يظهر من فحص تاريخ الإنسان على الأرض أن تهيئته اللغوية كانت شرطاً تأسيسياً لتحقيق اجتماعه الإنساني. وهذا بعض ما ينتج من تأمل قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) (سورة البقرة 31) في سياق التمهيد لهبوطه على الأرض.
ومن هنا فإن التثاقف والتباحث حول مشكل اللسان هو في الحقيقة بحث في مشكل مستقبل الإنسانية. والعربية لغة طبيعية منحت البشرية على امتداد تاريخها الطويل كثيراً مما كان سبباً في الارتقاء العقلي والوجداني للإنسانية.
وتراجع هذا اللسان أو تصور موته عائد بالخصم من عقل الإنسانية ووجدانها وحضارتها وأفكارها، فانقراض الكلمات فضلاً عن اللغات يقود إلى انقراض الأفكار والحضارات. إن السماح باستمرار تراجع اللسان العربي هو بالضرورة منح بالأذن والسماح لضمور الحضارة!.
اللغة عماد تشكيل العقل المسلم
تبدو العلاقة بين اللغة والإسلام في التأسيس المعرفي علاقة عضوية تكوينية، وقد تجلى الوعي بهذه العلاقة في أدبيات اللسانيات التراثية، وهو ما يظهر من تعيين أبي منصور الثعالبي (ت 429هـ) في مقدمة كتابه: فقه اللغة وأسرار العربية (1 / 3): أداة العليم.. ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب وإدراك هذه العلاقة وتقدير خطرها هو المفتتح لفحص مهمة اللسان في تشكيل العقل المسلم من جانب واستعادة مكانة هذا اللسان من جانب آخر.
وقد لخص جون جوزيف في كتاب اللغة والهوية (ص 242) عدداً من المقاربات اللسانية المعاصرة تلح على حضور اللسان في تشكيل الهويات، وتأسيس الماهية في العبارات المركزة التالية:
أ - مقاربة فولوشينوف: إن الهوية الاجتماعية حاضرة في اللغة نفسها.
ب - مقاربة سابير: إن إدراك الإنسان الحي للعالم يتحدد ببنيته اللغوية القومية.
ج. مقاربة هاليداي: لقد كان علم اللغة التطبيقي مؤثراً في إقناع أساتذة اللغة الأجنبية بأن العمل الذي يمارسونه يؤثر تأثيراً مباشراً على الهويات.
وثمة مقاربات أخرى يمكن أن تضاف إلى هذه الثلاثة، مثل:
أ - مقاربة آدم شاف: إن اللغة تخلق الصورة التي تكونها عن العالم.
ب - مقاربة لويس جان كاليه: إن كل تعديل في الدلالة سوف يعدل الإحساس بالعالم.
إن فحص تاريخ الدعوة إلى الإسلام هو تاريخ تفصيلي دقيق لتاريخ التعديلات في الدلالة واللغة في اللسان العربي على الحقيقة.
هل اللسان العربي في خطر حقيقي؟!
من زمان بعيد في العصر الحديث رصد تاريخ الفكر تراجعاً حادَّاً على المستوى النفسي والسلوكي في استعمال العربية.
لقد تنبه مالك بن نبي مثلاً وهو يصك مصطلحه الشهير: القابلية للاستعمار على ممارسات الشعوب العربية نحو استعمال اللسان العربي، في الحياة والإدارة على مستويات نفسية وسلوكية فردية وجماعية.
صحيح أن غطرسة الاستعمار على امتداد عشرات السنين دعمت هذا التراجع، ولكن الإنسان العربي تورط في الاستجابات المريضة لتجليات غطرسة الاستعمار فبدا منهزما أمام اللغات الأجنبية ولاسيما الإنجليزية والفرنسية.
وتاريخ اللسانيات المعاصرة عرف لسانيين استعماريين، ومعاهد لسانية استعمارية في الحقيقة. ثم من رصد أن عروبة العالم العربي كله مهددة، وأن (التقليد في مختلف نواحي السلوك الاجتماعي لا يستغرب منه أن ينسحب على لغة التعامل بين الناس) على حد تعبير فهمي هويدي في مقالته: (عروبة الخليج من واجبات الوقت).
إن الواقع يشهد حقيقة أن اللسان العربي في خطر، وهذا الواقع يتجلى في ملامح ظاهرة جدا هي:
أولاً: غياب قوانين حماية العربية في الأنظمة التشريعية العربية في الغالب.
