في سنوات قليلة، قفزت الوسائل التعبيرية الحديثة المستخدمة للشبكة السحرية (الإنترنت)، لتحتل المرتبة الأولى عالمياً. وأصبح الرجوع إلى ورقة وقلم (أدوات الكتابة التقليدية)، مثل سماع الموسيقى الكلاسيك، أو الحنين إلى شكل من أشكال الثقافة القديمة العظيمة.
وكثيراً، ما تحدث الكتّاب الكبار عن تجربة الانتقال من الكتابة الورقية إلى الكتابة الإلكترونية، بنوع من الدهشة والضحك، لكنهم لا يزالون يدافعون عن الكتاب المطبوع، ويجدونه أعظم الأشياء التي لا يمكن أن يصيبها التغيير، مهما حاولت وسائل التكنولوجيا الحديثة من إغراء.
في جلسة جمعت الأدباء الثلاثة الراحلين إبراهيم أصلان وخيري شلبي، فضلاً عن سعيد الكفراوي، سيطرت عليهم حكاية (اليو إس بي)، وكيف أن جهازاً صغيراً في حجم (الفلاش) يوصل (اللاب توب) بالإنترنت في لحظات دون التقييد بأسلاك أو (روتر), وقالوا إنه فيما مضى، كان الكتّاب يفتخرون بعلاقتهم الخاصة بالقلم، وكان كل منهم يعتز باستخدام نوع معين من الأقلام، يرتاح إليه ويساعده على خروج الكلمات من رأسه إلى الورق، بفضل صوت احتكاك سن القلم بالورق، الذي له خلفية إيقاعية موسيقية تساعده على الإبداع. أو كما قال يوسف السباعي إن «القلم جزء من الارتباط الكهربي من فكرك إلى الورقة». وفي تلك الجلسة تحدث أصلان عن احتفاظه بـ(كوب الأقلام الرصاص) التي كتب بها روايته البديعة (مالك الحزين).
تعدد مصادر المعلومات
بفضل التكنولوجيا الحديثة، تغيرت عادات الكتابة، ومن ثم القراءة، وكذلك شكل الوسط الثقافي، وكل ما يحيط به من رموز وأشكال، وبسؤاله عن: ما الذي تغير في عاداتك الكتابية بين تجربتي الكتابة الورقية والإلكترونية من حيث الوقت ووسيلة الكتابة وفترة التحضير لبلورة الموضوع؟
أجاب الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة قائلاً: «إن كل عادات القراءة والكتابة تغيرت بل انقلبت, وقد كان الوقت هو الضحية الأبرز للعادات الجديدة، كما أن تعدد مصادر المعلومات وتوافرها بهذا الحجم المهول، قلل من عمق القراءة ومن عدد الكتب التي أقرأها سنوياً، هناك فوائد للكتابة في عملية التحرير والدقة وتوفر المعلومات، وسهولة النشر والوصول بسرعة إلى القارئ، كما أن هناك خسارات كبيرة من التغيير الذي حدث».
وعن تغير أسلوب الكتابة, قال حوامدة المشرف على الملحق الثقافي بجريدة الدستور الأردنية: «ربما تغير شيء غير ملموس في كتابة القصيدة مثلاً، نعم بقيت الروح هي نفسها ولكن اتساع الشاشة يتطلب المزيد من الحفر والكتابة والمتابعة وربما تعقدت الصورة الشعرية أكثر. وصارت قصيدة النثر الأنسب للكتابة«.
أما الشاعر المصري زين العابدين فؤاد فقال إنه لا يزال يستخدم الورقة والقلم حين يكتب قصيدة، مؤكداً أنه لم يستخدم الكمبيوتر مباشرة في كتابة أية قصيدة؛ لأنه «يخاف من هذا الانتقال»، مشيراً إلى أن هذا الانتقال حدث منذ فترة في كتابة المقالات الصحفية أو الـ(نوتس) على الفيس بوك.
وتذكر صاحب الأشعار الشهيرة، ومنها قصيدته الثائرة (مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟) ما قاله الكاتب العالمي ماركيز عن تجربة انتقاله من الكتابة التقليدية إلى الإلكترونية، وكيف أكد أن أول رواية كتبها مباشرة على الكمبيوتر أخذت منه بعض الوقت، تجاوز أربعة أضعاف الورقة والقلم، ولكن في الرواية الثانية أخذ ثلث الوقت فقط، وهكذا حتى تعلم تماماً الكتابة الإلكترونية.
