مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الشعر الشعبي المغربي في نشأة المفهوم وتبلور الجنس الأدبي

يعد الشعر الشعبي أحد أبرز الأجناس الأدبية التي انبثقت في مختلف الثقافات والحضارات والمجتمعات، وبصرف النظر عن الثنائية المتعارضة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، أو الأدب النخبوي الفصيح والأدب الشعبي، وإذا أردنا أن نخصص أكثر، بين الشعر الشعبي والشعر الفصيح، وما يمكن أن ينشأ من اضطراب أو التباس في العلاقة على مستوى التداخل أو ابتعاد المسافة بينهما، فإننا لسنا في حاجة إلى تأكيد قيمة مختلف الأشكال التعبيرية الشعبية، مثل الحكاية الشعبية والمثل الشعبي والقصيدة الشعبية، والأغنية الشعبية، والموال والمناحة، وغير ذلك، مع ما تحمله من دلالات ثقافية وأنثروبولوجية، وأيضاً فنية وخصوصيات لها أثر عميق على المتلقي، وأكثر قدرة على اختراق الذاكرة الشعبية، ولذلك يبرز الاهتمام بالشعر الشعبي الذي ينتمي إلى منظومة الثقافة الشعبية، رغم أن الجامعات الغربية الألمانية على الخصوص التفتت منذ عقود إلى هذه التعبيرات، قبل أن يحضر الدرس الأدبي الشعبي في الجامعة العربية والجامعة المغربية بدرجات متفاوتة.
ويجب التذكير أن التراث العربي لا يخلو أبداً من الاهتمام بالثقافة الشعبية، ولذلك، لا غرو، أن يصنف باحثون غربيون وعرب ألف ليلة وليلة المنتمية إلى التراث العربي القديم ضمن هذه الثقافة، رغم ما يثيره ذلك من نقاش وجدل على مستوى التصنيف.
يقول عبدالكبير الخطيبي: (نعلم أن لتقنية التذكر طابعاً كونياً في الثقافة الشفوية، وفي المغرب كان الناس يحفظون عن ظهر قلب القصائد التي تتضمن وصفات طبية).
ويضيف: (ومن أجل تعويض غياب الخط تنظم الذاكرة الفضاء وتنسقه في بعض القصائد والأمثال، هذه الجغرافية الحقيقية المجموعة في الأمثال التي تمكن البدوي من التحكم في الصحراء، وبالتالي فإنه يجد طريقه وهو مزود بهذه القصائد والأمثال).
وبناء عليه، يمكن أن يفهم الشعر الشعبي في إطار القول الاجتماعي السائر والمتداول، الذي له طابعه الخاص في بنائه ومنطوقه وتركيبه الصوتي والأسلوبي والبلاغي، ذلك أن كل الشعوب سعت إلى التعبير عن كينونتها المتعددة الأبعاد، من خلال اللغة المفهومة اليومية والدالة، وهذا ما ينسحب على الشعر باعتباره كلاماً وقولاً مائزاً بخصائصه الأسلوبية والإيقاعية، التي تتصادى مع عموم طبقات وشرائح المجتمع وجغرافياته الثقافية.
وهذا حال الشعر الشعبي المغربي، تاريخياً وراهناً، بيد أنه من حيث المفهوم في الثقافة المغربية يصاغ وفق المستلزمات اللغوية والتاريخية والحضارية، وسياقات نشأة وتطور هذه الأشكال الشعرية الشعبية.
أما عن المفهوم الذي يطلق على الشعر الشعبي في الثقافة المغربية القديمة والحديثة، فهو الزجل، والذي نشأ في الأندلس في ارتباط بالموشحات، تلك التي كانت تنظم باللهجة العامية، وتتباين الآراء حول أول من كتب الزجل من الزجالين. في هذا الصدد يمكن العودة إلى كتاب (تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب، بحوث ونصوص). وفيه يفصل محمد بنشريفة في هذه المسألة، وكذلك كتاب د. إحسان عباس (تاريخ الأدب الأندلسي).
والسمة الأبرز للزجل هي لغته العامية كما أشرنا.
ويعني المفهوم لغوياً الصوت العالي والرفيع، في هذا الإطار عاد د.عباس الجراري إلى النصوص الشعرية القديمة والأحاديث النبوية في مؤلفه (القصيدة) لتوضيح هذا المعنى، أما من حيث المفهوم والجنس الأدبي، فإن (الزجل) نمط من أنماط النظم، ووسيلته التعبير بلغة العامة، والملاحظ، هنا، أن مكون الصوت أساسي لتحديد طبيعة هذا الجنس الأدبي الشعبي، الذي يبرز جماليته وقدرته على التكيف مع ديناميات تداول الخطابات الاجتماعية المألوفة، لكن وفق صياغات تراعي مقامات الوزن، وهو أيضاً كلام (مثقل) بالدلالات الموحية.
وفي تاريخ معين كان الزجل مرادفاً للملحون، والكلام، والشعر، واللغا، والقْصيدَة (بتسكين القاف)، وليس القصيدة (بفتح القاف).
