كان اسم النجف معروفاً في كتب التاريخ وكتب البلدانيين، فهي تقع في دائرة الحيرة مملكة المناذرة قبل الإسلام، ومن تركة ذلك أن اكتشفت عدة أديرة قريباً من أرضها، وهناك منطقة تسمى الرحبة، وهي بالأصل الرهبة، ومعلوم أن الاسم من متعلقات المسيحية. ثم الكوفة التي أصبحت عاصمة للخلافة الإسلامية ردحاً من الزمن. لكنها لم تشتهر كمدينة دينية وحوزة فقهية إلا بعد العام 448 هـ، يوم وفد إليها إليها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ)، قادماً من بغداد، وانشأ هناك مدرسته.
نقرأ في تاريخها القديم: «أطل صاحب الخورنق من سطح قصره على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار, فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! قال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة..! فترك ملكه من ليلته، ولبس المسوح، وخرج مستخفياً هارباً، لا يعلم به». (الطبري، تاريخ الأمم والملوك).
إن صحت رواية ابن جرير، فللمنطقة متعلقها الروحي التأريخي حيث الأديرة بالحيرة، والفقه بالكوفة، فهناك ظهر أبو حنيفة النعمان (ت 150 هـ)، أحد أبرز أعمدة مدرسة الرأي العراقية, ثم الحوزة الدينية بالنجف. سلك أغلب علماء النجف، خلافاً لضجيج الكوفة السياسي المعارض طريق صاحب الخورنق الزهد بالملك والسياسة والمعارضة. شيوخ يتحلقون حولهم تلاميذهم داخل صحنها العلوي أو داخل باحات المساجد، كل تلميذ هو ضابط نفسه فلا إدارة ولا دفتر حضور، يختار الكتاب والشيخ وزمن الدراسة حسب رغبته، همه التحصيل الفقهي لنيل درجة الاجتهاد.
عرفت النجف، في تاريخها الثقافي والأدبي والفقهي، ما لم تعرفه المدن الأخر، أنها جعلت عناوين كتبها ألقاباً لبيوتاتها، فكتاب (كشف الغطاء) أصبح لقباً لبيت مصنفه الشيخ جعفر بن خضر النجفي (ت1812) آل كاشف الغطاء، وكتاب (جواهر الكلام) أصبح لقباً لبيت مصنفه الشيخ محمد حسن النجفي (ت 1859) آل الجواهري، وبالعلم عرف آل بحر العلوم، وبالبلاغة عرف آل البلاغي، وعرف النجفيون الأشخاص بعناوين كتبهم مثل صاحب (البرهان القاطع)، وصاحب (البلغة الفقهية).
جعل الإرث الثقافي والعلمي، ووجود مشهد الموت اليومي حيث استقبال مقبرة النجف المترامية الأطراف لمئات الجنائز يومياً؛ عقلاء المدينة ينظرون إلى الدنيا بعين الساخر بها، فقد تحولت متعلقات الموت، من دفن وتغسيل وتكفين، إلى مصدر رزق للنجفيين. فهل سمعت عن مدينة جعلت قدوم الجنازة بشارة؟! إلا النجف هناك شبان يرقبون الطرق الداخلة إلى المدينة، فيسألون الجنازين من دفانكم؟ وبلمحة البرق يخبر المبشرون الدفانين ليحصلوا على البشارة منهم.
من حكايات تعظيم وتأبيد تاريخ النجف المتداولة في الكتب أن النبي نوح دفن عظام آدم في رملة النجف، وشيد في مقبرتها (وادي السلام) ضريح لهود وصالح، وأن النجف كانت مرسى لسفينة نوح. ماعدا هذا ورد اسم النجف في يوميات معركة القادسية سنة 14 هجرية. كذلك كانت أول محطة في طريق الحج بين الكوفة ومكة, جرى فيها توديع قوافل الحجاج، ففي السنة 236هـ ودع منها الخليفة جعفر المتوكل (ت247هـ) والدته وولده المنتصر على رأس الحجيج.
زهد مراجعها بالدولة والسياسة عامةً، ففي يقينهم أن الدول تتبدل والجيوش تكر وتفر، لكن الباقي على مدى الدهور هو الضريح والدرس, وهما سبب حياة المدينة، فما يهمهم هو إعداد مجتهدين، لا ميليشيات يتقدمها معممون يلحنون في النحو والتعبير، وهي خطيئة لا تغتفر لمن يدعي أنه درس ما يعرف بالمقدمات ومنها: الأجرومية، وقطر الندى، وشرح ألفية ابن مالك دراسة متقنة، ثم دراسة الفقه عبر ما يعرف بالسطوح ودرس الخارج.
