مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

العيون الواسعة ترسم أدلة الاتهام

عندما ينادي القاضي على كل من (المدعي والمدعى عليه) لا ليقول لأي منهما: اقسم.. بل ارسم! وحينما تساند الموهبة صاحب الحق وتنصفه؛ تلك كانت اللحظة الفاصلة التي تسترد فيها مارجريت قلبها وعيونها وفكرها، وترفع عن كاهلها ذلك الظلم والإجحاف الذي تعرضت له.
وإن كانت ورش العمل والملتقيات في زمننا هذا تكشف زيف الفنان وادعائه؛ فإن المعارض الكبيرة والمهرجانات قد تعكس صورة مغايرة للواقع ولحقيقة الفنان الذي يراه الناس تحت الأضواء المبهرة والكاميرات والكلمات المنمقة والأزياء الثمينة. وظهرت خلال بعض أحداث الفيلم أن دافعت الفنانة عن وجودها خلال رسم لوحة كبيرة تجمع بها الأطفال المشردين وبشكل درامي حتى قوبلت اللوحة بالرفض والاستهجان من الجمهور والنقاد، مما جعل الفنان المزيف والتر يفقد عقله ويحاول إحراق المنزل بما فيه زوجته وطفلتها ولوحاتها، ولكنها استطاعت الفرار إلى هاواي. نعم إن المخرج الأمريكي تيم بيرتون وهو يطلق فيلم تحت عنوان (عيون كبيرة)، لقصة كتبها سكوت ألكسندر ولاري كاراسزويسكي؛ قد وضع منهاجاً جديداً للأدلة الجنائية، وشرطاً من شروط التقاضي بعدم الرضوخ للشهرة، وسلطة الإعلام.
ولعل بعض الذين يكتبون عن الفنان لا يعبرون بصدق عن لحظات انتظاره لميلاد اللوحة، والحذر كل الحذر لمن يقترب من عالمه وكأنه سوف يقع في شرك مخادع أو نصاب في اللحظة التي يأمل فيها الفنان أن يسمع كلمة جميلة أو ابتسامة قد تبقيه ساعات أطول منتشياً بتلك اللحظة التي هي أثمن من بيع لوحة بثمن بخس من أجل شراء طعام أو دفع إيجار مسكن، تلك الحالات الإنسانية التي لا يتطرق إليها الروائيون بشكل قريب ظناً منهم أنها أشياء لا تهم القارئ بالضرورة أكثر من الحديث عن قدرته الكبيرة في سرعة الرسم وبيع اللوحات بأثمان باهظة.
فما ظنك بفنان يقف أمامك بملابس رثة متهالكة وحال بائس يشبه المتسول، كل همه أن يطعم صغيره، وغير مدرك يقيناً أن لديه قدرة وموهبة يقدمها وسوف تعمل على فتح طريق جديد للإبداع وتلهم الكثير من المبدعين لتقليد أسلوبه، وهذا الذي حدث فعلاً مع بطلة قصتنا، ومن اللقطات الأولى للفيلم وتلك الشابة تجمع أغراضها في عجالة وتصطحب ابنتها في رحلة بالسيارة، لتشق الطريق، وتدفعك لمتابعة أحداث جرت في وقت سابق عن يومنا هذا، هل حقاً ظنت الرسامة مارجريت كين عندما تركت منزلها أنها هربت من الظلام إلى الضوء؟
في تاريخ الفن هناك قصص غريبة تحصل، لكن قصة (العيون الكبيرة) هي من أغرب القصص التي يجب أن نتعلم منها، بل التي حتماً سنتعلم منها الدرس الذي لا يمكن أن ننساه طوال حياتنا، بألا ننساق وراء الكذب من أجل المال. وإذا كان الفن يخلق عالماً أكثر إنسانية؛ فما ذلك الذي نراه بشكل يومي من إجحاف وظلم وتحقير للمبدعين؟
تقابلت مرجريت مع ولتر كين كالتقاء قناتين أو تفريعين ليصبا في نهر، هكذا ظنت هي في بدايات الهيام والملاطفة، وبدايات أيام الزواج الأولى وصدقه ومحبته، ولكننا لا ندرك على وجه اليقين هل أوحى إليها أن هذا المصب أو النهر لا يمكن أن يحمل اسمين، ولذلك يجب أن يكون اسم كين وسيلتها وعلامتها الفارقة وحضورها في عالم الفن، وما وصلنا من معرفة في هذا الجزء أنه قال لها إن المرأة لا تبيع أعمالها هكذا، وإنما تعطي توكيلاً لشخص يبيع لها؛ وكان هو ذاك الشخص. كانت مارجريت توقع على لوحاتها (كين).
