حصل الكاتب الإنجليزي (هارولد بنتر 1930 - 2008م) على جائزة نوبل للآداب عام 2005م، وقيل وقتها كما يقال دائماً مع كل مبدع تختاره أمانة الجائزة من بين عشرات المرشحين أن اللجنة تعاطفت معه لأنه أعلن اعتراضه على السياسة البريطانية الأمريكية لكن ربما عكس ذلك هو الصحيح حيث يكتشف من يطلع على السيرة والمسيرة الفنية والأدبية والإنسانية والإبداعية لبنتر أنه منذ لحظة البداية وإلى نهاية مشروعه الإبداعي نموذج حي لواحدة من العبقريات الإنسانية في الإبداع المسرحي حيث بدأ بنتر مسيرته الفنية ممثلاً صغيراً بفرقة مسرحية متجولة ظل عدة سنوات يعمل معها باسم مستعار، وأمضى في (أيرلندا) عدة سنوات أدى خلالها عدداً كبيراً من الأدوار في أحد المسارح الإقليمية، ولذلك أكسبته هذه التجربة العملية خبرة فنية وثقافية واجتماعية ومعرفة جيدة عن دنيا المسرح.
ولد (بنتر) في العاشر من أكتوبر سنة 1930م لعائلة من الطبقة العاملة في أحد أحياء شرق لندن، ودرس التمثيل بالأكاديمية الملكية للفن المسرحي والمدرسة المركزية للإلقاء والدراما بمعونة أو منحة حكومية، ورفض (هارولد بنتر) الالتحاق بالجيش وامتنع عن أداء الخدمة العسكرية لأسباب إنسانية تتعلق برفضه المطلق لفكرة الحروب والاحتكام إلى السلاح في القضايا الدولية. بعد مرور أحد عشر عاماً على عمله بالمسرح دفع (بنتر) بتحريض من أحد أصدقائه إلى صياغة أول مسرحياته في سن السابعة والعشرين، وقد اضطر إلى إنجاز هذه المسرحية في أربعة أيام فقط.
كان (بنتر) قد كتب قبلها مئات القصائد والنصوص القصيرة لكنها كانت تجربته الأولى في كتابة المسرح وعرضت المسرحية بقسم الدراما بجامعة (برلستول) وكان القسم الوحيد للدراما في بريطانيا عام 1957م، وكانت مسرحية بعنوان (الحجرة) قال هو نفسه عنها بعد مشاهدته الأولى لها: (إنها كانت تجربة ملفقة).
كتب (هارولد بنتر) مسرحيته التالية من دون ضغط عن تجربة ذاتية حدثت له عندما كان يسكن غرفة حقيرة غير صحية وقذرة تشاركه فيها القطط والكلاب وتسودها الفوضى بعنوان (حفلة عيد الميلاد)، وعرضت المسرحية في أكسفورد وكامبردج بنجاح وفشل عرضها على مسرح (ليرك هامر سمث) في لندن وظل خلفها حتى لاقت النجاح عندما عرضها بلندن عام 1964م بفرقة شكسبير الملكية.
كتب بنتر عدداً من المسرحيات الإذاعية والتليفزيونية منها (ليلة خارج الدار) و(مدرسة ليلية) و(الأقزام) و(التشكيلية) و(العاشق) وانتقلت كثير من مؤلفاته من المسرح إلى التليفزيون والإذاعة أو العكس، ومن أشهر مسرحياته (أيام غابرة) التي كتبها عام 1970م والخامسة هي (أرض محايدة) عام 1975م والسادسة (الخيانة) عام 1975م و(أصوات عائلية) عام 1980م و(نوع من الآسكا) عام 1982م و(محطة فكتوريا) عام 1984م، و(واحدة للطريق) و(الصمت).
قال (هارولد بنتر) عن الكتابة المسرحية: (هي أصعب أنواع الكتابة بالنسبة لي وأكثرها عرياً، إنك مقيد تماماً، لقد ساهمت في بعض الأفلام ولكن لسبب ما لم يتسن لي أن أرضي نفسي بفكرة جديدة لكتابة فيلم. إن مسرحية (حفلة شاي) التي كتبتها للتليفزيون كانت في الواقع فيلماً سينمائياً لقد كتبتها لهذا الغرض فالكتابة للتليفزيون والسينما أسهل بكثير)
تزوج (هارولد بنتر) من الممثلة (فيفان مير شانت) التي أدت كثيراً من الأدوار النسائية في مسرحياته، وكان سعيداً بتفاعلها مع كتاباته وعلق على عملها بقوله: (إنها أفضل من يقوم بذلك)، وأخرج بنتر بعض مسرحياته مثل (الخادم الأخرس) و(العاشق) و(الأقزام) بعد أن ساعد في إخراج مسرحية (التشكيلية).
