كنتُ أتمنى أنني ما أزال طفلاً، ولا يزال الخيار لدي ماثلاً إلى الأبد. كم كان صعباً أن أقرر؟! أن أفرض مصيراً ما على نفسي وعلى الآخرين، أن أتحمل تبعات ذلك كله، أن تحاصرني العيون والأبصار تتأمل وتأمل أن أقدم لها ما تريد، أن أحمل أرواحاً ونسمات على كاهلي، أن يصبح صدري رغيفاً وكفي ماء وعيني لحافاً ساتراً، وقلبي الزمن الذي يمضي فيه كل ذلك. ينحني ظهري، تعقفني الأمانة ثم أنساني، أنسى أني دائماً أنا.
في سنتي الدراسية الأولى لم أكن أذهب للمدرسة. كنتُ أشاهد الطلاب والمدرسين والفصول من خارج السور. سور المدرسة كان جبلاً أحب أن أتسلقه كلما أردت، لكنني لم أكن أود أن أصل إلى القمة أبداً. في القمة تبدو الأشياء كاملة. تنتهي الرغبة، تتمايل الشعلة قليلاً تطفئها الريح. كدتُ أبلغها مرة وكنت قادراً على ذلك، لكنني خشيتها، خشيت أن تؤرقني احتمالاتها، تفرض عليَّ شرطها العالي. من هناك تعلمتُ الأشياء، واستطعتُ أن أحقق تقدماً كبيراً في عدم فهمي للكثير منها.
بعد بضع سنين على مفترق محطة للقطار وفناء محكمة، كنتُ أذهب مع جدتي. أتأخر عن خطوتها قليلاً. لم أكن ألتفت إلى الأمام إلا حين تشدني خطوتها. أمي من ورائي دائماً تنظر لي من النافذة. لم تكن تود إحداهما أن تبقى مع الأخرى في مكان واحد ولو لدقائق معدودة. وكنتُ بينهما، في الشقاق الذي غالباً ما يتسع، في الحوار المملوء بالخلاف، في السيل العارم من الكلمات التي لم تكن مهذبة، في الفراغ المشحون بالتنافر، في المسافة التي لا تستقر بينهما، تلك المسافة التي لا تصل إلى شيء وقد تركها أبي باكراً حين رحل. كنتُ أحب الجميع، وأشتهي أن أكبر في وقت قياسي حتى أستطيع أن أقرر مع من سأبقى، ومع من سألبث. منذ ذاك وأنا أمكث زمناً متربصاً في اتخاذ أي قرار، نادماً في أغلب الأوقات على الخيار الآخر الذي تجنبته.
لم تكن هناك فرصة لينصت لي أحدهم، ليلتفت، ليأخذ بيدي، ليرافقني الطريق الطويل. لم يتوقف أحدٌ ما عن الركض. تباعدت المحطات وكادت أن تذوب في حركة الوقت الدائبة. غرق الجميع في الحياة وأنا بجانبهم وحدي، أحمل أطواق النجاة فوق حسن ظني وتحت كل ريبة تسللت إلى نفسي. بدوت وأنا في مقتبل شبابي خاضعاً لتجارب عديدة في حقول يابسة لم تعد تصل المياه إلى عروقها. حينذاك وكل حين كانت المسافة تتسع بالقدر الذي أقطعه، بالمجهود الذي أبذله. لا مفر من أن أمضي دون هدى وهوى يقصِّر على الأقل من إحساسي بتلك المسافة.
ذات يوم بعيد بعد معركة غريبة لم أشارك بها -ككل المعارك التي تثار من حولي وتدميني- غنمتُ ساعة من أمي، ساعةً ثمينة، أغلى وأبهى ما تكون حين تزين معصمي. كانت هي الزمن الحقيقي الذي تسير به عجلة حكايتي. نازعتني عليها الظروف المحيطة. نسيتها مرةً على مغسلة كنتُ أتوضأ فيها لصلاةٍ ما، ثم لم تعد على يدي أبداً رغم أني أشاهدها بين فترة وأخرى -وقد توقفت عقاربها- إذا ما رأيتُ أحد قرابتي.
على مشارف الإحساس بالمسؤولية كان قد فاتني قطارٌ ما، حظّ قديمٌ لا يذكرني، أقلَّ الأصدقاء الذين لم أتعرف عليهم بعد، والأقرباء الذين لن ألتقي بهم يوماً، والأماكن التي كان من المقرر أن أحظى منها بنصيب روحاني، والنساء الملائكة اللاتي لن يقعن في حبي، وما شغلتُ حيز نظراتهنَّ أبداً، وذلك الطفل الذي انتزع نفسه مني باكراً.
كانت البهجة التي مضت وقد توقفت معي للحظة تحدثني، تترك أثر ذهابها بين جوانحي وفي تفاصيل ارتباط لم يكتمل. لم يكن طبيعياً أن أضيف أعباءً أخرى على روحي. وما شئتُ أن أشارك أحداً ما تبقى له من الحياة وأكمل من صفحتي الفارغة ما ينقصه، أو أجد له مما أفقده ما يسد عوزه وحاجته، وأن أشترك معه في ذنب محتمل، أن أنجب من رحم المعاناة جنيناً مشوهاً لا يقوى على الحياة ولا على أن يُنشأ تنشئة تجبر قلب والده.
كنت قد قررت وما زلت نادماً على أنني لم أستبق ولدي حين أشرتُ له بأن يلحق بأمه، لا يتركها، سيظلّ بائساً إن لم يفعل. فكان أن افتقدت أجزائي مرة أخرى بعد أن لممتُ شتات بعض منها من كل حدب وصوب. لم يكن ليتبقى لي أحد بعد أن نمت الأشياء من حولي وتفرعت إلا الذكرى البائسة عن هذه الدروب التي تشق في روحي ندوباً غائرة.
ثم تمضي السنين، وأهرم وأشيخ، ويكبر الجميع إلا أمي، مازالت شابة جميلة تنتظرني عند محطة القطار، تترقبني من خلف النافذة بين قطرات المطر التي تتهادى على الزجاج.