مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الذات بين السيرة والشعر

 

يتطلب ميثاق السيرة الذاتية (الميثاق الأوتوبيوغرافي Autobigraphie)؛ وجود نوع من التعهد أو الميثاق بين الكاتب والقارئ، بخصوص حقيقة السيرة، وواقعية شخصياتها. وتحت مظلة هذا الميثاق من الوارد أن تُستبعد رواية السيرة الذاتية؛ لكن ماذا عن الشعر، وتحديداً قصيدة السيرة الذاتية؟
هل يمكن قراءة سيرة الشاعر من خلال القصيدة؟ أو بتعبير العقاد، في العنوان الفرعي لكتابه عن ابن الرومي «حياته من شعره»؟ القصيدة في ضوء السرد ومقولاته تحمل ميثاقاً خيالياً، والسيرة النثرية تحمل ميثاقاً واقعياً؛ فهل يمكن استثناء قصيدة السيرة الذاتية، لقراءتها من خلال ميثاقين مختلفين: الواقع والخيال؟ فالقصيدة تتأسس على التخيل، والمبالغة والانفعال، وتُقارب الرمز، وتسعى للمثال، والسيرة النثرية تتأسس على سرد الواقع والحقيقة، وتُقارب الوثيقة، وتتغيا الصدق، أما الاعتراف السيري فهو إقرار، وشهادة على النفس أو الغير.
في تعريفه للسيرة الذاتية وحدودها، يستبعد الناقد الفرنسي فيليب لوجون (ولد 1938) الشعر، وينفي أن تكون السيرة شعراً، أو الشعر سيرة. فحدّ السيرة الذاتية لديه يتلخص في: «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة». فالمبدأ المتعلق باللغة هو نثري بالأساس، وهو شرط غير متحقق في القصيدة؛ إلا إذا كانت موسومة بالنثرية، والضعف، بحيث لا تعد قصيدة أو شعراً، وبالتالي تندرج قصيدة السيرة الذاتية ضمن الأنواع المشابهة للسيرة الذاتية (مثل الرواية الشخصية، والسيرة الغيرية، وهما تفتقدان مبدأ التطابق بين المؤلف والشخصية الرئيسة). والسيرة الذاتية لدى لوجون لا تحتوي على درجات: إنها كل شيء أو لا شيء.
من زاوية أخرى، فإن المقاصد في كل من الشعر والنثر متباينة، فالشعر يتحرّى التأثير الشديد في المتلقي، ويخاطب الوجدان، والعاطفة مكون عضوي من مكوناته، إن مقصده الأعلى القلب تعبيراً وتأثيراً، أما النثر فيتحرّى المنطق، ويلتمس تأييد القارئ، ويخاطب الفكر، والاستعانة بالدليل والشاهد عنصر من عناصر قوته، إن مقصده الأعلى العقل عرضاً وإقناعاً.
هل يحول هذا التباين دون التماس سرد الذات في الشعر؟
إن النظر إلى فضاء السيرة الذاتية يدلنا على مستوى شامل للمفهوم، انتهى إليه لوجون نفسه في خلاصته: إنها صيغة قراءة بمقدار ما هي نمط كتابة، إنها أثر تعاقدي متغير تاريخياً.
ويمكن أن يساعد على هذه المقاربة انفتاح آلية التلقي، وهي تبحث عن الذات، وضم شتات الهوية المتناثرة في أكثر من جنس أدبي، وتؤيد ذلك رؤى شعرية، تحصر الشعر في تعبيره عن فكر الشاعر وذاته، ولعل حسان بن ثابت (ت: 54 هـ) مثالها القديم، حين يقول:
وإنَّ أشعرَ بيــــــتٍ أنت قائُـــــــــــــــلُه
وإنما الشعرُ لبُّ المرءِ يعرضُه
بيتٌ يُقال إذا أنشدتــَــــه: صَدَقــــَـــا
على المجالسِ إن كَيــْسًا وإن حُمُقَـــــا
فالشعر -والغنائي قصاراه- معرض العقل في حالات توفيقه، وفي حالات إخفاقه، والبارودي (1904م) يصرف النظّارة عن صورته الشخصية، ويدعوهم إلى قراءة نفسه من خلال شعره:
فانظر لقولي تجد نفسي مصوّرةً
في صفحتيه، فقولي خَطَّ تمثالي
وعلى الطريق ذاته، يحدد شاعر معاصر مثل الشابي (1934م) أبعاد صلته بالشعر، إنه قصة الحياة، وصورة الوجود:
أنت يا شعر قصةٌ عن حياتي
     أنت يا شعر صورةٌ من وجودي
أنت يا شعر -إن فرحتُ-
   أغاريدي، وإن غنت الكآبةُ عودي
وعلى أساس جوهر هذه الفكرة، اكتفى كثير من الشعراء بالشعر، ولم يكتبوا سيرهم الذاتية، فالشعر يُغني، والقصيدة جزء من سيرة، يقول محمود درويش (ت:2008م): «ما يَعْني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد، وهناك قول مفاده أن كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتوبيوغرافية أو سيرة ذاتية».
