ظفرت بترجمة حديثة وقيمة للدكتور أحمد عبدالمعطي الشعراوي لمسرحيتي الشاعر والمسرحي الروماني ترنتيوس المعنونتين (الأخوان والحماة) والصادرتين في مجلد واحد (412 صفحة) عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت (سلسلة المسرح العالمي/ يناير 2018)، وقد قدم لهما وعلق عليهما الدكتور حاتم ربيع حسن أستاذ مساعد المسرح بجامعة عين شمس، وقد استهل الدكتور ربيع دراسته القيمة لمسرح ترنتيوس بتمهيد أكد من خلاله عبقرية كاتبنا وشاعرنا الروماني، فانظره يقول: (صاحبنا شاعر لا يشق له غبار وعلامة فارقة في تاريخ المسرح الروماني، بما كان له من دور محوري في التقاليد الثقافية الأوروبية). كما كشف في ثنايا تقديمه وتعليقه النهج الذي اعتنقه ترنتيوس لنفسه في كتابة مسرحياته ومن أبرز معالمه حرص صاحبنا على كتابة المسرحيات الكوميدية الهادئة البسيطة الخالية من الأخطاء، فضلاً عن تميزها باللغة الصافية البعيدة عن الركاكة والتعقيدات، وما ذكرناه يؤكد استقلاله وتميزه في مجال الإبداع عن أقرانه ومعاصريه، كما ساهمت أصالته الفنية والإبداعية في رواج مؤلفاته ومسرحياته في أوروبا لاسيما في عصر النهضة وما بعده، سواء في الكوميديا الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والألمانية، وخير شاهد على ذلك استلهام شكسبير روائعه الكلاسيكية عن المسرح الروماني.
ولا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى تعريف القارئ الكريم بنبذة مختصرة عن سيرة كاتبنا الفذ ترنتيوس، فنقول إنه ولد في قرطاجة حوالي 185 أو 184 ق.م، وساقه القدر إلى روما عبداً إذ آلت ملكيته إلى عضو مجلس الشيوخ ترنتيوس لوكاتوس الذي أبدى إعجابه بما يتوافر في هذا الفتى من ذكاء وحسن طلعة، فهيأ له قسطاً جيداً من التعليم ومنحه حريته التي هيأت له فرصة الالتحاق بالدائرة الأدبية وعرض مسرحياته على المشرفين عليها والذين أجازوها وأكدوا صلاحيتها الفنية والأدبية للعرض المسرحي، وقد ظل صاحبنا مقيماً في روما معظم عمره ولم يغادرها إلا العام 160 ق.م إلى بلاد الإغريق بهدف الوقوف على حياة الإغريق وطرائقهم الفنية والإبداعية، فضلاً عن رغبته الإلمام باللغة الإغريقية وتمنيه الإبداع بها. وللرجل كما يقال أكثر من 108 مسرحيات فقدت معظمها أثناء تعرضه للغرق خلال عودته من أثينا إلى روما، ومن أبرز وأشهر مسرحياته التي وصلتنا كاملة نذكر:
1 - مسرحية الخصي: تعتبر هذه المسرحية من أشهر مسرحيات صاحبنا على الإطلاق؛ لأنها لاقت استحساناً وقبولاً من النقاد والجمهور، وخير شاهد على ذلك عرضها مرتين في اليوم الواحد، كما كانت سبباً في ثرائه وارتفاع عوائده المالية، حيث ربح بسبب تكرار عرضها مبالغ قياسية. ومسرحية الخصي لترنتيوس مستوحاة من مسرحية الخصي لماندروس والتي عرضت في المسابقات الميجالية العام 161 ق.م، (المسابقات الميجالية هي المسابقات التي كانت تقام في أبريل من كل عام تكريماً للربة كيبيلي، وكانت المسرحيات التي يتم عرضها خلال هذه المسابقات تشكل جانباً أصيلاً من طقوس ذلك الاحتفال كما كانت هذه المسرحيات تعرض أيضاً خارج معبد هذه الربة، أما المسابقات التي كانت تقام في سبتمبر تكريماً للإله جوبتر فكانت تعرف بالمسابقات الرومانية، بينما كانت تعرف المسابقات التي كانت تقام على شرف إيميليوس باولوس في السوق العامة فكانت تعرف بالمسابقات الجنائزية).