يوم أن عرض عليها الزواج كأنه يبث في روحها الحياة، ونجح كل من المخرج ونجم الفيلم في تجسيد صورته الباهتة والضياع الذي كان يعيشه وعدم التوفيق في بيع أي من لوحاته التقليدية وعتيقة الطراز، ثم تلك المضاربة التي تمت بالبار وكتب عنها صحفي تبنى بناء شهرته حتى أصبح هذا البار معرضاً دائماً له في الصالة الرابطة بين صالة البار ودورات المياه. وهنا تكتشف مرجريت كذبته الكبيرة وادعاءه بأنه الفنان الذي قام برسم اللوحات، لقطة من أروع لقطات الفيلم أبدعتها إيمي آدمز التي جسدت لحظة الشعور بالمرارة بأن زوجها والتر لا يكذب عليها فقط، ويدعي أنه يرسم لوحاتها؛ إنما يحاول أن ينزع منها روحها التي اختلطت مع ألوانها.
وإن كانت مارجريت قد تأثرت بمن سبقوها من كبار الفنانين إلا أن أسلوبها قد أثر في فنانين أمثال eve، lee، gig، maio، ozz franca، lgor pantuhoff وكذلك هناك عمل من وحي رسوماتها little miss no name dolls
الفيلم من بطولة إيمي آدمز وكرستوفر فلتز وداني هيوستن وكريستين ريتر وجيسن شوارتزمن. يقول المخرج تيم بيرتون: (إنه مثل فيلم رعب غريب، فهناك قصة حب وكوميديا وعلاقة زوجية. شعرت أنه يمكنني الربط بين كل هذه الأشياء). الممثلة إيمي آدامز تألقت بدورها في تقمص شخصية الرسامة مارغريت كين، مبدعة لوحات العيون الكبيرة، والتي تعرفت إليها عن قرب.
تقول عنها: (إنها إنسانة هادئة جداً، خلال لقائي بها حصلت على إجابات لأسئلتي العديدة، أتمنى حقاً أن أكون قد نجحت في تقديم شخصيتها).
كما تحدث بهذا الخصوص كريستوف والتز الذي تقمص شخصية والتر كين، قائلاً: (لم أكن أعرف شيئاً عن القصة، ولم أكن مطلعاً على الاحتيال الفني أو عن اللوحات، كنت أعرف هذه الصور من خلال البطاقات البريدية، وأتذكر الحيرة التي تنتابني وأنا أشاهدها، لأنها غريبة نوعاً ما، ليس في مستوى العيون الكبيرة فحسب، ولكن أيضاً لكبر حجم الرؤوس مقارنة بالأجسام إضافة إلى خلفيات اللوحات الغامضة).
تم إنتاج الفيلم بتكلفة 10 ملايين دولار، لكن أرباحه كانت 20٫9 مليون دولار. وهو فيلم مستوحى من قصة حقيقية بطلها الرسام والتر كين، الذي عرف نجاحاً كبيراً في خمسينات القرن الماضي بفضل مجموعة من اللوحات الغامضة التي أطلق عليها (عيون كبيرة).
لكن العالم يكتشف فيما بعد أن زوجته مارغريت كين من مواليد 1927م والتي تطلقت منه عام 1965م، قد رفعت قضية بعد الطلاق بخمس سنوات، وأعلنت أنها هي من رسم تلك اللوحات، فيلتقيان عام 1986م في المحكمة ويطلب القاضي من كل منهما أن يرسم أمام المحلفين، فادعى أن كتفه مصاب في الوقت الذي أتمت هي اللوحة في وقت قصير أقل من ساعة ودموعها تختلط بالألوان، وأثبتت حقها، لتنال شهرة العالم ويخبو نجم والتر كين، بالإضافة إلى المطالبة بتعويض مالي قدرة أربعة ملايين دولار.
بطريقة محترمة ودقيقة عرض فيلم (عيون كبيرة) في قاعات السينما الأمريكية بمدينة نيويورك بالتزامن مع الاحتفال بأعياد الميلاد عام 2014م، فيما تمت عروضه الأوروبية فيما بعد.

ذو صلة