مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الفنان أحمد ربيع.. ارتسام الهوية العربية بلغة تشكيلية

لئن حمل تاريخ مفهومي الفن والتراث معه الهوية الإنسانية وثبتها بجمالية فن الخط العربي، مستنداً إلى مرجعية تراثية لنمط معين من اللباس أو العادات أو التقاليد أو الأحداث اليومية، إلا أنه يستعيد القول في الاختلاف الضروري بين جميع الثقافات العربية ويمارس فعاليته المادية وغير المادية على حياة الشعوب. ورغم ذلك، يوحد الفن الثقافات العربية على اختلافها في هوية مشتركة ويتوجها بلغة الضاد بمنحى إبداعي وأسلوب تحكمه الضرورة التقنية المحكمة، تعمل على فهم وتحليل الواقع في مجتمع معين وتفكره من خلال فضاء اللوحة. لقد لعبت بعض المراجع التراثية دورها الحيوي في بعض أعمال الفنان التشكيلي السعودي أحمد ربيع، وفتحت سبلاً تشكيلية مختلفة في التبصر الفني الدقيق. علماً أن أحمد ربيع، هو فنان تشكيلي متفرغ ومتقاعد من وزارة التعليم.
نشط الفنان بعدة جمعيات، فكان عضواً بجمعية الثقافة والفنون بمنطقة الباحة بالسعودية وعضواً في بيت التشكيليين بمدينة جدة. كما شارك في العديد من المعارض والملتقيات والمهرجانات بالسعودية والمملكة المغربية ومصر.
وبالتالي، كان استئناف الفنان أحمد ربيع بلوحته هذه التي لم تكن تحمل عنواناً، ولكني وبعد إذنه تخيرت أن أسميها (ترسيمات)، علها تستأنف أجمل الترسيمات الفعلية والممكنة للجمال الفني والتشكيلي الخطي. ذلك أن تفهم لغة الضاد في حضن اللامتوقع التشكيلي، يفترض تأملاً جمالياً وتأويلاً فنياً مختلفاً في فن ترسيمة الحرف. تشكلت هذه اللوحة من القماش (الكانفاس)، 45/60 سم واعتمد الفنان أحمد ربيع ألوان الأكريليك ونفذها بسكين الباليتة، وهي من الأعمال التي تم اقتناؤها. إن الأهم بالنسبة إلينا ونحن نتواصل مع هذه اللوحة الفنية، هو أن الموضوع الفني المدرك فيها يختلف عن الواقع الاجتماعي بتفاصيله، حتى وإن حاكاه، لأنه يتميز عنه ويتفكره بطريقة إبداعية. فالإدراك الفني عند الفنان أحمد ربيع، هو الذي يستطيع أن يقوم بتجاوز حقيقة الواقع الذي يعيشه فيبنيه بذكرياته المتدرجة والمتأملة عبر مراحل حياتية معينة. لذلك، كان للفنان أحمد ربيع، الدور الفعال في عملية الإدراك الجمالي لترسيمة الخط العربي، وبخاصة في القدرة على إظهار حركة الحروف المتموجة وترسم سلاسة الخطوط الحرة وتفعيل ليونة تدفق اللون على اللوحة، حتى تنكشف بعض من الرموز التشكيلية للمتلقي. لكن هل يسعى الفنان أحمد ربيع من خلال هذا العمل الفني الحر الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية والالتزام بالتراث الإنساني المجيد في الجزيرة العربية؟ وكيف ارتسم بلغة الضاد هذا الجمال الفني التشكيلي؟
بهذا الفعل الفني المتحرر من كل دلالة والمنعتق عن التفاصيل الجزئية لفن الخط العربي، أضاف الفنان بعضاً من الميزة الواضحة في ترسيمة اللباس النسائي مثلاً: أن يكون فضفاضاً وأنيقاً للمرأة وهذا ما تتميز به العباءة السعودية. ولعل اختيار الفنان لهذه الممارسة التشكيلية نابع من عدة قناعات اجتماعية عايشها الفنان، فكانت مصدراً لإثارته فنياً، وارتسمت صورة الأم الأجمل في الذاكرة الطفولية البعيدة. لقد مثل الفنان أحمد ربيع ترنيمة لغة الضاد على فضاء اللوحة وقصد جمالية موسيقاها في لوحته التشكيلية، لكن دون ارتباطها بمعنى محدد، فعكست لوحته تلقائية الموروث اللغوي دون الالتزام بقواعد الدال ولا بمعايير المدلول.