2 - فتاة أندروس (أندريا)، وهى مأخوذة من مسرحية ماندروس التي تحمل الاسم نفسه والتي عرضت في المسابقات الميجالية العام 166 ق.م.
3 - مسرحية الحماة، مسرحية مستوحاة عن مسرحية تحمل الاسم نفسه لأبوللودوروس وقد سبق عرضها في المسابقات الميجالية العام 165 ق.م ولكنها فشلت أثناء عرضها الأول العام 160 ق.م ثم لاقت رواجاً وقبولاً بعد عرضها في العام 160 ق.م (من خلال المسابقات الرومانية، ويصف برولوج العرض الثالث لهذه المسرحية كيف أن الممثلين اضطروا إلى وقف العرضين الأول والثاني لهذه المسرحية بسبب تجاوزات المشاهدين وسلوكياتهم الشائنة)، وتعتبر هذه المسرحية من أكثر مسرحيات صاحبنا تشويقاً للمتفرج الذي لم يتعرف على نهاية المسرحية إلا في نهاية أحداثها.
4 - المعذب نفسه، مسرحية مأخوذة عن مسرحية بالاسم ذاته لماندروس الذي عرضها في المسابقات الميجالية العام 162 ق.م.
5 - مسرحية فورميو، أخذها صاحبنا عن مسرحية باسم المدعين لأبوللودوروس والذي عرضها في المسابقات الرومانية العام 161 ق.م.
6 - مسرحية الأخوان، مقتبسة من مسرحية بالاسم ذاته لماندروس، عرضت في المسابقات الجنائزية التي أقيمت تكريماً لأيميلوس باولوس والد سكيبيو الأصغر العام 160 ق.م.
وترجع أسباب نجاح مسرحيات صاحبنا إلى مهارته في استخدام الحبكة المزدوجة التي تتوج نهايتها بزواج المحبين، وهي سمة تصدق على كل أعماله المسرحية على حد قول الدكتور حاتم ربيع حسن باستثناء مسرحية الحماة التي لا تتوافر فيها تلك الحبكة المزدوجة. وما يهمنا في هذا المقام بيان الخصائص الفنية لمسرحيتي الأخوان والحماة، فنقول تتميز مسرحية الأخوان بالترابط والاتساق بين التضفير الدرامي والمعمار السردي، وقد أجاد صاحبنا تحقيق هذا الترابط والاتساق بحرفية وروعة تنم عن كاتب مسرحي من طراز رفيع، وتعالج المسرحية في مجموعها عناصر علم التربية عامة وتربية الصغار خاصة، من خلال المقاربة بين نمطين متناقضين إلى أبعد تقدير، بينما تناقش مسرحية الحماة تأثيرات العلاقات الفاسدة بين بطل المسرحية وفاسقة قبل ارتباطه بالزواج من فتاة أحلامه.
ولا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى القول بأهمية البرولوج (البيان التفسيري والذي كان يلقيه رئيس الفرقة بالنيابة عن صاحبنا قبل تقديم وعرض أحداث المسرحية على الجمهور)، باعتباره السند الذي كان يتكئ عليه للدفاع عن أفكاره واستلهاماته الإغريقية أمام نقاده ومنتقديه، ويتضح مما سبق ذكره أنه لم يكن عرضاً موجزاً لموضوع مسرحياته وحبكتها الفنية على النحو الذي عرفناه عند يوربيديس وماندروس وبلاوتوس، وكان من عادة صاحبنا كتابة برولوج واحد لكل مسرحية، ما عدا مسرحية الحماة التي لم يكتب لها (برولوج) عند عرضها الأول، ولكنه كتب لها (برولوج) عند عرضها الثاني، و(برولوج) عند عرضها الثالث، وعلى الرغم من أهمية البرولوج التفسيري الذي تحصن خلفه صاحبنا للدفاع عن نفسه وموهبته أمام خصومه الذين لفقوا له التهم الفنية ومن أبرزها (ضعف الأسلوب والافتقار إلى الموهبة الأصلية وتشويه التراث المسرحي الإغريقي الذي نقل عنه واقتبس منه مباشرة)، حيث كانوا يتخرصون كذباً أن أعضاء دائرة سكيبيو التي نشأت في القرن التاسع عشر والتي انضم إليها صاحبنا في مراحلها المبكرة