توقف توفيق قليلاً أمام المرجيحة في مدخل الحارة محدقاً، لم يكن هناك أطفال في هذا الوقت المبكر من النهار، وإنما رجل رث الهيئة منطفئ وميض العينين مبحر في سراديب العمر، يجلس على قاعدة المرجيحة واضعاً ساقاً عجفاء فوق الأخرى، متشبثاً بعقب سيجارة يصر على مص دخانها لآخر رمق فيها. عينا توفيق المتسعتان خلف نظارته الطبية توجهتا إلى عيني الرجل، دون أن ينطق بحرف اقترب منه، هب الرجل واقفاً باحترام، مد له يده بسيجارة تلقفها فوراً منتظراً منه أن يحادثه في شأن حفيد له أو حفيدة يوصيه به/بها خيراً حينما يرسله/يرسلها إليه، قال توفيق بهدوء يليق بشيبته ووقار نظراته وما تدل عليه ملابسه الراقية:
- أريد ركوب المرجيحة وسأجزل لك العطاء.
...
كانت المرجيحة بهيكلها الحديدي الصدئ في معظم الأحيان كلما لاقته في أي مكان تخمش وجهه وعينيه وتضطره رغماً عنه إلى التراجع وتغطية وجهه بكلتا يديه، يراها فيستعيد ما جرى له قديماً كأنما يحدث له في التو، تباعدت مسافات الزمن وتراجعت الأيام حاملة معها كثيراً من الذكريات وألقتها في مجاهل النسيان إلا ذكرى المرجيحة، ظلت حية في صدره، كلما وقعت عيناه على واحدة منها عاودته حادثة لا تتوارى فينسى، ولا تنطفئ فيرتاح.
الكلمة ذاتها (المرجيحة) لا يعرف كيف تغلغلت في نفسه كنصل حاد الشحذ، كلما صادف موقفاً يوافقها انغرزت أكثر فأسالت دماً وأوجعت قلباً، صار لا يحب إلا الأمور الواضحة الجلية سوداء غطيس كانت أو ناصعة البياض، المهم ألا يقف في الركن الرمادي الذي يشير إلى الأرجحة، وتحول كره هذه الحالة الرمادية إلى حالة مرضية تنتابه إذا شعر أنه مضطر أو مجبر على معايشتها رغماً عنه، فحين يجبره ظرف ما على التأرجح يرى نفسه طائراً محلقاً في الفضاء -وليس على بعد ثلاثة أمتار بالكثير- راكباً هذه العلبة الحديدية الصغيرة فارداً جناحيه منطلقاً وسط السحب وحوله طيور بيضاء باسمة الوجوه حلوة التغريد كأنها ضحكات النسيم وهو فاتح صدره للبراح وعيناه تتألقان بفرح الصعود وفجأة تهوى العلبة وهو يهوى معها، تغيب الطيور البيضاء والسحب وصفاء السماء ولا يبقى إلا سواد الخوف وظلام الهلع وقسوة السقوط فيغطي وجهه بيديه محاولاً محق هذا الإحساس فوراً، وقد مرت به حالات ارتباط فشلت بسبب عدم تلقيه كلمة واضحة من الطرف الآخر بسبب الخجل مرة أو بسبب التفكير والتروي أخرى، أو بسبب عدم اتخاذ قرار ثالثة، فكان هذا الإحساس يجتاحه رغماً عنه، يغطي وجهه بيديه حينما يصل للحظة السقوط المدوية، يسألونه عما به، يتعصب ويتخذ قرار الابتعاد فوراً محاولاً إقناع نفسه أنه مهما كان السواد قاتماً فهو مريح جداً عن الأرجحة التي تقتل الروح وتسحق النفس ما بين اليأس والأمل والحياة والموت، إلى أن جاءت المرة الأخيرة وتقدم للعمل في إحدى الشركات التي أعطته مهلة ثلاثة شهور لاختبار صلاحيته للعمل، قضى اليوم الأول فيها كاظماً مشاعره، محاولاً اصطناع بسمات يعلقها على حواف شفتيه إلى أن غادر العمل، وفى الطريق إلى بيته عادت الطيور البيضاء تصحبه والسماء تنفتح له وذلك الصندوق الحديدي يرتفع به وهو في هلع من انتظار لحظة السقوط مما دفعه للزمجرة والرفض ومحاولة الإفلات