مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بين الإعلام والتعليم

اللغة العربية لغة عالمية يتحدث بها قرابة 370 مليون إنسان ويُلِمُّ بها على نحو أو آخر قرابة المليار وربما أكثر بكثير، ولكنها تتعرض لتحديات لا تنسجم مع مكانتها في الثقافة الإنسانية، ولا تتناسب مع حضورها في الحياة المعاصرة.
 ولا نستطيع أن نفسر على وجه الدقة السبب الذي أدى إلى تراجعها تراجعاً مذهلاً في حقول التعليم والإدارة والإعلام، فمنذ ما يزيد على ثلاثة عقود كانت وزارات التربية في العالم العربي تشرف على العملية التربوية برمتها وكانت المدارس الخاصة على الرغم من قلتها تنشط بكفاءة في مجال تعليم اللغة العربية، ومن المعلوم أن المدارس الحكومية في بلدان العالم العربي كانت تقدم تعليماً متميزاً في المواد التعليمية كافة، بيد أن الحال تغيّر هذه الأيام، وباتت الشكوى عامة والتذمّر على كل لسان، على الرغم من ضخامة الإنفاق أحياناً، وكأن بنية التعليم في العالم العربي واحدة، إذ فاق عدد الطلاب في المدارس الخاصة ومنها المدارس الأجنبية عدد الطلاب في المدارس الحكومية، وترك لبعضها الخيار في ألا تدرس اللغة العربية أو تُدرّس بها، وأصبحت مادة اللغة العربية مهملة في المدارس ولا تستقطب الطلاب المتميزين في الجامعات، وأصبحنا نرى نتائج هذه الحلقة المفرغة من الضعف المتراكب، حيث تُغذّي كلٌّ لاحقتها ثم سابقتها بالأضعف فالأضعف حتى أصبحت اللغة العربية بضاعة مزجاة يسومها كل مفلس.
ولم يقتصر الضعف على الطلاب في المدارس وفي المرحلة الأولى من التعليم الجامعي بل امتد على نحو مشين إلى الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه بسبب التهاون الفاضح في سياسة القبول وفي معايير التقويم. ومن المعلوم أن المحاكاة أساسية في التعليم، فكيف نتوقع من جيلٍ أن يكون متقناً للغته، والقائمون على التعليم يعانون من القصور في المعرفة والفهم والكتابة والمحادثة.
وبدت مقولات خاطئة مصدرها الجهل والتهاون تغزو سياسات التعليم، فالمحاباة وغض النظر يمكن أن يتم في بعض المجالات ولا نقرّه طبعاً، ولكن ضررها أقل بكثير من المحاباة في تعيين المدرسين والأساتذة الضعاف، فناتج هذه المحاباة لا ينعكس على شخص بعينه بل على جيل أو أجيال بل على تقدم الأمة بأسرها.
وأخطر من ذلك السياسات التي تقصي اللغة وتجمدها ولا تدع لها فرصة الحياة في التعليم والإدارة، وهي سياسة لا تقوم على أسس علمية بقدر ما تقوم على أهواء أو رغبات تعطل قدرة اللغة على مواكبة العصر، وتعزف الجهات المختصة في العالم العربي في الأغلب عن تبني مشروع ترجمة ضخم، يوضع في أولوية الأولويات لترجمة ما تنتجه العقول في كل العلوم والمعارف لتحصل الفائدة المحققة للغة ومستعملها معاً. فالترجمة كما أشرت قبل أكثر من عشرين عاماً هي بوابتنا إلى العصر.
فحين أقصيت اللغة العربية عن تعليم العلوم التطبيقية والهندسة والطب في الجامعات، بل أُقصيت في بعض الجامعات عن تخصصات العلوم الإنسانية، ضاق عليها الخناق، وبات الذي يتحدثها في المحافل الرسمية والاجتماعية يتحسّس رأسه، لأنها ترتبط بما يبعث على الخجل والدونيّة. وكان يمكن تلافي ذلك بالترجمة أولاً، وتعلم اللغات الحديثة على نحو منهجي، لا كما يتعلم الطلاب هذه الأيام، إذ تصبح اللغة الأجنبية عبئاً على الدارس وتكون حصيلته من اللغة ومن المادة التي يدرسها ضئيلة جداً.
وقد استجد في حياتنا تحدٍّ آخر، وهو أن اللغة العربية أُقصيت من لغة الإدارة، فكل التقارير والمراسلات والمدونات تُكتب بلغة جانبية وغالباً ما تكون اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، زِد على ذلك أن الاجتماعات حتى بين الإداريين العرب تُدار بلغة أجنبية، ولا مسوغ لذلك إلا التباهي بلغة القوي الذي يفرض ثقافته وحضارته بقوة السلاح.
وثالثة الأثافي الإعلام، فقد درجت محطات الإذاعة والتلفزة، قبل عقود، أن تخاطب المستمعين والمشاهدين بلغة عربية سليمة يقوم عليها مذيعون مهرة حاذقون يقدمون اللغة في أرقى صورها عن طريق المحاكاة، ولكن محطات الإذاعة والتلفزة تعيّن في الأغلب مذيعين لا يتقنون العربية وتلجأ غالبيتهم إلى لغة عامية، بل سوقية وركيكة ذات مضامين تافهة تهبط بالمعرفة وبالذوق العام. وليست اللهجات العامية عدواً للغة العربية الفصيحة، بل هي رديف لها، وتحمل من غنى المعجم ما ضاع من اللغة الفصيحة، ولكن العامية هنا هي العامية الفقيرة التي فقدت أهم روابطها بالحياة والثقافة وأصل اللغة.
وأمرُّ من ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي عبثت باللغة بما لم يتوقعه أحد في النحو والصرف والإملاء والكتابة، وراح بعض الشباب والشابات يلجؤون إلى كتابات روايات تفاعلية طويلة جداً بالعامية في منتهى الهزال والتفاهة، وراح بعض الناس يمجدون لهجاتهم المحلية تعبيراً عن الانتماء والهوية.
 لقد نشأت أجيال تنفر من لغتها بل تحتقرها وتتحدث في مجالسها ونواديها وهواتفها بلغة أجنبية ولعل مناهج تعليم اللغة العربية أيضاً وراء ما تجابهه هذه اللغة العظيمة من تحديات. ولا أقصد بالمناهج وثيقة المادة أو كتب المادة المختلفة ولكن المدرسين أيضاً الذين لا يستطيعون تقديم المنهاج ميدانياً على النحو المرغوب فيه.
ويتضمن المنهاج مفهوم التكامل ليس بين مواد اللغة العربية وحسب، ولكن بين المواد المدرسية أو الجامعية، فعلى مدرّسي المواد الأخرى ألا يفسدوا ما يقدمه مدرس اللغة العربية، بل على هؤلاء أن يعززوا المهارات والمعارف المطلوبة، وكيف تتم عملية التكامل ومدرسو المواد الأخرى يتكلمون لغة أخرى ويدرسون موادهم بلغة أخرى، أو يتحدثون عامية بلهجات مختلفة.
 ومن نافلة القول: إن اللغة العربية عنوان أهلها وهويتهم ومؤشر على ما وصلوا إليه من ضعف وتخلف وهوان. فاللغة لا تنفصل بحال عن المستوى الحضاري والاجتماعي والسياسي والمعرفي عن حالة أية أمة من الأمم.

ذو صلة