وإذا ما شارك الفنان أحمد ربيع بعض ما تتميز به لوحة الخطاط من عمق العطاء الجمالي وقوة الذوق الفني، إلا أن قصدية الفنان المتحررة من قواعد الخط العربي وضوابطه الصارمة ما يلغي صفة الالتزام بكونه خطاطاً. لذلك يستدعي الفنان اللغة العربية في لوحته دون الالتزام بضوابطها الدلالية. يدفعنا هذا العمل الفني إلى تأويل تشكيلي مختلف ونمط مفهومي جديد، يرتبط بالفني والجمالي التشكيلي ومحاولة إبراز قيم جمالية تتحرر من القواعد اللغوية وتعمل على تخطي حواجزها.
يتحرر الخط العربي عند الفنان أحمد ربيع من مفهوم الدال والمدلول ليبحر في العناصر المرتسمة جمالياً التي يحملها شكل الخط المنحني والمتشكل بطريقة لولبية وكأنه في حراك متجدد، لأن للخط تشكلات فنية لا يفقهها إلا الفنان المتبصر في فن التشكيل، والذي ما ينفك يبحث باستمرار عن التنويع في مستوى المضامين التشكيلية، مما يزيد في إثراء القيمة الجمالية للإبداع الفني.
تفعل قصدية هذه الرؤية الفنية للالتزام التشكيلي العلاقة الجمالية بين ترسيمة الأم وترسيمة الابن بالعمل الفني فتعطيها فضاء وظيفياً وتمثلياً يؤثر إيجابياً على المتلقي أيضاً. وقد تحمل هذه العلاقة الجمالية، معمارية توجه فني مختلف يمزج بين ترسيمة لغة الضاد وترسيمة تراث لباس محدد. فكل هذه الترسيمات تقودنا إلى اعتبار هذه اللوحة الفنية ذات هندسة تراثية إنسانية متفاعلة مع نسيج اللوحة. لئن اختلفت هذه اللوحة الفنية عن ترسيمة الخطاط إلا أنها تفعلت بجمالية تشكيلية فن الخط العربي، وانفتحت على إمكانات تأويلية متنوعة وثرية.
إذ يجد القارئ لهذه اللوحة، أنه أمام لحظات متسلسلة ومتكاملة لتراث إنساني مجيد ولحضارة عاشها الفنان وتواصل معها بمحبة. كما تحيلنا هذه اللحظات على بعضها البعض لتنتهي إلى الأصلي في التراث والإنساني في هوية العمل الفني. وهو ما يدفعنا إلى قراءة جمالية للحظات هذه التجربة الفنية ومحاولة تفهم رموز بعض الترسيمات الخفية، الذي يحاول الفنان تشخيصها بالرسم واللون، فيحضر الحرف العربي كالسيد في اللوحة وتتجلى سطوته في عمق الخطاب التشكيلي.
لكن، التأكيد على سلطة الحرف العربي في عملية التزويق ضمن فضاء هذه اللوحة، قد يمثل منعطفاً لمقاربة فنية في الجمال التشكيلي. كما يمكن تحديد منطق هذه المقاربة واستشكال صور بعض التشكيلات الذي ارتآه الفنان أحمد ربيع بالقول: إنه التراثي والشعري في ذات الآن، ما تفكر فيهما الفنان، فعبرا عن بعض الأحاسيس والعواطف والتخيلات التي قد رافقته في طفولته، فكانت صورة الطفل الفنان في اللوحة وكان الطرب الموسيقي بحروف أبجدية لغة الضاد العريقة، كمثل الروح في الجسد. لقد شكلت هذه اللوحة بألوان الحياة ذاكرة طفولية بهيجة، فألحت على حضورها بحيوية حروفها دون التفكر في المعنى الحقيقي لترسيمة الحروف أو الكلمات.. فقد تكون آية قرآنية، وقد تكون حكمة، وقد تكون عبرة، وقد تكون أبياتاً شعرية، وقد تكون آثار عبارات منسية.. فاستحضر الفنان بعضاً مما ارتسم في ذاكرته.
وبالتالي، يستحضر الفنان الصورة الأنطولوجية للغة دون المعنى اللغوي المقصود ودون اجترار لغة الخط ولا المعنى. فوراء صورة الخط، يظهر دائماً الاستحضار لذكريات منسية. و وراء وجه اللوحة، تختفي دائماً طفولة الفنان. وخلف الأم التي في اللوحة، يوجد الطفل الفنان الذي يسعى إلى اكتشاف ذاته عبر ريشة حياته وتراثه وهويته وذاكرته وذكرياته وأحلامه وخياله وطموحه.. ودائماً نحن في حاجة إلى الآخر المتقبل والقارئ لنتواصل وليرقص الحرف على نغمات الحياة المتفاعلة والمتواصلة.
