تتمدد اللغة العربية جغرافيّاً على خريطة كبيرة ومتنوعة في الشرق الأوسط الكبير. وتتمدد تاريخياً على مدى ألفي سنة من الأحداث والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما أنتج ثراءً مدهشاً وغنًى باذخاً في الأداء اللغوي يستحق الوقوف عليه بحرص واهتمام. وقد نتج عن كل ذلك تباين كبير. فمنذ نشأة اللغة العربية الفصحى في جزيرتها الأولى منذ قرون؛ كانت هنالك لغتان مختلفتان هما لغة حمير وقحطان في اليمن، ولغة مُضر في الشمال، وقد جاءت الدراسات باختلافهما اختلافاً شاسعاً جداً، ناهيك عن اختلاف اللهجات داخل كليهما، حيث كان لكل قبيلة لهجة تخصها كالشنشنة والهسهسة.. وغيرهما؛ غير أن لغة الإعلام -آنذاك- والتجارة وحّدت أغلب اللهجات في لغة قريش، وربما كان ذلك قبل الإسلام بزمن. ثم جاء الإسلام وتوحدت قراءات القرآن الذي أنزل على سبعة أحرف في قراءة واحدة متفق عليها. غير أن هذا لم يؤثر في تعدد لهجات القبائل العربية. وهناك من العلماء من قال بوجود لغة تخاطب دارجة تنتظم الحياة اليومية وتختلف عن لغة الأدب والخطابة والتي هي لغة عالية ورفيعة.
إذاً، لا أعتقد أن ثنائية الفصحى والعامية قضية جديدة، فمع اختلاف التسمية بين لغة قحطان ولغة قريش تاريخياً ولغة المشارقة والمغاربة عصرياً؛ فهي ثنائية عالية لم تؤثر في مسار كلا اللغتين بسوى الإضافة، خصوصاً إذا انتبهنا لفشل دعوات الكتابة الإبداعية بالدارجة المحكية التي تبناها قاسم أمين قبل قرن ونيف من الآن. ولا يماري ممارٍ في سطوة الإعلام ثقافياً واجتماعياً، ولا في قوة تأثيره وقدرته على قيادة المجتمع، وفق ما يريد. وليست التجربة الدرامية والتمثيلية المصرية ثم السورية فالخليجية ببعيدة عن الأذهان، من حيث فرض لهجات هذه الدول على الأذن العربية، مما أدى لنشرها وتعميمها لغةً للسينما العربية. كما لا يخفى ظهور لغة عربية مبسطة وبعيدة عن التقعّر على كل وسائل الإعلام وأدواته سمّيت اصطلاحاً بلغة الصحافة، تظهر جليةً على شاشات القنوات الفضائية العربية الكبرى شرقاً وغرباً. ولا يفوتني ذكر دور لغة أفلام الكرتون العربية عبر قنوات الأطفال في تنشئة أجيال فعّلت مهاراتها في اللغة الفصحى من خلال مشاهدة أفلام الكرتون ومحاكاتها.
وهكذا تظل اللغة العربية الفصحى هي لغة الإبداع والفن، فحتى الأدب المغاربي حالياً وجد ما يستحقه من رواج عربياً عبر انتهاج مبدعيه للكتابة باللغة الفصحى والعكس صحيح.
من ضفة أخرى يظل الصراع الإيجابي بين اللغات العالمية صراعاً أزلياً متنامياً حسب الإمكانات الإبداعية والإعلامية والاقتصادية لأي لغة. وكقاعدة مستقاة من تأمّل التاريخ: يفرض الغالب حضارته وثقافته ومعرفته ولغته. وهكذا كما حدث أن فرضت الانتصارات العربية في السابق لغتها؛ يحدث الآن غلبة اللغات الأوروبية بناءً على غلبة الغرب سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولكن هذا لم ولا ولن يلغي الحضور الثر للعربية لا على المستوى الإبداعي فحسب؛ وإنما على كافة الأصعدة، لا سيما صناعياً، حيث سجّل الحرف العربي حضوراً كبيراً على الأفق التكنولوجي الحديث، فنجد ذلك الحرف المتفرّد مدرجاً في خيارات جميع الأجهزة الحديثة ومتصفّحات الإنترنت، وهو مؤشر عظيم على قوة موقف اللغة العربية عالمياً رغم أعاصير التغريب وعواصف العولمة، فالسوق العربية هي إحدى أكبر أسواق العالم، والحرف العربي تكتب به الفارسية والأردية والسواحلية والعديد من اللهجات الأفريقية الأخرى، ونلاحظ أننا حتى الآن لم نتعرض لتأثير انتشار الإسلام والقرآن الكريم وإسهامه الجلي في خلود اللغة ومقاومتها وانتشارها.