البقاء والسيادة والنفوذ للأقوى دائماً، وما اللغة إلا كائن حي يتأثر ببيئته إيجاباً وسلباً، وصحة ومرضاً، فقوة اللغة وعنفوانها يرتبطان ارتباطاً شرطياً بقوة الناطقين بها، ومدى احتياج الحضارة الإنسانية إلى إنجازاتهم ومساهماتهم.
وقد تعرضت اللغة العربية وما زالت لغزو لُغَوِيٍّ تزحف مفرداته وتراكيبه زحفاً تتراجع أمامه لغة الضاد على ألسنة أبنائها وفي كتاباتهم، لتحل اللغات الأجنبية، وبخاصة الإنجليزية مَحَلَّها، على نحو متدرج في الاستعمال والتعليم، حتى وصل الأمر إلى إقصاء لغة الضاد عن ميدان العلوم والحضارة، فضلاً عن هجرها، وإهانتها في ديارها، حتى قال حافظ على لسانها:
أَيَهْجُرُني قَوْمي عَفَا اللهُ عَنْهُمُ
إِلَى لُغَةٍ لم تَتَّصِلْ برُوَاةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الإفْرَنْجِ فِيهَا كَمَا سَرَى
لُعَابُ الأَفَاعِي في مَسِيلِ فُرَاتِ
فَجَاءَتْ كَثَوْبٍ ضَمَّ سَبْعِينَ رُقْعَةً
مُشَكَّلَةَ الأَلْوَانِ مُخْتَلِفَاتِ
سادت الحضارة العربية الإسلامية عدة قرون ورفرفت راياتها في المشارق والمغارب، بفضل هيمنة علمائها النوابغ آنذاك، منهم: ابن سينا صاحب كتاب القانون في الطب الذي ظل المصدر الرئيس لتعليم الطب في أوروبا لعدة قرون، وأبو عبدالله الخوارزمي واضع مبادئ علم الجبر في كتابه الجبر والمقابلة الذي تُرْجِمَ إلى اللاتينية، واعتمد عليه الغربيون في دراساتهم الرياضية، وأبو علي الحسن بن الهيثم رائد البصريات والمنهج العلمي، والعالم الموسوعي أبو الريحان البيروني وغيرهم من النوابغ الذين أبهروا العالم بإنجازاتهم العلمية والمعرفية، فآلت إليهم مقاليد الحركة العلمية على مستوى العالم، وغردت طيور الحضارة العربية الإسلامية البناءة في كل مكان، يومها سادت اللغة العربية وأصبحت لغة العلم والإبداع والخطاب والكتابة، وكان الناطقون بالعربية أئمة يهتدى بعلومهم، الأمر الذي دفع الأوروبيين دفعاً إلى البحث عن جسور للتواصل مع الحضارة العربية، والعرب المسلمين، عندما هالهم التقدم العلمي الذي اصطحبه معهم العرب إلى الأندلس، وقد ظل كتاب القانون في الطب لابن سينا يدرس في كل الجامعات الأوروبية لعدة قرون، ونشأت في الأندلس جامعات عربية وفد إليها الغربيون من كل حدب وصوب لتلقي المعرفة وبخاصة علوم الطب على أيدي العلماء العرب، وقد ذكر المستعرب الهولندي Vresteegh kees في كتابه The Arabic language أن الأوروبيين كانوا يرسلون أبناءهم إلى الأندلس لتعلم اللغة العربية، لأنها لغة العلم، وقد آمنوا إيماناً جازماً بأن إتقان تعلم الطب متوقف على تعلم اللغة العربية وإتقانها، بل لقد ذكر Kees أن طلاب الطب الأوروبيين كانوا يجلسون تحت أقدام العلماء العرب بكلية الطب بفرنسا لتلقي العلوم الطبية باللغة العربية، وظهرت مدارس تعليم العربية بالأندلس، وأقبل الأوربيون وقتها على تعلم لغة الضاد، التي غزت أوروبا فضلاً عن تفوقها وسيادتها في الشرق.
مظاهر الغزو اللغوي
ولما كان البقاء للأقوى، والأيام دول، دالت لأسباب تاريخية كثيرة هيمنة الحضارة العربية، وتقاعست مساهماتها في صناعة الحضارة الإنسانية وإنتاجها، فتقاعست لغتها وتراجعت القهقرى، واستسلمت للغزو اللغوي الوافد الذي انتشرت صوره ومظاهره في الوطن العربي انتشار النار في الهشيم، ومن أهم مظاهر هذا الغزو اللغوي ما يأتي:
انتشار المدارس الأجنبية، وإقبال الناس عليها، وتعدد المراكز الثقافية الأجنبية التي تقدم خدمة تعليم لغاتها، وازدحام الدارسين العرب على أبوابها وفي قاعاتها، ناهيك عن تدريس الطب والعلوم في جامعاتنا باللغة الإنجليزية.