مسرحية (الحارس) عام 1960م هي منحني التحول في مسرحيات هارولد بنتر بإجماع نقاد الدراما، ولذلك حقق بها أول نجاح مادي وأدبي، وسجلت نقطة فارقة في حياته المسرحية لما كشفت عنه من معالم التفرد في إبداعه ومنها بدأ المراقبون يتوقعون له شأناً كبيراً في مجال الكتابة والإبداع المسرحي.
تقوم مسرحية الحارس على ثلاث شخصيات رئيسة متباينة الأبعاد والصفات وهذه الشخصيات من الأكبر للأصغر وفقاً لمراحلهم العمرية هم (ديفز) رجل مسن غير واضح المعالم، والثاني (أستون) مهندس ديكور في أوائل الثلاثين من عمره خرج لتوه من مصحة نفسية، وفي إطار بحثه عن أي رفيق يؤنس وحدته عثر على (ديفز) العجوز فاصطحبه إلى منزل حقير يملك نصفه ولكنه لا يعيش فيه ولذلك عند أول خروج له يدخل إلى البيت وإلى الأحداث الدرامية شقيقه الأصغر منه وشريكه في البيت، وهو الشخصية الثالثة والأخيرة في المسرحية (ميك) عصبي المزاج وغريب الأطوار ثم يعرض بنتر فكرته عن ذلك الدخيل غريب الأطوار مفقود الهوية الذي يطلب منه أصحاب الملك أن يكون حارساً على البيت ربما بدافع خوف كل منهما أن يطمع شقيقه بما في يديه وهو لا يعلم أنه بذلك يسلمها إلى من لا يؤتمن وأنهما ربما خسراها إلى الأبد فالخطر يتربص بأي إنسان في مسكنه الصغير الذي يدخله من خلال فتحة على الشارع أو على الناس وهي الباب الذي قد يدخله زائر عادي بكل سهولة ويسر ويرحب به وبوجوده فإذا هو يحمل بين جنباته كل شرور العالم ينفثها في البيوت الهادئة المطمئنة ولذلك أول ما يجب أن يلتفت إليه قارئ المسرحية هو الباب يدخل منه الجميع لذلك في كل مرة يفتح الباب يكون هناك احتمال لحدوث خطر بكل معانيه ودلالاته التي سبق وأشرنا إليها سلفاً.
(ديفز) الغريب يتكلم أيضاً عن الخطر الذي يمكن أن يهدده حين يعمل حارساً ويضطر إلى فتح الباب ويقول: (من المحتمل أن يأتي ذلك الإسكتلندي اللعين للبحث عني. ربما كل ما علي أن أفعله هو أن أسمع الجرس فأنزل وأفتح الباب من يمكن أن يكون هناك؟ قد يكون شخص حقير وبهذا أقع بمثل هذه السهولة).
عرضت مسرحية (الحارس الليلي) للمرة الأولى على مسرح (الفنون) بلندن في السابع والعشرين من أبريل 1960م، وحققت نجاحاً كبيراً في نفس وقت إذاعة عدد من نصوصه السابقة.
مارس بنتر على مدى عمره عدة أعمال منها حارس ونادل وغاسل أطباق وبائع متجول. ولذلك كان لديه خبرة لا بأس بها ومعرفة بطبيعة الحارس الليلي تلك الشخصية التي رسمها للغريب (ديفز) الذي يدفعه الخوف والذعر والفزع إلى القلق وعدم التريث فيشهر السلاح في وجه مضيفه وصاحب العمل وصاحب المكان (أستون) ليدفعه إلى ترك الحجرة إلا أن (أستون) يتريث ويمعن الفكر والحيلة حتى ينجح في النهاية ويتغلب على (ديفز) ويطرده في النهاية من المنزل.
