(دارت الأرض دورتها
حملتنا الشواديفُ من هدأة النهر
ألقت بنا في جداول أرض الغرابة
نتفرق بين حقول الأسى.. وحقول الصبابة)
أمل دنقل
مع تواري الشمس وراء الأفق المضبب بالغبار والدّخان، كان لقاؤنا في باب مقهى (الأصدقاء). أدّينا تحية اللّقاء، دخلنا المقهى، كان الجوّ خانقاً لا يطاق بدخان السجائر، فاضطررنا للجلوس في باحتها الممتدة إلى الرصيف.
سرت في عروقي قشعريرة سعادة منعشة لكوني التقيت أحد أبناء قريتي في هذه المدينة الإسمنتية القلب (فأنا منذ خرجت من بلدتي في أقاصي الجبال، لم أعد إليها..)
ها أنا أجلس جنبه، أراه الآن رجلاً اشتعل رأسه بشيب الحياة، أتذكره طفلاً نشيطاً في المدرسة، في الأعراس، في محافل العائلة وأعياد القرية.. حينها كنّا أقرب إلى بعضنا وإلى نفوسنا.
بعد لحظة، وقف أمامنا النّادل، طلبتُ شاياً منعنعاً، بينما هو طلب الرّقم السّري لشبكة الإنترنت الموصولة بالمقهى، قبل أن يطلب مشروبه الغازي قرأه عليه النّادل، وراح يكتبه على صفحة هاتفه الأذكى منه ومني.
ثم غطس في بحره الأزرق بأمواجه المتلاطمة، يتصفح موقعاً تلو الآخر، صفحة تلو الأخرى، يعلّق، يردّ، تأتيه الرّسائل الإلكترونية وهي تنقّ كضفادع المستنقعات المعشوشبة.
وحين تصطاد شبكته العنكبوتية (فيديوهات) عابرة للمحيطات المتموّجة يضع كاتمة الصّوت في أذنيه، ويتركني وحيداً لضوضاء المقهى والشّارع.
يبتسم، يتجهم، وأحياناً يقهقه، يرحل في مدن بعيدة لم يزرها، يغيّر من هيئته وهو يكتب بخفة ورشاقة على لوحة مفاتيح هاتفه المضيئة.
كيف حالك مع العمل؟
...
كيف حال الزّوجة والأولاد؟
...
وحين تهبّ ريح القلق تحتي، ويستبدّ بيّ الضّجر الأسود، أقرأ جريدة المقهى التي لم يقرأها أحد طيلة اليوم!
وأستدعي جدّي الّذي مات منذ زمن بعيد، وأنسج معه عباءة الكلام عن زمنه الحلوّ الجميل..
وقف النّادل مرة أخرى على طاولتنا، وهو يهمّ بجمع الكراسي والكؤوس.
آه، وقت الإغلاق!
أدّينا ثمن المشروبين، أدّينا تحية الفراق، وانعطف كلّ واحد منّا في درب من دروب المدينة الموحشة المتوحّشة.