عنوان مستفز وفاقد لكل أصول «الصواب» وأعراف الآداب، لكن جرأته وصراحته هي ما يشكل نواته اللذيذة بلذة النص ومتعة القراءة معاً.
ومما لاشك فيه أيضاً أن هذا العنوان «المر» مرارة شجرة الدفلى الجميلة سوف يجعلنا نعيد عقارب الكتابة من جديد إلى سؤالها القديم: لماذا نكتب؟ كما سيدفعنا إلى البحث من جهة أخرى في فعل الكتابة كظاهرة وسلوك باتولوجي عند فئة قليلة من الكتاب إذا ما نقلنا النص (المريض) على حد قول القاص المغربي با إدريس (الدص) الخوري في مجموعته القصصية (يوسفه في بطن أمه) أقول إذا ما نقلنا هذا النص المريض إلى سرير مقابلات وتحاليل علم النفس كما نظر لها سجموند فرويد وأحفاده من بعده.
أما الإسهال في علاقته بالكتابة فلأنه حالة مرضية عضوية تجعل المريض يفقد على إثره السيطرة على كوابح أحشائه إلى درجة أنه يتمنى السكن في «بيت الراحة» على أن يعيش بين رحلات مكوكية، مقلقة ومهرولة بين كرسي الكتابة وكرسي المرحاض..
يقينا أن الكاتب الحقيقي ما هو إلا بشر مثلنا.. قادته ديكتاتورية القدر إلى الكتابة وأينعه مشتل المجتمع وحملته رياح الثقافة وصدمته يقظة الوعي واصطفته نواميس الوجود وطوحت به ألاعيب النسبية إلى الكتابة.. بمعنى أن كل مواطن هو كاتب مفترض إلى حين أن يمارس عادة الكتابة عن طريق الصدع بالقلم بما يأمره به فكره وعقله وأحاسيسه ولعل أجلى ما يأمر به أساساً هو كشف المستور عن الثقوب السوداء في الذوات الاجتماعية واختلالاتها وأيضاً قرع أجراس التنبيه والتحذير لمن يهمهم الأمر عن تردي أوضاع واستقرار الشأن العام.
والكاتب أيضاً هو صانع أحلام ومخترع البدائل ومبدع التوازنات التي قد تنجي السفينة المجتمع من تايتانيك محتمل.. وأخيراً وقبل كل هذا وذاك؛ فالكاتب إنسان كاد أن يكون رسولاً، لا يخشى في قول كلمة الحق لومة لائم حين يخشى المتسلقون والمتزلفون والمهرولون النبس بها حفاظاً على أرصدتهم في متع الحياة العابرة..
يبدو مما سلف أن التعبير الأدبي والتواصل عبر الكتابة يظل إذن ضرورة ثابتة وحاجة وجودية أساسية للفرد وللمجتمع على حد سواء، لا تختلف عن الأكل والنوم والترفيه والصحة والعمل، وهي أيضاً - الكتابة - مكون أساس في منظومة الهوية الوطنية وعنصر فاعل في إثراء الرأسمال اللامادي للوطن.
والكتّاب في وطننا العزيز مرجعيات وأمزجة واتجاهات متباينة في مختلف سيرهم الفكرية والأيديولوجية والأدبية.. فيهم الأقمار الرصينة، الساطعة التي تسري في العلياء بهمسها البليغ والحكيم.. هم كتاب ينثرون ورودهم في طريقنا ويعلنون عن ذرر أفكارهم الوازنة التي لا يعلو عليها النفط والغاز مرتبة ثم ينصرفون بوقار تاركين من خلفهم آثار أنوارهم وتنويرهم لنا ولأحفادنا للسير على نهجها..
وهناك في الضفة الأخرى من بحر الكتابة بعض الكتاب السيكوباتيين وهم لحسن حظ الأدب ولطف الأقدار الثقافية قلة قليلة جداً.. إنهم أولئك الذين يطلعون بغتة على سطح فنجان قهوتك كل صباح مثل ذبابة سيئة الحظ، وبات حضورهم كل يوم لا يختلف عن (البوانتاج) اليومي للموظفين القابعين في حضيض السلالم الدنيا.. هؤلاء ليسوا صحفيين ولا إعلاميين في جرائدنا اليومية، المقاومة و»المقاتلة» من أجل البحث بالريق الناشف عن المعلومة والقبض عليها مثل القبض على الجمر من أجل تقديمها طازجة للقراء مع نسمة كل فجر جديد.. بل إن هؤلاء هم كتاب وما هم بكتاب، يمتهنون الكتابة من أجل الكتابة ليس إلا.. مثل من يمارس عادة الأكل من أجل الأكل وليس من أجل العيش والإنتاج ومثل من يمارس عادة الثرثرة من أجل الثرثرة وليس من أجل كلام ينم عن رصانة ومسؤولية فكر.. بعضهم هؤلاء الكتاب صار مثل قادوس معطوب يفيض في الشارع العام بالليل والنهار من دون أن تهتم به مصلحة النقد ومن دون أن يعي هذا القادوس أن عليه أن يبحث عن مكمن ثقوب التسربات (ليفويت) في نصه المريض بدل الاعتداد بثرثراته اليومية التي لن تسعف لا الثقافة ولا الفكر في الخروج من أزمة التكرار والإحباط العام.