والتي تمثلت اهتماماتها في دراسة الحضارة الرومانية؛ هم الذين كتبوا المسرحيات التي نسبها صاحبنا لنفسه زوراً وكذباً، ونحن نرفض هذه التهمة التي تفتقر إلى الأدلة والبراهين التي تدعمها، وخير شاهد على ذلك خلو أسلوب صاحبنا من الركاكة والتعقيد؛ لأن المسرحيات التي تمت الإشارة إليها فيما سبق كتبت بلغة لاتينية رشيقة، كما تميزت كتاباته بالجودة والصقل والتهذيب الأمر الذي يجعلها تروق للعامة قبل الخاصة، كما كانت سبباً مهماً في جذب الجمهور الروماني إلى متابعة فنه والوقوف على إبداعاته المتميزة والحرص على مشاهدتها على الرغم من عدم إنتاج صاحبنا لمسرحياته أو التمثيل فيها نظراً لحرصه على بيعها لمدير فرقة التمثيل مقابل حصوله على مبالغ مالية كمكافأة على تأليفه العمل الإبداعي، كما نرد في هذا المقام على أكاذيب نقاده ومنتقديه الخاصة بسطوه على التراث المسرحي الإغريقي ونقله عنه بعض الأحداث والمواقف والشخصيات، ويتمثل ردنا في التأكيد على غزارة ثقافة صاحبنا، وخير شاهد على ذلك اطلاعه الواسع على التراث الإغريقي القديم والتأثر به والاستفادة منه في مسرحياته؛ لأن التأثير والتأثر جائز ثقافياً وفكرياً بين المبدعين بسبب تنميته عقليه المبدع ما دام بعيداً عن الزيف والتشويه والتأويل غير المسؤول، فضلاً عن اعتراف صاحبنا في بياناته التفسيرية بهذا الاطلاع والنقل على التراث الإغريقي واقتباس ما يروق له ويوافق مزاجه وفكره ويزيد من قيمته الإبداعية ويزيدها بريقاً وتأثيراً في جمهوره، وفي ذلك نقول على لسان الدكتور حاتم ربيع حسن: (نحن نرى أن صاحبنا لم يكن ناقلاً أو مترجماً للتراث المسرحي الإغريقي؛ بل كان شاعراً مستقلاً بذاته يتمتع بالإبداع والأصالة، وإلا لما كانت أعماله تحقق هذا القدر من النجاح، وخير دليل على ذلك هو التجديد والإبداع في برولوجاته)، على الرغم من خلو بعض مسرحياته (الحماة عند العرض الأول) من البرولوج بسبب حرصه النأي بأعماله عامة والحماة خاصة عن هذا البرولوج التفسيري لكي يضفي على الأحداث غموضاً لتتكشف من تلقاء نفسها في سياق العرض الدرامي شيئاً فشيئاً، الأمر الذي يجعل المشاهدين في حالة ترقب ويقظة دائمين خلال متابعتهم للعرض، فضلاً عن ذلك نلمح في برولوجات ترنتيوس مسحة من السخرية للمشاهد القديمة التي قامت عليها مسرحيات لوسكيوس لانفينوس، بالإضافة إلى تبريره بموضوعية أسباب فشل بعض أعماله وأسباب تنقيحها وإعادة عرضها من جديد بعد تطويره وتصويبه الأخطاء الفنية والإبداعية التي أحاطت بها في المرة الأولى.
ومما هو جدير بالذكر أن صاحبنا يعد بعد فرجيليوس من أكثر المؤلفين الرومان ذيوعاً وانتشاراً في الكلاسيكيات، وبسبب هذا الانتشار الواسع لاقت أعماله قبولاً ورواجاً بين الجمهور والنقاد، وقد وصلتنا معظم أعماله كاملة بسبب حفظها في مخطوطة كتبت قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن السادس. يضاف إلى ذلك أنه في عصر الظلام الذي استمر ما يقرب من قرنين من الزمان والذي لم يشهد طبعات جديدة من الكلاسيكيات؛ ظل صاحبنا على حد الدكتور حاتم ربيع محط اهتمام واسع النطاق في العصر الكاروليني، وخير شاهد على ذلك إعادة طبع مسرحياته مع توثيقها بدقة، الأمر الذي ساعد على انتشارها في العصور الوسطى.