رواية عبر الإنترنت
أما الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، صاحب رواية (في كل أسبوع يوم جمعة)، التي تتحدث عن أحد المواقع على الإنترنت، والذي تشترط صاحبته قبول أعضاء جدد في يوم الجمعة فقط من كل أسبوع، وبتوالي دخول الأعضاء الجدد، يحكي كل منهم حكايته، فيدخل الروائي إلى هذا العالم الافتراضي؛ ليكشف ما جرى تحت سطحه، وكيف يفكر هؤلاء الشباب في ظروفهم وواقعهم، وما طموحاتهم وخلفياتهم الاجتماعية، وإحباطاتهم، وشيئاً فشيئاً يتقارب هؤلاء الشباب ليشكلوا مجتمعاً صغيراً، تتجلى فيه كل ظواهر وأمراض المجتمع الكبير، فقال: «انتقلت بالكامل منذ 4 سنوات من الكتابة التقليدية من ورقة وقلم إلى الكتابة الحديثة كما نطلق عليها من كمبيوتر وأزرار سحرية. والسبب في ذلك كانت حادثة تعرضت لها، (خلع في الكتف)، اضطررت معه إلى الكتابة عبر الكمبيوتر، ومن وقتها وأنا أكتب مباشرة على المحمول، وأرسل المقالات الصحفية عبر الإيميل (البريد الإلكتروني). ولكني أحب الورقة والقلم عندما أكتب رواية أو قصة ما، أي في الإبداع أحب إحساسي بالمادة، بالملموس، أعشق فرش الأوراق والكتابة بالقلم». وأشار عبد المجيد إلى أن الجلوس أصبح مختلفاً: «أستطيع الآن أن أجلس في أي مكان بالمحمول، ولا أتقيد بمكان المكتب، كما أن الحذف والإضافة والحفظ السريع باستخدام الكمبيوتر يدهشني حقيقة».
السرعة والمتعة
وعن نقطة السرعة والمتعة، قال حوامدة إن السرعة ضيعت المتعة، لكن الكتابة بالقلم طبعاً فيها متعة لا توصف، لكن حتى لو كتبت اليوم بالقلم ستضطر لاحقاً لكتابتها على الكمبيوتر، وأنت بحاجة إلى الوقت فتقوم مباشرة بالكتابة على الشاشة. لكن من فوائد الكمبيوتر أنه يعطيك حجم المقالة وعدد الكلمات بينما كانت الكتابة على الورق لا تتمتع بهذه الميزة. فكنا نكتب دون أن نعرف حجم المادة إلا بعد دخولها للصف الضوئي أو في اليوم التالي حين تكون منشورة، وقد تفاجأ أنها صغيرة الحجم مثلاً.
وعن العمق الفكري لمن يتواصل مع الكاتب عبر الوسائط التقليدية الورقية مقارنة بمن يتواصل عبر الإنترنت، وأيهما يحمل إثراءً موضوعياً للمشاركة؟ أكد حوامدة أن الأعمق تأثيراً هو الكتاب، وقال: «مازلت مؤمناً أن الثقافة لا تأتي من الإنترنت، قد تأتي منه الأخبار، مواكبة الحدث خبراً وصورة، لكن العمق في الكتب والسطحية في الشاشة، إلا أن الأجهزة الذكية الجديدة (مثل الآيفون والآيباد) صارت توفر حتى الكتب، إلا أنني ما زلت مقتنعاً أن قراءة الكتاب نفسه تدخل العقل والروح مباشرة، ولا أعتقد أن الشاشة قادرة على اختراق الروح مثل الورق نفسه. أما التعليقات والحوارات والتفاعل فهي موجودة على النت وإن كانت العديد من التعليقات مجاملة وليست نقداً».
زين العابدين فؤاد الذي تحمل صفحته على الفيس بوك الكثير من الأصدقاء، قال إن هذا الأمر يتوقف على القارئ ذاته، مشيراً إلى أنه اندهش حين وضع قصيدة على صفحته بـ(الفيس بوك) ثم وجد دراستين عن هذه القصيدة، لم يكتبها ناقد محترف، وإنما شباب مثقف تواصل معه عبر الإنترنت، مؤكداً أنه اتفق معهم على نشر الدراستين عند طباعة القصيدة في كتاب. وأكد زين العابدين أن (الفيس بوك) أو (تويتر) هما أدوات للتواصل فقط، خاصة مع الجمهور بعد ثورة 25 يناير.. «أحياناً أكتب جملة بها تفاؤل حينما أجد أن الشباب مصاب بالاكتئاب».
عبدالمجيد أكد أن الجهد الذي كان يبذله القارئ قديم، أساسه محبة الثقافة ومحبة الكاتب، وكان نادراً، أما الآن فالتواصل سريع ولا يحتاج إلى جهد. ولكن هذا ليس معناه أن التواصل عبر الإنترنت غير مفيد، فهو له مميزات مهمة أهمها التواصل السريع مع القراء وتبادل الآراء التي يمكن أن تخرج منها أفكار جديدة. لكن معظم ما يقال على الفيس بوك لا يدخل ضمن ما يسمى العمق الفكري أو النقدي، وإنما مجاملات جميلة بين القارئ والكاتب الذي يتحول في أحيان كثيرة إلى معلق على رأي أضافه القارئ على صفحته بالفيس بوك، وذلك في حوار ثنائي، فلا تعرف من يؤثر في من.