والشعر العربي غنائي من قديم، وكما عبر عن الذات الجمعية، عبر عن الذات الفردية، وكشف عن أشواق النفس وتطلعاتها، وعن آلامها وانكساراتها. وعندما يحاور الشاعر ذاته، ويجعلها موضوعا؛ فإن هذا الموضوع لا يخص الشاعر وحده، وإنما يشمل الإنسان في كل زمان ومكان، فالتجربة إنسانية في مبتداها ومنتهاها، ولهذا يرى كروتشيه: «أن التعبير الذاتي في الشعر الغنائي موضوعي بطبيعته، لأن الشاعر يجعل ذاته موضوعية، وكأنه يتأملها في مرآة، فتعبيره ذاتي في نشأته، ولكنه موضوعي في عاقبة تعبيره».
وكما تجمع القصيدة بين الذاتي والموضوعي في آن؛ فإن السيرة الذاتية تتخذ سبيل الشعرية أسلوباً وأداء، وتمزج بين الشعر (موطن الخيال) والحقيقة (مقصد السيرة). وهذه السبيل، وذلك المزج فحوى العنوان الدال لسيرة شاعر الألمان الشهير يوهان ولفجانج جوته (ت:1832م) «شعر وحقيقة». وينشر نزار قباني (ت: 1998م) سيرته تحت عنوان «قصتي مع الشعر»، وهو يفتتح فصلاً بعنوان «الولادة على سرير أخضر»، هكذا: «يوم ولدت في 21 آذار (مارس) 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة، كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة، وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء.. الأرض وأمي حملتا في وقت واحد.. ووضعتا في وقت واحد».
وهي افتتاحية زاخرة بالمجاز، ويمكن قراءتها بمنطق الخيال الشعري، والنثر الشاعري الذي يصور سعادة الكون بهذا المولود الاستثنائي! وهو تصوير يقطر إعجاباً بالنفس، ويلامس أجواء أسطورة نرجس.
ويتقدم الشاعر غازي القصيبي (ت: 2010م) خطوة أبعد مدى في طريق مزج السيرة بالشعر، فيعنون سيرته الذاتية بعنوان «سيرة شعرية»، وظهر أن فصل سيرة الشعر -كما حاول- عن سيرة الذات من الصعوبة بمكان؛ لذا لم يجد مفرّاً من إيراد أجزاء من السيرة الذاتية في أماكن متفرقة من الكتاب. لكن اللافت هو ما يهدف إليه الشاعر من وضع كتابه، فيرى: «أن يكون عوناً للباحثين الذين يتعرضون على نحو أو آخر لأشعاري، ودليلاً أمام قارئ الشعر العادي يسهل له عملية السفر داخل دواويني».
وهو هدف أدخل في أفق السؤال المطروح في استهلال هذه الدراسة: هل يمكن قراءة السيرة من خلال الشعر؟ إنه يريد ببساطة أن نقرأ أشعاره من خلال هذه الإضاءات الشعرية والسردية، ولا يريد الفصل بحال بين شخصية الشاعر وشخصية الإنسان. و»سيرة شعرية» توفّر ذلك بجدارة، فالنصوص الشعرية تزاحم السرود النثرية في كل الفصول، والفصول نفسها تحمل عناوين الدواوين (مثل: أشعار من جزائر اللؤلؤ، أبيات غزل، أنت الرياض، العودة إلى الأماكن القديمة، ورود على ضفائر سناء، مرثية فارس سابق)، ويلحق بجزئي السيرة مختارات سخية من أشعاره، حتى يمكن وصف هذه السيرة بأنها قراءة تاريخية في دواوين شاعر، وهي تمثل خطوة واسعة على درب سار فيه من قبل نزار قباني في «قصتي مع الشعر»، ومن قبلهما صلاح عبدالصبور في «حياتي في الشعر» الصادر في العام 1969.