من تلك اللحظة، لحظة السقوط التي لا بد ستعقب هذا الارتفاع، لكنه مرة واحدة توقف وسط الطريق، غطى وجهه بيديه وهو يشعر بقلبه يهوى وبروحه تنتفض هلعاً صاعدة لأعلى وبقدميه ورقتين رقيقتين يتلاعب بهما الهواء، ولم ينتبه لزمجرة أبواق السيارات من خلفه ولا لهرولة الناس نحوه ولا لتوقف حركة الطريق كله بسببه، فقد توقف وسط العربات المارة ولولا لطف الله لدهسته إحداها. بعدها عاد إلى بيته وهو يقسم ألا يعاود الذهاب للشركة ثانية مهما كانت الأسباب، لكنه نظراً لظروف البطالة والبحث عن العمل وباعتبار هذه الوظيفة فرصة سنحت له فقد قبل على مضض العودة، وأخذ يتجرع مرارة الصبر بانتظار القرار النهائي وهو يؤكد لنفسه أنها المرة الأخيرة التي يقبل فيها هذا الوضع، لكنه عاد وواجه نفس الأمر حينما تقدم لخطبة ابنة أحد الجيران وطلب أهلها مهلة للتفكير والمشاورة، لحظتها أراد أن يهب من جلسته منصرفاً وبوادر الأزمة تلوح في الأفق، لولا نظرة أمه المحذرة التي رمته بها في قوة وإصرار أجبره على الصمت، ولم يستطع إلا إحناء وجهه والهرب بعينيه حتى لا يقرأ أحد ما فيهما، وعاش فترة الانتظار في ذات القلق الذي يسيطر عليه إلى أن أعلنت الموافقة فقبلها على مضض وفي نفسه شيء من فترة الانتظار التي فرضوها عليه، بعدها وكلما انفرد بنفسه كان يحادثها قائلاً إن ما حدث بالأمس البعيد قد مضى وهو يعرف جيداً تأثيره على نفسه، فقد كان في صغره ماهراً بالمرجيحة -كما يسمونها في حارتهم- يحبها ويتيه بامتداح أقرانه لمهارته فيها، فهو حين يعتلى الصندوق الصغير واقفاً ويدفعه الرجل صاحب الأرجوحة يندفع ويبدأ في دفعها ذاتياً لترتفع لأعلى إلى درجة الانقلاب حول محورها مرات عدة، والتصفيق يعلو وكلمات الإطراء والعجب لقدرته على التحكم فيها والوقوف شامخاً دون أن يخشى انقلاباً أو يأبه لعطل طارئ قد يحدث أو أي شيء من هذا القبيل، إلا أنه ونتيجة لوقوعه منها ذات مرة وهي معلقة في الهواء وهو معلق معها وقدماه لأعلى ورأسه لأسفل وما جرى له من جرح كبير برأسه وخدوش مؤلمة بظهره أصبح لا يطيق اسمها، سواء قالوا اسمها صريحاً أو حتى أشار أحدهم إليها بالرمز كأن يمد ذراعه وراحة يده على ظهرها ويهزها يميناً وشمالاً.. يقول لنفسه كل هذا ويؤكد على رغبته في إنهاء هذا الإحساس، خصوصاً أنه يعرف أسبابه ودوافعه، وكلما اضطرته الظروف للولوج إلى اللون الرمادي في حياته يعاود محاورة نفسه، إلى أن جاء اليوم ورأى المرجيحة أمامه وتذكر الحادث القديم وإحساسه بالسقوط الذي يهزه بعمق من حين إلى حين، وقرر أن يحل المشكلة من جذورها، طلب من الرجل ركوب المرجيحة، حدق الرجل في الوجه المتغضن الذي يحمل سمات الرفاهية بعينيه العميقتين ونظراته الواثقة محاولاً الاستيثاق من قدراته العقلية فلما لم يجد في الأمر ريبة أو هزلاً هز رأسه موافقاً دون أن ينطق بحرف، رآه يصعد الدرجات القليلة إلى الصندوق الحديدي ويقف وسطه متحفزاً للبدء، مد يده المتعرقة ودفع الصندوق وهو داخله بقوة فتحرك للأمام، ارتفع توفيق لأعلى وهو ثابت في مكانه قابضاً على ذراعي المرجيحة بقوة وحينما مضت نحو السماء دق قلبه بعنف لكنه كان مصراً على عدم السقوط.