من بين التعريفات التي وضعها الفلاسفة للإنسان، والتي تتجاوز كونه ناطقاً وعاقلاً، وصفه كائناً لاعباً أو كائناً لاهياً (Homo Ludens)، أي أن اللعب واللهو ليسا فقط خاصيتين فطريتين ومتجذرتين في كل ذات إنسانية فقط، بل إنهما شرط وجودي لنقل ولتوليد الثقافة والتعبير عنها. وكما يتدرج الطفل في أشكال اللعب مع تدرجه في مراحل طفولته وعبوره عبر قنوات التنشئة الاجتماعية (من مص الأصابع والمناغاة واكتشاف الدمى وألعاب الورق والبلاستيك وتلمس أشياء العالم الخارجي، واللعب مع الأقران، والألعاب المدرسية وممارسات الهوايات الرياضية المختلفة..)، فإن الإنسانية استطاعت عبر تاريخها الطويل الذي يمتد من الإنسان الصانع البدائي (Homo Faber) الذي اهتدى لإبداع أشكال متجددة ومطورة من اللعب (الفردي والجماعي/ البدني والذهني) أَثْبَتت وجودها حفريات العالم القديم إلى متاهات عوالم الإنسان الرقمي (Homo Numericus) الذي استطاع أن يطور أشكالاً من اللعب الإلكتروني امتزج فيها الواقع بالخيال، والهزل بالجد، والترفيه والتسلية بالصناعة والتسليع، والدعامات التقنية المادية بالمضامين الثقافية الرمزية.
إن تسارع التقنية يمكن أن نتنبأ فيه بتحولات عميقة يمكن أن تمس شكل الألعاب الإلكترونية ومضامينها ومداراتها، إذ سيزداد اللعب الإلكتروني تعقيداً في الواقع المعزز وعوالم الميتافيرس (Metaverse)، وستتمدد تكنولوجيا النانو (Nanotechnology) فيه، وفي مرحلة متقدمة من مرحلة ما بعد الذكاء الاصطناعي التوليدي، سنشهد تطويراً للألعاب الإلكترونية للجيل السابع، وهو العصر الذي ينتظر أن تختفي فيه الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية وشبكات الإنترنت بمختلف أجيالها لتحل محلها مرحلة الشرائح الإلكترونية أو عصر السايبورغ (Cyborg)، أو الإنسان المستزاد بالآلة، وصولاً -ربما - إلى أشكال من الألعاب الإلكترونية الخاصة بالإنسان-الآلة (Homo Machinus) أو إبداع أشكال من الترفيه واللعب للآلة- مؤنسنة (Machina Hominis).
الألعاب الإلكترونية ليست كما قد يبدو للبعض بريئة وخالية من كل تحيزات ثقافية، لذلك فكثير من القيم المستبطنة فيها يمكن أن يساهم في تغذية اضطرابات اجتماعية ونفسية واقتصادية، بالنظرإلى أجيالها الأخيرة تشجع الفردانية، وتقدس قيم التربح السريع، وتختزل النجاح في الحياة بالارتقاء في سلم لعبة معينة، وتتساهل مع الغش، وتطبع مع سلوكيات سلبية نذكر منها: العنف والعداء والتحايل والمكر والخداع وتغليب المصلحة الشخصية والتنافس غير الشريف، وتُلْهب العنصرية والتنمر والمحاكاة العمياء، وتدافع عن المثلية الجنسية (نجد في بعض الألعاب الإلكترونية كائنات غريبة وأشكالاً هندسية دون جنس واضح/ وأخرى بجنس مقلوب)، وغيرها، على حساب قيم الأسرة وتماسك العائلة والقناعة والتضامن والتآزر والإحساس بالانتماء الاجتماعي، وقيم العلم والمعرفة والثقافة والتسامح والسلم والتعايش، والذوق الجمالي الأصيل، وغيرها.
