يفضل أحمد نادر، ابن التاسعة عشرة، إرسال رسالة واحدة لعائلته وأصدقائه عبر (واتساب)، لمعايدتهم بقدوم شهر رمضان المبارك. الشاب الذي يعيش حياة سريعة، بين صفوفه الجامعية في إحدى جامعات بيروت، والعمل في أحد مطاعم العاصمة؛ لا يستطيع تخصيص رسائل محددة للناس، فالانشغال بساعات طويلة يومياً، لا يبقي له أي فرصة كي يرسل لكل واحد رسالة خاصة به، يقول إن (الحياة أسرع مما نتصور، والوقت يمضي).
يحاول أحمد، إيجاد صيغ وعبارات ليست (كليشية)، في رسالته، التي يختصرها بجملتين، (يكفي أن تعايدهم جميعاً، بنفس الجمل وتمر المناسبة)، يقول، وهو يوضح أنه يتمنى لو كانت له القدرة والمساحة ليرسل للبعض رسائل خاصة، (أحياناً أرسل عبر فايسبوك أو واتساب رسائل أخص بها بعض المقربين مني. مثلاً، بعض رفاقي المقربين أو شقيقي المسافر، لكن بشكل عام ليس لدي الوقت. وبعضهم أصلاً ينزعج. البعض لا يحب أن تفرض عليه رسالة ما).
محاولات أحمد، تشبه معظم محاولات أبناء هذا الجيل الذي يفضل الرسائل (الشاملة)، للمقربين والأصدقاء؛ على تخصيص رسالة لشخص واحد. هذه (الموضة) التي يعدّها هؤلاء (غير دارجة)، لم تكن في يومياتهم ولا يعيرونها أية أهمية. لكن آباء هؤلاء لا زالوا يعتزون أنهم أولاد الزمن الجميل، حين كان للورق والبطاقة حضور آسر.
والدة الشاب رامي العبد، لا تزال تحتفظ في أرشيفها الشخصي برسائل معايدة وبطاقات جميلة مزينة، بخطوط ملونة وبعضها بأقمشة، في جارور تهتم به دوماً. تؤكد السيدة نبيهة: (الحياة تغيرت كثيراً، ووسائل التواصل بين الناس أفقدت المعنى الحقيقي للتواصل)، مشيرة إلى أنها تتمنى لو أن هذا الجيل استطاع أن يخوض هذه التجربة الحميمة، في إرسال رسائل شخصية بين بعضهم البعض.
تحتوي (سلة) السيدة، على رسائل من خطيبها الأول، ومن شقيقها جمال، الذي درس في روسيا الطب، (لم يكن لدينا إنترنت حينها. كنا نرسل رسائل نكتبها على مدى أيام، ونفكر بها، مرفقة ببطاقة جميلة، نخط عليها أيضاً، معايدات في المناسبات الخاصة). وتضيف، السيدة الخمسينية، (كان شقيقي يرسل لي أيضاً، بطاقات معايدة من بلاده، عليها صور من موسكو أو مجسمات سياحية). مشيرة إلى أنه توقف عن ذلك، بعد أن صار لديه هاتف ذكي، (صار لدي واتساب، وصار يهاتفني عبره. لكن أعترف أن الرسائل الحميمية لن تتكرر).
العادة المفقودة اليوم، بين جيل الشباب، يراها علي موسوي (26 عاماً)، بالية، يقول: (لا قيمة اليوم للورق، وليس له ضرورة. يعني يمكنك أن ترسل رسالة بشكل مجاني وتصل أسرع، ولا كلفة فيها، لماذا ستلجأ إلى الورق؟! أصلاً اليوم هناك رسائل جاهزة على غوغل أو مواقع التواصل الاجتماعي؛ فما الحاجة لرسائل وبطاقات معايدة والتفكير بكتابتها سيستغرق وقتاً، بلا طاقة لنا على تحمله).
تختلف إسراء في وجهة نظرها مع علي، لا تزال الصبية العشرينية تواظب على إرسال بطاقات معايدة لوالدها الذي يعيش في أفريقيا. (دوماً أحب أن أرسل له بطاقات اختارها بعناية. كنت سابقاً أختار بطاقات عليها صور لأماكن عربية وعالمية، مشهورة سياحياً، مثل الأهرامات أو برج إيفل، أما اليوم فأختار بعض الصور الجميلة وأصممها أيضاً، وأذهب إلى المطبعة كي أنفذها. صار بإمكاننا بسبب التقنية أن نخترع بطاقات معايداتنا. لكني مازلت أحب أن أكتب عليها بخط اليد). تدوّن إسراء، على البطاقات جملاً تبتكرها، أو تسجل أحداثاً ما تربطها بوالدها، (أعتقد أن البطاقات شيء حميم للغاية، وعلينا الحفاظ عليها. لا بد من أن تكون حياتنا مليئة بهذا الشغف).
لكن كثيرين من مجايلي إسراء، لا يعرفون أصلاً بطاقات المعايدة. ربيع (18 سنة) واحد منهم، يفكر الشاب أن هذه البطاقات هي (سياحية)، ولم تكن لديه فكرة عن أن بعضها يمكن استخدامه في مناسبات عامة أو للتذكير بأمور معينة أو للاحتفال بشيء حميم بين شخصين. (أنا ابن جيل الواتساب)، يقول، وهو يبتسم بابتسامة عريضة، مبرراً جهله للأمر: (نحن نعرف أنه يمكنك أن ترسل رسالة واحدة عبر مجموعة تجمع فيها أسماء وأرقام من تعرفهم، ومن لا ترتبط بهم.. فقط علاقات عابرة.. وتعايدهم)، موضحاً (أصلاً المعايدات موضة قديمة، ومضجرة، أتفادى في أيام العيد هاتفي، كي لا تصلني طوال الوقت رسائل المعايدات والتبريكات الكثيرة.. إنها مملة).
يبدو أن هذه الصلة الحميمة، التي وفرتها يوماً ما الرسائل والبطاقات التعبيرية؛ لم تعد لدى هذا الجيل، ذات أهمية. لكن مع تطور مواقع التواصل الاجتماعي من (فايسبوك) و(تويتر) و(إنستغرام) و(واتساب)، يبدو أن فكرة التواصل فقدت بريقها، أمست كل الرسائل متشابهة، وليس فيها أي خصوصية أو نبرة مميزة. تقول جويل معتوق إن (التواصل عبر الرسائل المكتوبة له وقع مختلف وعميق، يمكن الاحتفاظ بالرسالة والانفعال أيضاً من خلالها، وتذكرها والرجوع إليها، وتخصيص مكان لها. لكل هذا رمزية نفسية تضيف معنى ما. أما ما يرسل عبر مواقع التواصل فهو ضئيل ومحدود وليس فيه أي حضور كما الورق).
لكن، هناك نظرية تقول إن لكل عصر لغته ووسائله، ويطرح اليوم، إيجاد وسائل تواصل عابرة، وبعضها لا زال متخيلاً، كما نراه في أفلام (الخيال العلمي)، من تواصل عبر الشاشات، وعابر للزمن والوقت، وفي بعض مدن العالم، يقتصر التواصل اليومي أصلاً، بين أفراد عائلة واحدة، كما في طوكيو، على رسائل نصية. انعزال تفرضه مواقع التواصل، يفقد ليس للورق معناه، بل أيضاً للحياة نفسها.