ثانياً: تمدد معاهد العلم الأجنبية في العالم العربي.
ثالثاً: زحف أنظمة تواصلية تهدد اللسان العربي، على مستويات التحدث والكتابة.
رابعاً: تراجع الإنتاج العلمي المعاصر باللسان العربي في الحقول المعرفية المختلفة.
خامساً: تراجع الوعي بعلاقات اللغة بالهوية، وبناء الذات، والترابط الاجتماعي، ووحدة الأمة.
سبل استنقاذ اللسان العربي
إن الحركة في سبيل استنقاذ اللسان العربي ممكنة، وتوقع إحراز نجاحات مستقبلية في هذا الاتجاه ممكن جدَّاً، والاحتكام لسوابق استنقاذ الألسنة في التجربة التاريخية قديماً وحديثاً شاهد يدعم هذا الإمكان، والآليات التي يمكن اللجوء إليها في هذا الميدان كثيرة يمكنها أن تحقق نجاحات حقيقية في هذا الصدد.
وفيما يلي بيان مركز جدَّاً لآليات ومسارات استنقاذ اللسان العربي من المخاطر التي تهدد واقعه ومستقبله في ظل المحددات التي رصدناها هنا:
أولاً: الحركة في اتجاه آلية بناء الوعي وتأسيسه، وهو ما يعالجه فحص علاقة اللسان العربي بالهوية، وبناء التصورات، ورؤية العالم، وعلاقة اللغة بالأمن القومي من منظوره الواسع، وإشاعة حقائق هذا المسار بين جموع الشعوب العربية.
ثانياً: الحركة في اتجاه آلية الضبط التشريعي، وتفعيل المواد الدستورية الكاشفة عن وضع اللغة العربية في سياق تصور الدول العربية عن نفسها ونظامها الأساسي، ومقومات بنائها، واستكمال الضبط التشريعي في مستويات مختلفة دستورياً وقانونياً ولائحياً، وتنقية ما هو قائم فعلياً من التناقضات.
ثالثاً: الحركة في اتجاه الضبط المؤسسي، هو ما يحقق العمل على المسار الضابط لأدوار المؤسسات المعنية بالحفاظ على العربية، وتطويرها، وضبط عدم التداخل في الاختصاصات بين التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وضبط التكامل فيما بينها، منعاً من الاضطراب والتناقض، ومنعاً من هور الطاقات والجهود والأوقات والاقتصاديات، وهو ما يلزم معه مراجعة أدوار مؤسسات المجامع اللغوية، والمجامع العلمية، والمجالس القومية المتخصصة، ووزارات الأوقاف.
رابعاً: الحركة في اتجاه آلية التخطيط اللغوي، في مراحله المختلفة من التفكير، والتقرير، والتطبيق.
هذا المسار حكومي بامتياز وبالأساس، ويحتاج إلى حزمة من القرارات السياسية والحكومية التي تستهدف تحقيق غايات واضحة هي:
أ - صيانة اللغة العربية والحفاظ عليها.
ب - تنمية معجمها وثروتها اللفظية.
ج. الارتقاء بمستويات الوعي بعلاقاتها بمجودات الشخصية العربية.
خامساً: الحركة في اتجاه آلية التنفيذ والتطبيق، وهذا المسار هو المترجم العملي عن الحركة في الآليات السابقة، ينزلها في الواقع، ويشغلها في الحياة.
ومن الممكن الحركة في مسارات ما أسميه (التبعض التنفيذي) بمعنى البدء بقطاعات بعينها في الأمة، ثم إذا تحققت انتقلت إلى غيرها.
إن حقائق العلم المعاصرة تقرر أن ضبط اللسان وإصلاحه نشاطان يتجاوزان عمل اللسانيين، وهما نشاطان سياسيان وزيادة. وحقائق العلم تقرر أن الكتابة العربية والعلم العربي شديدا الارتباط بالإسلام، وبتشكيل الهوية.
ثم إن حقائق العلم تقرر أن بعث لسان ميت على حد تعبير كلود حجاج في كتابه (إنسان الكلام: مساهمة لسانية في العلوم الإنسانية) (ص 60) (ليس أمراً مستحيلاً، هو أمر يحتاج إلى إرادة عنيدة (قوية) وظروف مشجعة)!. واللسان العربي مازال حياً وبالإمكان استنقاذه فعلاً.