بالإضافة إلى ما سبق، تتزايد مخاطر تعرض مستخدم الألعاب الإلكترونية للجرائم الإلكترونية عند اللعب المباشر عبر الإنترنت أو اللعب والمنافسة مع غرباء بإمكانية التعرض للنصب، وللابتزاز، وللتجسس، وللقرصنة ولانتهاك الخصوصيات، ولسرقة البيانات الشخصية، ولانتحال الهويات، وللتلصص، وللتحرش الجنسي، وللإباحية (الناعمة) و(القوية) عبر الفواصل الإشهارية والروابط التشعبية والنوافذ المنبثقة الإعلانية (Pop-Up) الطوعية أو القسرية أثناء اللعب، أو لاستدراج الأطفال والمراهقين عبر هذه الألعاب للولوج إلى مواقع وفضاءات سيبرانية مظلمة يمكن أن تعرضهم لجرائم أخلاقية شتى. كما يمكن للاستخدام غير الرشيد للألعاب الإلكترونية أن يتحول إلى إدمان صنفته منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية للطب النفسي اضطراباً نفسياً.
تفرض المسؤولية الإنسانية والحضارية والمجتمعية والأسرية علينا جميعاً في العالم العربي مزيداً من الضبط والتوجيه والتحكم والحوكمة والاسترشاد بمصفاة قانونية وببوصلة قيمية وأخلاقية في استهلاك الألعاب الإلكترونية بوصفها منتوجات رقمية، فهي وإن كانت للترفيه وللتسلية ولتزجية وقت الفراغ ولتحصيل متعة الإنجاز ولإشباع رغبة الفضول وحب الاستطلاع، فإنه يمكن لها تنمية كفايات الفرد المعرفية والإستراتيجية والتواصلية، وفتح إمكانات أخرى على عوالم جديدة ببناء صداقات إنسانية مفتوحة على ثقافات متعددة، ودعم القيم التربوية والأخلاقية التي تتأسس على المشاركة والتبادل والتثقيف والتعلم الذاتي والحافزية، وزرع روح التنافس والنزاهة وتقبل الخسارة والرغبة في التحدي وطلب التفوق والتميز والإبداع، وتعزيز المهارات الحسية والحركية، وتصميم خطط منطقية وبدائل عقلانية وإستراتيجيات ذهنية لحل المشكلات، والمساهمة في صناعة القيادة، وتكثيف الثقة النفس، وصقل ملكة التخيل، وإشباع احتياجاته النفسية والعاطفية والوجدانية، وغيرها.
كما يمكن للألعاب الإلكترونية -بمضامين تعليمية وتثقيفية هادفة- أن تشبع الاحتياجات المعرفية واللغوية للفرد وتشيعها وتطورها، نوعاً من الدمج الفعال بين (اقتصاد اللعب) و(اقتصاد المعرفة)، وهي التأثيرات الإيجابية المثبتة أيضاً بدراسات علمية من قبيل: نظريات التنفيس والتعويض والتطعيم أو التحصين، وغيرها، وهو دمج حضاري منتج ومكسب مادياً اقتصادياً ورمزياً ثقافياً.
تستوجب الألعاب أو الرياضات الإلكترونية الاشتغال على بناء وعي نقدي (فردي وجمعي) بمخاطر التسارع الكوني في القرية الكونية لتسوية الإنسان بالآلة، وتجريده من معناه الحقيقي الإنساني في مجتمع الفراغ، وتشخيصاً لحال مجتمع اللهو والرقم والآلة واستشراف مآلاته، وانتباهاً إلى الضرورة التربوية والقيمية الآنية لإعداد مناعة معرفية وقيمية وسلوكية، ووعياً معقولاً بطرق الاستخدام وحدوده الزمني والأخلاقي، للنيل من الخيرات والإمكانات والفضائل التي تتيحها للإنسان في جودة الحياة والرفاهية وتحصيل المتعة الهادفة وتكوين سليم للرأسمال البشري.