وفي حسباني أن الصلة قائمة بين السيرة والشعر من جهتين مهمتين: الأولى جهة السرد، وهو في أقرب تصوراته خطاب حكائي، يُنقل فيه الحدث من صورته الواقعية أو الخيالية إلى صورة لغوية. وصلة الشعر بالسرد والدراما عموماً، هي صلة الذاتي Subjective، بالموضوعي Objective، وتستند في عراقتها إلى ازدهار الشعر عند اليونان، ونشأة الدراما كانت شعرية، في المسرحية والملحمة، ثم استقلت القصيدة الغنائية. وكما أن صفة الغنائية غير كافية لحصر الغناء في هذا اللون من الشعر، فكذلك لا تنحصر صفة الموضوعية في القصة ونظمها، فالمنبت المشترك يترك ملامح مشتركة، وليس بمستبعد أن تكون أوّليات الشعر العربي المفقودة، قد استندت إلى لون من القص بدرجة أو بأخرى، وهل من المتوقع عند ذاك، أن تنأى أيام العرب، وحروبها في الجاهلية، وأمثالها ذوات الموارد القصصية، عن ديوانها الأول الشعر؟ واللوحات القصصية تجد طريقها في أشعار امرئ القيس، وجميل بن معمر، وعمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس.. وغيرهم من شعراء ما قبل الإسلام وما بعده.
بهذه المرجعية، فإن السرد أداة (وخيار تقني)، تتجلى في الأشكال الأدبية الوصفية ومنها الشعر، وفي الأشكال السردية ومنها السيرة الذاتية. والسرد -أيضاً في تأسيس مهم- فضاء لتشكيل الهوية بوجهيها الفردي والجمعي، ومن المحمود أن تتجه الدراسات الأدبية إلى إعادة قراءة (نوعية) للمدونات الشعرية العربية، انطلاقاً من مقولات السردية، وخطابها اللساني، وهو ما سعت إليه قراءة محمود العشيري في نصوص (المفضليات)، واتخذت عنوان (الشعر سرداً). يقول: «عندما يقدم الشعر العربي سرده؛ فإنه يقدم مجمل أبعاد الذات العربية، وبنياتها الذهنية والفكرية. إنه يقدم جانباً من الهوية السردية للذات العربية».
التلاقح قائم بين الشعري والسردي، على مستويات الفعل الإبداعي، كما يتلاقح كل منهما مع فنون الرسم والتصوير، وتكنيكات السينما والمسرح والإيقاعات الشعبية، أما المقاربات التي تتعسف في التفضيل والتفاخر، وإعلان (زمن الرواية)، أو (موت الشعر)، فإنها لا تغني شيئاً، ولا تُظهر غير بقايا نزوع قبلي، وجنوح إقصائي.
أما الجهة الثانية، فهي جهة الاعتراف السيري، وفيه تتجاوز السيرة الذاتية الصدق النسبي، لتصل إلى الصدق المتوهج أو أقرب درجة إلى الصدق الحقيقي، عندما يُظهر المعترف الأدبي الخفي من جوانب حياته، ويبسط دخائل نفسه، يسرد الحقيقة انعتاقاً من عبء الكتمان. إنها تبدو لي منطقة التوهج في السرد الذاتي بألوانه المختلفة. وعند تذكر كلام برنارد شو الساخر عن اعترافات روسو؛ فإن دلالته غير خافية أيضا، يقول: «أنا من القلائل الذين قرؤوا اعترافات جان جاك روسو من بدايتها إلى نهايتها؛ أستطيع أن أشهد بأن روسو، بعد أن توقف عن مغامراته، وهو شاب وغد.. أصبح جان جاك روسو مثل غيره لا يتميز بشيء خاص». كلام شو يفضي إلى أن السيرة العادية التي تكتفي بإبراز جوانب البطولة والشرف والمجد، وذكر قائمة الأسلاف والآباء، وتفصيل الرحلات والمغامرات -وهي جوانب بالتأكيد مفيدة للتاريخ والاعتبار- ليست متميزة بالقدر الكافي، وتكتسب السيرة هذا البعد من التميز حين تقدم الإنسان شخصية واقعية من لحم ودم، تَسقط وتنهض، وتتسع للمتناقضات التي تزخر بها الحياة، وتكشف عن التقلب الفكري، والتطور الروحي للسارد الذاتي.