تخلِّي الشباب عن الكتابة بلغتهم الأم، في وسائل التواصل الاجتماعي فاستبدلوا الحرف الأجنبي بالحرف العربي.
حرصُ بعضِ المثقفين وأدعياء الثقافة على إقحام المفردات الأجنبية في أحاديثهم إحساساً منهم -بسبب الهزيمة النفسية-بأن ذلك دال على تميزهم وضلوعهم في المعرفة.
انتشار الإعلانات واللافتات الأجنبية في الشارع العربي انتشاراً مخيفاً، حيث تشعر أثناء تجولك في بعض الشوارع العربية أنك في بلد أجنبي لا تكاد تجد فيه لافتة مكتوبة بلسان عربي مبين، ولله در علي الجارم وهو يقول:
نَطِيرُ للَّفْظِ نَسْتَجْدِيهِ مِنْ بَلَدٍ
نَاءٍ وَأَمْثالُهُ منّا عَلَى كَثَبِ
أنَتْرُكُ العَرَبِيَّ السّمْحَ مَنْطِقُهُ
إلَى دَخِيلٍ مِنَ الأَلْفَاظِ مُغْتَرِبِ؟
وَفِي المَعَاجِمِ كَنْزٌ لاَ نَفَادَ لَهُ
لِمَنْ يُمَيّزُ بَيْنَ الدُّرِّ والسُّخُبِ
وعلى الرغم مما ذكرناه من مظاهر غزو اللغات الأجنبية، فإننا لا ندعو إلى عدم تعلمها، بل نؤكد على أهمية تعلمها وإتقانها، فكل لغة يكتسبها الفرد إِنْ هي إلا عينٌ جديدة وباصرة ثقافية تحلق بصاحبها في سماوات العلم والمعرفة والثقافة، والفرق جِدُّ كبير بين تَعَلُّمِ اللغات الأجنبية للاستفادة بعلومها ومعارفها، وحلولها مَحَلَّ اللغة العربية في التعليم والتدريس بها في مدارسنا وجامعاتنا، فتعلم اللغات الأجنبية فضيلة مرغوبة، والتعليم والتدريس بها رذيلة مدمرة بل جريمة لا تغتفر.
حماية اللغة العربية وصيانتها
تتطلَّب حماية اللغة تشريع قانون لحماية اللغة العربية يفرضها لغة للعلم والثقافة، ويجعل إجادتها شرطاً للحصول على الوظائف، ويمنع الإعلانات وكتابة اللافتات بغيرها، ويُلزِمُ الساسة باستعمالها في المحافل المحلية والدولية، فضلاً عن إلزام الإعلاميين، وقنوات التلفزة باستعمال العربية الفصيحة، ومنع استعمال العامية والمفردات الأجنبية.
كما ينبغي الاهتمام بالحركة العلمية، ودعم البحث العلمي بكل الوسائل المادية والمعرفية، لأن قوة الأمم مرتبطة بقوتها العلمية متى نهضت الحركة العلمية في أمة نهضت لغتها وسادت، واعتز أهلها بها وأقبل الناس على تعلمها.
هناك حتمية تعريب العلوم، وتعليمها بالعربية، في مدارسنا وجامعاتنا، ولن تنهض اللغة العربية من كبوتها إلا إذا كانت لغة العلم في بلادها، والتاريخ والواقع يؤكدان أن الأمم لم ولن تنهض بتدريس العلوم بغير لغتها.
يجب أيضاً إعادة النظر في مناهج اللغة العربية بالمدارس والجامعات وتطويرها، وضرورة جعل اللغة العربية مقرراً جامعياً في جميع الكليات العملية والنظرية، والاهتمام بمعلميها وإعدادهم إعداداً علمياً وتربوياً متميزاً يؤهلهم للقيام بدورهم في تعليم الناشئة بتميز وإتقان وإبداع.
وينبغي دعم المجامع اللغوية في العالم العربي، والاهتمام بها، ومتابعة قراراتها، وإلزام المؤسسات والهيئات الرسمية بتنفيذ قراراتها، والعمل بها حرصا على لغة الوطن وإرثه الثقافي من التغير والتبدل والضياع.
إن اللغة بلا ريب أو شك أو جدال هي حجر الزاوية للأمن القومي في أي مجتمع، فهي الجسر الذي تعبر عليه ثقافة الأجداد وقيمهم الحضارية إلى الأجيال المتعاقبة، وحسن تعلمها وتعليمها مَنْجَاةٌ من التطرف والهوس الديني الناجم عن العجز اللغوي الذي يؤدي بدوره إلى سوء فهم النصوص، وإطلاق الأحكام الخاطئة، والأمل معلق بأولي الأمر وأصحاب القرار في بلادنا، ولا أراني مبالغا إن قلت إن الأمر يحتاج لقمة عربية، وقرار سيادي، يضع الأمور في نصابها، ويرفع الضيم عن لغة تئن من جراحها، وتستغيث بأهلها، لاستعادة مجدها القديم، ووجهها الجميل، ولسان حالها يقول:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي