العاطلات) و(عشا الباياتات)، أي أن ينأى بنفسه عن النظر إلى من ينكشف سترها، ويتأخر ليسير ببطء قرب من يتأخرن عن القافلة لحمايتهن وزرع الطمأنينة في نفوسهن، وهو من يتفقد النساء اللاتي لا معيل لهن ليوفر لهن طعام العشاء ليلاً.
والنماذج كثيرة لا يسع المجال لذكرها، ولكننا نورد هنا بعض الأمثلة الإيضاحية. يقول الشاعر يوسف عبدالله البنا، الذي ولد في مطلع القرن العشرين، في الفخر (مسادير، 2)*:
نحن بندخل أم دكا عكل سفاية
نحن سيوفنا لي سروج الخيول كفاية
نحن قلوبنا للزول الضعيف رافاية
نخسر كل شيء ونرضي الخلقنا كفاية
فهذه الأبيات تجمع عدداً من العناصر التي أشرنا إليها، والتي كثيراً ما ترد في الشعر الشعبي السوداني في مختلف العصور، وهو الفخر بالقوة والشدة، خاصة في ساحات القتال، والرفق بالضعيف ومؤازرته، والسعي لرضا الخالق وتحري التقوى والإحسان. وإضافة إلى هذه الصفات، كثيراً ما يضمنون أشعارهم حكمة وأقوالاً أقرب للأمثال في جمعها للمعاني وتكثيفها، ويقول الشاعر الكودابي (مسادير، 2)*، وهو من الشباب المعاصرين في القرن الحادي والعشرين:
أخير الزول يعيش في الدنيا صاحب مبدأ
يطايب الناس وبشين الكلام ما يبدأ
نار الفتنة حين ما تشب بتابا الهبدة
وغرقان الجهل ما بتلحق بالجبدة
فهو يدعو الناس إلى الالتزام بالمبادئ، وأن يقابلوا الآخرين بطيب الكلام وتجنب قبيحه، ويذكر تقريراً أن نار الفتنة عندما تشتعل يتعذّر إطفاؤها، وأن الغارق في الجهل ليس بوسع أحد أن ينتشله منه. وقد استرعى انتباهنا أن هناك الكثير من الشباب المعاصر في السودان الذين لم تُتح لهم فرصة العيش في البيئة البدوية التي انتشر فيها الشعر الشعبي تاريخياً، ولكنهم تقمصوا روحه وتماهوا مع مصادره واستعادوا مواضيعه وصوره، وعبروا عن قيمه بلغة تجمع بين المعجم والأسلوب التقليديين مع إثرائهما بمفردات وتعابير حديثة تربطهم بمجتمعهم المعاصر وبأذواق وميول مستمعيهم من أبناء جيلهم وبناته. وهذا يؤكد دور الشعر الشعبي في نقل القيم عبر الأجيال، ويستحق دراسة أكثر تعمقاً ومزيداً من الأمثلة والشواهد من فترات تاريخية مختلفة.
_______________
* النماذج الشعرية مأخوذة من مجلة (شعراء ومسادير) الإلكترونية، والرقم يشير إلى العدد.

ذو صلة