ولم يبق لنا قبل مغادرة المقام ووضع القلم غير الإشارة إلى تصوير ترنتيوس للشخصيات وملابسهم، فنقول كان عدد الممثلين في كوميديات أريستوفانيس لا يزيد عن ثلاثة ممثلين في الغالب، ولكن العدد قد زاد وأصبح خمسة بدلاً من ثلاثة في الكوميديات والتراجيديات اليونانية الوسطى والحديثة، وقد أخذ ترنتيوس بهذا العدد في مسرحياته، وخير شاهد على ذلك مسرحيته (المعذب نفسه) كما يلاحظ القارئ الكريم زيادة العدد عن خمسة في مسرحيتي الأخوان وفورميو. وبالنسبة لملابس الممثلين فقد تأثرت بالملابس الإغريقية من جهات التفصيل والألوان على الرغم من تعدد الشخصيات، وخير شاهد على ذلك ارتداء الشيخ المسن سروالاً يونانياً تقليدياً يصل إلى القدمين وفوقه عباءة، كما كان يرتدي الشيخ في قدميه صندلاً خفيفاً يشبه الخف البسيط، ولا بد له من الإمساك بعصا في يده يعتمد عليها في سيره وحركته، وتحل حافظة النقود محل العصا في حالة المرابي، بينما يرتدي الشاب جلباباً أبيض يصل إلى ركبتيه وعباءة زاهية الألوان موشاة بألوان الزينة وقبعة كبيرة وحذاء من الجلد، بينما كان العبد يرتدي ثوباً قصيراً، ويحمل الشعلة على كتفه اليسرى بينما يظل كتفه الأيمن عارياً، وكان العبد يرتدي في قدميه حذاء بسيطاً يشبه الخف، أما الفاسقة فكانت ترتدي عباءة دورية موشاة بالزخارف ومصنوعة من قماش ناعم الملمس وصندلاً في قدميها، بينما ترتدي المربية ثوباً طويل الأكمام خالياً من الزخارف والشملة، فضلاً عن خف بسيط، ويتضح مما سبق ذكره أن الشخصيات في مسرحيات صاحبنا الكوميدية يغلب عليها طابع المبالغة، وتبتعد كثيراً عن الشخصيات النمطية، ومن أبرز أمثلتها الشيخ الشكاء أو دائم الشكوى والعبد الماكر والطفيلي والجندي المغرور والمحظية.. وما إلى ذلك من شخصيات نراها تتكرر حرفياً بالصورة والسمات نفسها في كل المسرحيات، وقد أشار الدكتور حاتم ربيع في تقديمه لمسرحيتي الأخوان والحماة إلى أهم أشكال الشخصيات المسرحية في كوميديات ترنتيوس، وهي:
1 - شخصيات الرجال، تشمل: الشاب والشيخ والحر والعبد، وهذه الشخصيات تمثل العمود الفقري في مسرحيات صاحبنا.
2 - شخصيات النساء، وتشمل: العذراء والفاسقة والزوجة والأم والمربية.
3 - شخصيات أخرى، مثل: الطفيلي والنخاس والجندي والطاهي والمرابي.
4 - كما يلاحظ قارئ تراث ترنتيوس المسرحي أو مشاهداته غياب الكورس عن العروض المسرحية، واستبداله بعازف الفولت لتقديم الموسيقى التصويرية أو مصاحبة بعض المجموعات أثناء التمثيل لأحداث المسرحيات الكوميدية التي أبدعها ترنتيوس، ومن أبرزها مسرحية الحماة.
5 - مما هو جدير بالذكر أن الدراما الرومانية لم تعرف المسارح، بمعنى أن الرومان لم يكن لديهم مبانٍ مخصصة للعروض الفنية عامة والمسرحية خاصة، بل كان المؤلف وجماعته يبنون مبنى من الخشب في المناسبات القومية والاجتماعية لأداء المسرحيات من خلاله، وكان المبنى يفكك بعد الانتهاء من استخدامه في الغرض الذي تم من أجله تصميمه، وفي حالات نادرة كان يتم الإبقاء عليه لممارسة بعض الأعمال الرياضية المختلفة كالمصارعة وركوب الخيل والجري والوثب العالي التي تتطلب وجود أماكن محددة لممارستها وحضور الجماهير لمشاهدتها.