لقد اعتاد العراقيون سماع الخطب المرتجلة المحبوكة لغة وبلاغة من أفواه المعممين، لذا أول مؤاخذة على المعممين الذين يلحنون في اللغة وعدم تأدبهم بآداب المناظرة والجدل، فالعمائم عادة تحفظ المشاعر من الانفلات، وتكظم الغضب، وتنقي الألسن من سقط الكلام.
كان الطوسي قادراً على المكوث ببغداد، وقادراً على تجييش الجيوش والدخول في حرب طائفية مع السلاجقة، لكن خسارته تكون كبيرة في انقطاع الدرس. وبطبيعة الحال يتصل هذا التعقل والمضي في الجهاد العلمي والفقهي بأئمة يعتشى بنارهم مثل جعفر الصادق (ت 148 هـ). لم تخالف النجف سلوك شيخ الطائفة فاعترضت بشدة على الثائر علي بن فلاح المشعشع (ت863هـ) «كان منفوراً من الجميع بسبب ما قام به من إهانة العتبات الشريفة», (العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين).
معلوم أن إدخال السلاح إلى الأمكنة الدينية وتحويلها إلى ساحة قتال هي من أكبر الكبائر. فمن يتابع يوميات الصراع بين العصابتين النجفيتين: الزقرت والشمرت، الذي استمرت من بادية القرن التاسع عشر وحتى الاحتلال البريطاني للعراق، سيجد الحوزة بمراجعها الكبار في منأى عن الصراع، تعطي نصيحتها إن طلب منها، وتتدخل إن شعرت بالخطر على مكونات النجف الأساسية المذكورة.
النجف مدينة دينية، وفي الوقت نفسه مدينة أدبية وواحة للشعر العربي، ولو تصفحت كتاب (شعراء الغري) ذي الاثني عشر مجلداً لعرفت كم ساهمت هذه المدينة بالحفاظ على روعة هذا الضرب من الشعر، الذي يكاد يضمحل، وكم ساهمت في حفظ العربية الفصـحى لــغـةً، ويكــفيــها أنها ولــدت محـمـد مهدي الجواهري (ت 1997) وأمثاله من الكبار.
وعلى الرغم من طابعها الديني ومظهرها المتزمت إلا أن النجف قد تفاجئك بانفتاحها، وأروي لك هذه القصة:
إنه لما فاتحت السلطات العثمانية مراجع الدين في موافقتها أو عدمها من إدخال كتاب أصل الأنواع لداروين (ت 1882)، بعد أن ترجمه شبلي شميل إلى العربية، نظر المراجع في ذلك وتباحثوا وخرجوا برأي مفاده: ليس لديهم مانع من إدخاله إلى العراق، ولكن بشرط أن يفسح لهم المجال في الرد عليه. وقيل رد عليه رجل دين يدعى البلاغي. ويغلب على الظن أن المتحمس لإدخال الكتاب المذكور إلى العراق هو الشاعر المتفلسف جميل صدقي الزهاوي (ت 1936)، فهو القائل: «المذهب القوي في رأيي هو مذهب داروين في النشوء والارتقاء، وقد تبعته، ولم يتبعه غيري قبلي، وقد شاع بسببي في العراق». (الرشودي، الزهاوي دراسات ونصوص).
ما أريد قوله أن النجف وهي البلدة الدينية، والخالية تماماً من مظاهر ووسائل الترفيه والفن كافة؛ تمتاز بانفتاح وأريحية مقبولة، لم تكفر شاعراً تجاوز الحد حسب المنطق الديني، أو تجاوز على أحد المعممين، فهي تحاول الموازنة وتعويض الانغلاق الظاهري بفسحة لشاعر قال بيتاً وأخذ صداه في المدينة وخارجها، أو ما يتبادله المعممون من لطائف وفي أحلك الظروف.
فهي مثلما قال فيها أحد أبنائها الكبار: تصدر العمائم وتستورد الجنائز، تعبيراً عن حوزتها ومقبرتها، فما أن يدخل الطالب إلى حوزتها إلا وهو يرتجي اعتمار العمامة، التي عندما يضعها على رأسه يتحول إلى شخص آخر، يمشي مزهواً بها حتى يتعود عليها فيهدأ غروره، ولا يتركها حتى الرحيل عن هذه الدنيا، وكثيراً ما ترى العمائم موضوعة فوق الجنائز، إشارة إلى أن المتوفى كان عالم دين، مع أن هناك من تخلى عنها في منتصف الطريق، وتحول إلى الحياة المدنية، وهذا ما فعله الشاعر محمد مهدي الجواهري، والباحث اللبناني المعروف حسين مروة (اغتيل 1987)، وكان أحد الوافدين من جبل عامل إلى حوزتها، بعث به أهله على أمل أن يعود مجتهداً إلى لبنان، وقد كتب سلسلة مقالات في جريدة عراقية، ويغلب على الظن كانت نجفية، تحت عنوان (أنا وعمامتي).