مضيعة للوقت
سحر توفيق المترجمة والروائية المصرية صاحبة كتاب (فلاحو الباشا)، و(مذكرات صبي مجند)، أكدت أنها تعتبر الدخول على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) مضيعة للوقت في بعض الأحيان، هو فقط مفيد كمصدر للأخبار والتواصل مع القراء. وقالت توفيق: «منذ زمن وأنا أكتب مباشرة على لوحة بلاستيكية (الكيبورد) وأعتبرها طريقة جديدة في الكتابة، وهي مختلفة عن الكتابة مباشرة على الإنترنت، وخصوصاً ما يسمى بـ(المدونات)، الذي هو صنف أدبي جديد وممتع. وللأسف لا أمتلك مدونة، فهي تحتاج إلى جهد شبابي لا يتوفر لديّ».
وأيهما يحقق أهداف الخطاب ومنها مثلاً إقناع أو إحداث تغيير ما، خصوصاً في المقالات والكتابات ذات المنحى الإصلاحي كانتقاد جهاز حكومي أو خدمة معينة؟.. سألنا هذا السؤال لموسى حوامدة الذي بدأ نشر قصائده في ملحق الدستور الثقافي بداية الثمانينات حينما كان طالباً، ونشر أول مجموعة شعرية بعنوان (شغب) عام 1988 في عمان. ونشر في العام نفسه مجموعته الشعرية الثانية (تزدادين سماء وبساتين) وهي قصائد حب مكتوبة في أواخر الثمانينات، ولديه ثلاثة كتب نثرية في الأدب الساخر منها (حكايات السموع)، وهو أجاب قائلاً: «الإنترنت مؤثر أكثر للحدث اليومي وللحركات الشعبية، وغالبية الثورات العربية ساهم فيها النت بشكل أو بآخر، وبخاصة عنصر الزمن الذي ساهم النت في تقليله إلى زمن غير مسبوق، أما فكرياً فلا أظن أن النت حلَّ محل الكتاب».
للتواصل فقط
الشاعر زين العابدين أكد أن (الفيس بوك) بالنسبة إليه «موقع للتواصل فقط، والإنترنت يساعده على قراءة الصحف، خصوصاً الأجنبية، لكن القراءة لا تكتمل إلا بقراءة كتاب مطبوع، حيث الاستمتاع أكبر والإحساس بالمادة أفضل. الفيس بوك وتويتر أدوات للتواصل، لا أكثر. وأذهب إليهما عندما أود التعبير السريع عن فكرة أو خاطر».
أما السؤال الملح فكان هل نحن أمام عصر جديد (هيمنة الصورة)، وهو عصر يمهد لاختفاء أشكال التواصل الرأسي (خطاب موجهة من أعلى إلى أسفل) إلى شكل جديد يكون فيه التبادل الثقافي أفقياً؟ أجاب حوامدة: «هذا صحيح نحن في عصر جديد هيمنت فيه الصورة على وسائل الإعلام، لكن شكل الخطاب اختلف فلم يعد هناك آباء للكلمة، ولم تعد السلطة أي سلطة قادرة على احتكار الحقيقة، وصارت الحكومات في حالة ارتباك حيث كانت سابقاً تحتكر المعلومات، وتمنع حرية التعبير وهي اليوم في حالة ذهول؛ لقلة تكلفة إيصال المعلومة كما أن بإمكان الإنسان العادي أن يقول رأيه وكلمته، وبالطبع ستفرز هذه التغييرات منطقاً جديداً للحكم، فلا يمكن أن يظل الاستبداد قادراً على النجاح في عصر بلغت فيه الحرية حداً لا سابق له، وبالمقابل نخشى أن يفتت ذلك الكيانات الثقافية السابقة وتبرز الخصوصيات على السطح وتصير الحياة أقرب للفوضى، وإن حدث ذلك اعتقد أنه سيكون مؤقتاً؛ لأن وسائل العصر اختلفت ولابد أن تختلف وسائل التربية وأساليب الحكم وطرق تداول السلطة، باختصار رفعت وسائل الإعلام الحصانة التاريخية للحكام وفعلت فعلها بقصص (ألف ليلة وليلة) وأمرائها، وصار بإمكان أي إنسان أن يكون سندباداً وملكاً وصاحب قصة، وليس بالضرورة أن تظل القصص والحكايات مرتبطة بالملوك وأميرات القصور».
وعن عدد الصفحات الشخصية وصفحات المعجبين في فيس بوك لكل من الكتّاب الذين تحدثنا معهم. حوامدة قال: «لم أحص عدد الصفحات فهي كثيرة في الجوجل والفيس بوك، أما عدد المعجبين أو الأصدقاء فهم يزيدون على ثلاثة آلاف وخمسمائة مع حرصي على عدم زيادة العدد من أجل الزيادة نفسها. ودخلت (تويتر) مجدداً بتشجيع من زوجتي، ولست نشيطاً عليه، ومع ذلك صار عدد المتابعين 161 متابعاً. ومازلت غير مقتنع بجدوى التويتر مثل الفيس بوك»، أما زين العابدين فأكد أن صفحته تشهد 5 آلاف صديق فضلا عن 3 آلاف ينتظرون الموافقة على الصداقة، موضحاً أن بعض أصدقائه أسسوا له مدونة بعنوان (وش مصر)، أما عبدالمجيد فقال إن لديه نحو 5 آلاف صديق، وقائمة الانتظار تضم الكثير.