وفي الاعتراف يتجاوز المعترف الأدبي محاذير عدة تمنع وجود سيرة ذاتية مثالية، مثل الكذب، الخطأ، الرقابة، الإسقاط، الصمت، وإن بقيت المثالية مطلباً عسيراً في كل الأحوال، فما زالت هناك محاذير تعوق هذا المطلب مثل المغالاة، والتمويه، والتبرير، والتعديل، والنسيان.
والتخيل في الشعر حجاب وغموض وجنوح، ربما يأخذ الشعر إلى أفق مغاير، لكنه لا يمنع من الاعتراف، كما لا يمنع السرد في السيرة من التخيل لسدّ الفجوات على الأقل. الاعتراف منطقة مشتركة، وذروة يصل إليها المنشئ في كلا الفنين، ليهتف عندها المتلقي: هذا الكلام كاشف عن نفس صاحبه.
ولا يزال حديث الأستاذ العقاد عن الشاعر والحياة مبيناً لما نتوخاه في هذه السبيل، حين يرى أن مزية الشعر التي لا غنى عنها، ويختلف كل شاعر منها؛ هي الطبيعة الفنية، إنها «تلك الطبيعة التي تجعل فن الشاعر جزءاً من حياته، أيًّا كانت هذه الحياة من الكبر أو الصغر، ومن الثروة أو الفاقة، ومن الألفة أو الشذوذ، وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئاً واحداً، لا ينفصل فيه الإنسان الحي من الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته، فديوانه هو ترجمة باطنية لنفسه، يخفي فيها ذكر الأماكن والأزمان، ولا يخفي فيها ذكر خالجة ولا هاجسة مما تتألف منه حياة الإنسان».
وكما يتسق حديث العقاد مع منظور التحليل النفسي، فإنه يمكن أن يتسق -بوجه أو بآخر- مع مفهوم الشخصية النفسية التي تظهر، كما يرى تودوروف في النصوص السردية متمركزة حول الدواخل النفسية لشخصية معينة، كما يمكن أن تلتقي مع فكرة التماهي السردي أو الحكائي، حيث تضيق المسافة بين الراوي والكاتب، ويحفل بها الخطاب الشعري.
إن صورة اعترافية دالة، تتسلل إلى النص السيري ربما كانت أكثر ترجمة وكشفاً، من عشرات الصفحات السيرية الخالية من تلك الصورة، إنها جوهرة ساطعة في خضم التشابه والتكرار، وإذا كانت شخصية الشاعر المتنبي تبين من خلال شعره، شخصية زاخرة بالاعتداد بالذات والزهو والكبرياء، وطموح رجل يرى نفسه «كصالح في ثمود»؛ فإن قصيدته في «الحمى» تقدم جانباً آخر حقيقياً، من الضعف الإنساني حين تجتمع عليه آلام المرض، وآلام الغربة.
وتمثل القصيدة الفراقية أو «عينية» ابن زريق البغدادي (ت: 342هـ) أنموذجاً اعترافياً فذّاً، حين تكون خلاصة مركزة لتجربة حياة، ورحلة طويلة، بعيدة في الزمان والمكان، وحين تستبد الغربة بكيان الشاعر، فيَلقى منها «كل يوم ما يُروّعه»، وحين يكون الفراق كأساً مترعة بالآلام، وضنى في القلب والجسم، وتأتي الذروة عندما يعترف الشاعر بخطئه، ولكنه خطأ لا يخلو من حكمة بالغة:
رُزِقْتُ مُلكًا فلم أُحسن سياستَهُ
             كم قائلٍ لي ذُقْتَ البين قلتُ له
وكلُّ من لا يسوسُ الملكَ يُخْلَعُه
              الذنبُ واللهِ ذنبي لستُ أَدْفَعُه

 

ذو صلة