إذا كان تفكير الفنان هاهنا، هو استعادة لذكريات طفولية واستذكاراً لتاريخ هوية وتأسيساً لذاكرة حالمة واستحضاراً لثقافة إنسانية، فإنه يتوجه صوب ما هو فني ويواصل استئناف العمل مع التراث، متنازلاً عن كل الضوابط النسقية. لكن استشكالنا لهذه اللوحة الفنية جمالياً، يسعى إلى تنشيط مفهوم الفن والتراث والهوية والثقافة، ويكشف عن عمق التمثل الفني لفرشاة ترتسم الهوية ببراعة رفيعة. ولعل مراوحة هذه العناصر بين التأكيد الفني الجمالي والواقع الاجتماعي والعربي الإسلامي في السعودية، ما يساعد القارئ على معايشة الواقع الاجتماعي بأصوله وقواعده اليومية وبتركيبته الحياتية الرصينة.
لقد كونت هذه الأصول معطى أصلياً في لوحة الفنان أحمد ربيع واستدعت الروابط الأصيلة، التي تؤسس الهوية العربية الإسلامية في السعودية، من أجل بناء ترسيمات تشكيلية خاصة داخل مملكة رسمه. إذ تفكر الفنان بالرسم وجذر جمالية اللون على لغة الحروف من أجل إرساء مرجعية سيميائية مختلفة عن المعتاد أضاء بها اللوحة برمتها. وبالتالي، تساهم كل هذه المعطيات في تفهم الرموز الخفية والغوص في أعماق المطلب الذاتي للفنان: ارتسام الهوية العربية بلغة تشكيلية في هذا العالم. ارتسم الفنان هويته دون أن يرتبط بنمط معين من الفنون ودون أن يشذ عن القيم الجمالية والفنية للرسم، فأوى إلى نور لغة الضاد وجمعها في ظل فضاء اللوحة. كما حملت هذه الهوية العربية أهمية جمالية، شرعت لمعنى أصيل في التراث الثقافي، فتمثلت بقصدية سيادة البعد الجمالي للحرف في عمق جسد اللوحة المضيء. وشرعت الهوية العربية للفنان التزامه الفني أمام التاريخ وأمام العالم.
فاللغة الفنية ترتبط بالعالم وتتمفصل عنه، وهذا ما يحفظ الأثر الفني عبر التاريخ الإنساني ويتبعه فعل الالتزام. وإن شأن الإنسان داخل اللغة التشكيلية هو من شأنه داخل ترسيمة العالم. لكن، تجربة الرمز والعلامة في اللوحة ما يجعلان من الحضور الإنساني يستمر ويتجذر داخل عالَم الفنان شعرياً. فليس القصد أن نكشف بعض دلالات الصور أو الخطوط، وإنما القصد أن نعمق المعنى الإنساني التي تحمله بعض اللوحات الفنية. بهذا المعنى، يلتقي القارئ مع التجربة الفنية حيث الالتزام العميق بإشعاع الوجود والتاريخ والهوية.
تتحدد كل هذه العناصر لتستحضر المشهد الفني الذي ارتآه الفنان أحمد ربيع ضمن سلسلة أعماله الفنية. لكن، اللوحات الأكثر عمقاً هي التي تكشف طبيعة هذه الهوية الإنسانية في مجتمع معين، وكأنها شمسها. وإنه الجمال الفني الذي يحمل معنى، لا يلتزم إلا بالضرورة الجمالية وبكينونة الإنسان في العالم. فيتبع الفنان الخطى الباحثة عن المنسي في الذاكرة والمختلف الجميل المرتسم في الفنون. بذلك تشكلت قراءتنا للوحة (ترسيمات) وتقومت بجمالية الحضور الفني، فكشفت عن أنطولوجيا استأنف معها أحمد ربيع مساره الفني.
لقد أعطى الفنان أحمد ربيع توجهاً جديداً دعم به اللامقال لجمالية الخط العربي، الذي يكمن في عدم اختزاله في المعنى، بل في قدرته الخاصة على أن يعَاشَ جمالياً ويرتسم تشكيلياً. ورغم ذلك، لا يمكن لنا التعامل مع الخط العربي كشيء صامت أو مباشرته من دون تمثل الهوية العربية فيه وتعينه في حضن تراث العالم العربي والإسلامي. وبالتالي سجل العالم الفني هذا الحضور الحامل لهذا التاريخ المنير وصرح برموزه عن عمق الصور المستبطنة في الذات الإنسانية لتعبر عن المعنى والجمال في الأثر الفني.

ذو صلة