في كل لحظة نصادف عدداً لا حصر له من صور الوجوه المنشورة على إنستغرام، وفيسبوك، وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن أغلفة المجلات الدورية، والصحف السيارة، والقنوات الفنية. وجوه باسمة، ضاحكة، مشرقة. ابتساماتها لم تستغرق لمحة بصر لكن أثرها باق على مر العصر. وعلى جانب آخر، عندما تتصفح عدداً من الصور الفوتوغرافية القديمة في كتب ومجلات عريقة يثور السؤال: لماذا لم يبتسم الأجداد في معظم صورهم كما يبتسم أحفادهم، ولماذا لا نشاهد تلقائية ضحكاتهم كما نراها بادية على وجوه أبنائهم؟
الابتسام والضحك ليس مجرد (ظاهرة)، بل (غريزة/حاجة/ ضرورة) بشرية خُص بها الإنسان. ولعلّه وهو من أكثر المخلوقات شعوراً بالألم يواجه بهذه الغريزة صعاب الحياة ومشاقها، ويصمد أمام تحدياتها وتقلباتها، ويتحمل أتراحها وآلامها. فضلاً عما يتهدده من (قلق) الموت. لذا فالابتسامة لغة النفس المشرقة، مهما عصفت بها مشكلات، ابتسامة تكسب القلوب، وتتحقق الأمنيات. وعند تأمل صور الوجوه الحديثة نجد أن الابتسامة دلالة على الشخصية السمحة المنفتحة المحبوبة.
ومع ذلك نرى ملامح وجوه الكثيرين رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً في الصور القديمة يعلوها (عبوس غامض، وأحياناً حاد)، ما قد يعطي انطباعاً بأنهم في حالة عدم رضا وعدم ارتياح، وملل وتململ، أو حرج وإحراج. وكأن هناك من يحدد ملامح وجوههم بمقياس دقيق، ويمنع ظهور انفراجة الشفتين في صورهم. فهل كأن ثمة (صراع) عريق بين الجدية والابتهاج، وبين الحزم والمرح يظهر في الفم الذي يحاول أن يتمدد ويبتسم، وتمنعه ضوابط ذاتية ومجتمعية؟ ويتضح هذا (الصراع) بجلاء في صور وبورتريهات فنانين مشهورين مثل لوحة الفنان، والمهندس، والنحّات الإيطالي (ليوناردو دا فينشي) الشهيرة: (الموناليزا) أو (الجيوكاندا) (تعود للقرن السادس عشر) التي لها سمة خاصة بها، بحيث تتميز بالابتسامة الغامضة.
فمنذ ذلك الحين ساد عرف راسخ في أوروبا بأن الذين يبتسمون في صورهم هم: الفلاحون، والفقراء، والبسطاء، والمهرجون إلخ. أما شخصيات الطبقات العليا فيجب أن تكون ملامح صورهم أكثر جدية، ومهابة، وحزماً، وتميزاً بابتسامة غامضة لا يمكن ملاحظتها ولا رؤيتها. فمن معايير الرجولة: الشخصية القوية الصلبة الخشنة، وارتفاع الهامة، وامتشاق السلاح. ويعتقدون أن (الابتسامة هي صفة أقرب إلى صفات النساء وتطعن في مروءة الرجال). ومنذ القرن التاسع عشر، بدأ ظهور الابتسامة بوضوح في الصور واللوحات وبلغت ذروتها عام 1919، عندما أنتج الفنان الفرنسي (مارسي دو شامب) نسخاً من لوحات تميزت بالابتسامة الخفيفة. ومع ذلك فحتى أفراد العائلة الملكية البريطانية، بمن فيهم الأحفاد الأطفال لا يبتسمون في صورهم الحديثة جداً، ما يدلل على التمسك بنظرية أن شخصيات الطبقات العليا عليها الالتزام بالجدية والنمطية في الصور.
ويقف خلف الابتسام سبب رئيس: التفاعل والتكيف والتوافق الاجتماعي، ويبدو هذا التفاعل جلياً عند التقاط الصور. وليس دقيقاً الظن بأن غياب الابتسامات عن وجوه الناس في الصور يعدو لكون أسنانهم ليست جميلة بالقدر الكافي، فيضطرون لغلق أفواههم منعاً لظهورها. فهذه السمة جزء من التزامهم بنظرة مجتمعية لما هو مقبول/ غير مقبول، وما هو جميل/ قبيح. فمن خلال تتبع البورتريهات وتحليلها، نجد أن قيماً، و(صوراً ذهنية مجتمعية) سائدة يتشبث بها الناس تتواءم مع موروثهم الثقافي. فلقد كانت للابتسامة، وظهور الأسنان أحياناً، دلالات ثقافية، قليل منها يتماشى مع تصوراتنا الحديثة بأنها إشارة إلى الحبور والرضا النفسي. فإظهار الأسنان كان خرقاً لملامح شخصيات الطبقات العليا أو نقضاً لآداب السلوك.
وكان ينظر إلى أن من العيب رسم الابتسامة وإظهارها، فالطبيعة تخالف ذلك. فهذا الكاتب (الفكاهي الطابع) (مارك توين) تميز بالجدية في صوره كونه (يعتبر الابتسامة دليلاً على حماقة الشخص): (الصورة أهم وثيقة، ولا يوجد شيء أكثر إضراراً بالأجيال المقبلة من الابتسامة الخفيفة والحماقة التي يتم التقاطها وتظل ثابتة إلى الأبد).
مدة التصوير
يرى الكثير من المهتمين بفن التصوير أن (القيود الفنية التقنية) لعبت دوراً بارزاً في غياب الابتسامة عن بورتريهات القرنين التاسع عشر والعشرين. حيث كانت كاميرات التصوير كبيرة الحجم، وثقيلة الوزن، وذات عدسات غريبة، بخلاف ما هي عليه الآن من تعامل هين وسرعة في التقاط الصورة وتظهيرها.
كما أن مدة التصوير الطويلة قديماً جعلت من الصعوبة، ومن غير المريح، ثبات الوجه على ملامح الابتسامة لمدة طويلة. حيث يلجأ المصور لإجبار الأشخاص على عدم الحركة أثناء فترة التصوير الطويلة، ما يسبب الملل وعدم الرضا، بخاصة مع وجود أطفال في الصورة، ولا يتماشى مع طبيعتهم وحركتهم المستمرة. ويشار إلى أنه في عام 1826، التقط المصور البريطاني (لويس داغوير) صورة استغرقت 8 ساعات. لكن في 1839، تمكن العالم (لويس داجير) من تقليص هذه المدة الطويلة لتصبح 15 دقيقة فقط. فكان ذلك طفرة ثورية في فن التصوير الفوتوغرافي، إلا أن الأمر ظل غير جيد في ذلك الوقت.
لكن مع التطور المشهود في صناعة الكاميرات وإنتاج الصور الحديثة، ازدادت سرعة التقاط الصورة بشكل هائل، وهذا ما سهل عمل التصوير، واحتفظ بالابتسامات المشرقة. ففي أواخر عام 1890، فرض (كوداك) الابتسامة في الصور، والتقط صوراً لأشخاص يبتسمون، وعمل على طباعتها وعرضها في الأستوديو الخاص به. من هنا، بدأ الناس يبتسمون في صورهم. والخلاصة: وجدت دراسة لجامعة كانساس أن الابتسامة -حتى لو كانت متصنعة- تخفض ضغط الدم ومعدل دقات القلب وتخفف الإجهاد والتوتر النفسي. لذلك يوصي الباحثون بضرورة التبسم.