ويتناول ابن خلدون في مؤلفه المقدمة فن الأزجال مقروناً بالموشحات، يقول ابن خلدون: (ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة).
ولعل أول من نظم على منوال الزجل كما يرى ابن خلدون، أبو بكر بن قزمان القرطبي، مع أن البدايات والإرهاصات كانت قبله، غير أنها لم تستو من حيث حلاوتها وانسكاب المعاني، ويذكر ابن خلدون أسماء أخرى برعت في نظم الموشحات والزجل مثل عيسى البليدي، وأبو عمرو بن الزاهر الإشبيلي، وأبو الحسن المقري الدائي، وأبو بكر بن مرتين، وأيضاً بشرق الأندلس مخلف الأسود، ومن بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك الذي يصفه ابن خلدون بـ(إمام الأدب) ثم لاحقاً (إمام النظم والنثر) (والوصف دائماً لابن خلدون) الوزير أبو عبدالله بن الخطيب، والأديب أبو عبدالله الألوسي. يقول أبو بكر بن قزمان:
إذا شمر كما هو يرميها
ترى البوري يرشق لذاك الجيها
وليس مرادو أن يقع فيها
إلا أن يقبل بدياتو
لا يتسع المجال لاستدعاء عدد من النماذج الزجلية الأندلسية في هذا السياق، ومع ذلك يمكن أن نلاحظ من خلال هذين البيتين الزجليين اللغة المستعملة، إذ هي مزيج من اللغة العامية والفصحى، ما يشبه اللغة الوسطى، علماً أن مثل هذه الألفاظ سائرة في الدارجة المغربية العامية، هذا إلى جانب البناء والمعنى الثاوي في مثل هذه القصائد.
وبغض النظر عن المحددات التي أسهمت في نشأة الزجل، حيث تتباين الآراء، فإن ابن خلدون يقر بصفة ضمنية وصريحة أن هناك من سبق أبا بكر بن قزمان، لكن يحسب له إنضاج تجربة الزجل، وتبلور مفهومه، وبروز أعلامه، وتنامي تداوله واستلذاذه.
يقول محمد بنشريفة: (إذا كان المعروف أن المخترع للموشحات هو مقدم بن معافي القبري، فإن أول من قال في الأزجال غير معروف، وابن سعيد الذي كان أول من كتب نبذة عن الأزجال والزجالين اكتفى بقوله: قيلت في الأندلس قبل أبي بكر بن قزمان).
وغير ذلك، يؤكد ابن خلدون على أهمية أبي بكر بن قزمان، فهو ليس مجرد قائل للزجل، وإنما معه تلألأ، وهذا ما يذهب إليه إحسان عباس حين يعتبر أن ابن قزمان له الفضل الأكبر في إعطاء الزجل شكله النهائي في مراحل التطور، وهو الرأي المستقى مما كتبه ابن خلدون وأبرزه في مضمون حديثه عن نشأة وتاريخ وتطور الزجل الشعبي، وهو المتوفى سنة 554هـ (أي ابن قزمان).
وفي القرن السادس الهجري، ظهر زجالون آخرون من أمثال: ابن الزيات الغرناطي، وابن غزلة المغربي، وابن جحدر الإشبيلي، وابن الدباغ المالقي، وكذلك في القرون اللاحقة، وفق ما أورده ابن خلدون، بحيث إن أشهر زجالي القرن الثامن الهجري ابن شجاع التازي، وعلي التلمساني والكفيف الزرهوني، وفي القرن التاسع الهجري الفقيه عمر المالقي (الملحون)، والقرن العاشر الهجري عبدالعزيز المغراوي وتلاه المحمودي، وعرف القرن الثالث عشر الهجري ازدهاراً لافتاً في مجال الزجل، ومن الذين خاضوا فيه عبدالقادر العلمي، ومحمد الحراف وأحمد الكندور، وإدريس بن علي الحنش، تبعاً لما أورده محمد بنشریفة.
ولا يمكن الحديث عن الزجل المغربي، دون ذكر اسم عبدالرحمن المجذوب، الذي تحولت أزجاله وأشعاره إلى موروث شعري متداول، باعتبارها مجموعة من الحكم التي ينبغي أن يسترشد بها، وأيضاً سيدي محمد البهلول، الذي لم ينل نفس الحظوة والشهرة في معمار الذاكرة الشعبية المغربية، وإن كان قد استطاع أن يحفر في قلب الجغرافيا المغربية، وأساساً منطقة الشاوية.
وفي القرن العشرين لعب الزجل المغربي دوراً أساسياً في تسجيل وتدوین الأحداث والوقائع المرتبطة ببدايات الاحتلال الفرنسي ابتداء من سنة 1907 إلى غاية حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، بل كان أداة الكلمة لمقاومة الاستعمار الفرنسي وفضح فظائعه، وكثير من القصائد الزجلية كانت مادة للأغنية الشعبية المغربية، وغير بعيد عن مفهوم الزجل المغربي ونشأته وتطوره، فإن تناول التجارب الزجلية المغربية الحديثة يتطلب موضوعاً مستقلاً بأعلامه وقصائده والأبحاث الأكاديمية الموازية لشأنه.

ذو صلة