رغم بساطة الحكاية وقلة الشخوص والأحداث إلا أن الحوار المتصاعد ذي الإيقاع السريع يوفر جاذبية وروحاً خاصة لكتابات (بنتر) وفي طليعتها الحارس لأنه يعرف كيف يمكن تطويع الجمل الحوارية وفقاً للتعبيرات والمفاهيم العصرية ليصبح للكلمة في عباراته الحوارية أهمية وقيمة غير تقليدية كأنها موسيقى فريدة وعصرية تحفز العقل وتؤدي إلى التوتر وسرعة نبضات القلب الذي يلهث خلف مصائر شخوص لا شبه ولا علاقة ولا أي صلة بيننا وبينها إلا في صفة الإنسانية، وهي الصفة التي نجحت وسائل الإعلام في تحييد الاتصال بينها حيث يطالع المرء بكل بساطة مذابح ومظالم لا تجري لإخوة له في الإنسانية وحسب، وإنما إخوة له في اللغة والقومية والجنسية ولا شيء يزعجنا أو يقلقنا وما زلنا نأكل ونشرب وننام في هدوء وسلام.
العلاقة الإنسانية بين الشخصيات الثلاث في مسرحية الحارس هي مركز إبداع وتفوق بنتر الذي استطاع أن ينطلق منها ولأول مرة في تجربته الثالثة نحو إبراز قدراته الدرامية على إظهار دوافع السلوك والعلاقة بين الأشخاص، إذ كان (بنتر) في مسرحياته السابقة يحيط شخصياته وتصرفاتهم بشيء من الغموض حتى يزيد من عنصر الفزع والرعب الذي كان يسود هذه المسرحيات على عكس الحارس التي اهتم فيها بإظهار مسببات سلوك الأشخاص وعلاقاتهم بعضهم ببعض من خلال تصرفاتهم وأقوالهم وذلك دون أن يستغرق المتلقي في الإسهاب في شرح تفاصيل ماضي شخصياته ولذلك لا نعرف عن ماضي أبطال (الحارس) إلا أقل القليل، مثل أن (أستون) دخل مستشفى الأمراض العقلية في فترة ما من حياته، أما (ميك) فيمتلك سيارة نقل وترك المنزل لأخيه وله مكان آخر للإقامة، مكان لا نعرفه ولا نعرف مدى حبه لأخيه، أما (ديفز) ذلك الغريب فقد كان يعمل في أحد المقاهي وطرد منها وكل ما يتعلق بهويته غير متوافر على أرض الواقع الدرامي، ورغم عدم توافر ما يكفي من معلومات عن هذه الشخصية إلا أن (بنتر) أبدع في رسمها لتصبح كما لو كانت تعيش بيننا وتراوغ وتخادع بلا مبدأ ولا أخلاق حيث لا يهم (ديفز) في كل الأحوال سوى مصلحته الشخصية فنراه يصادق (أستون) تارة ويصادق (ميك) تارة أخرى حسب ما تمليه عليه منفعته وهو على استعداد أن يهدم راحة الآخرين وسعادتهم في سبيل راحته وسعادته الشخصية، وهو كما نرى شخص غريب الأطوار لا يسعى إلا لما فيه مصلحته الذاتية وهو كذلك شخص عنيد متكبر ناقم على المجتمع ولذلك فهو حينما يتواجد في أي مكان يظل مصدراً للخطر يهدد كل من يحيط به.
وجد ديفز بيئة مناسبة تماماً لتسهيل مهمته؛ إذ إن شقيقين لا يستطيعان الاتصال ببعضهما البعض ولا يفهم كل منهما الآخر لوجود فجوة بين الأخوين يبرزها (بنتر) في الحوار بينهما على هذا النحو:
ميك: مايزال هذا الرشح موجوداً.
أستون: نعم.
يلي ذلك الحوار البارد بين الشقيقين فترة صمت لإظهار مدى فقد وانعدام التواصل وضعف الاتصال بين الأخوين وتتكرر فترات الصمت خمس مرات في اثنتي عشرة جملة حوارية مقتضبة على ذات النحو المذكور لنتأكد أننا أمام كاتب يعرف كيف يحسن التعبير عما يود التعبير عنه واتخذ لنفسه أسلوباً خاصاً في التعبير بتكرار بعض المواقف وبعض الكلمات كي يزيد من وضوح الشخصية التي يرسمها مثل الموقف الذي يريد أن يعرضه رغم رفض التكرار عموماً في مجال الصياغة المسرحية لكن عرض عمل (ديفز) كحارس للمنزل يتم من قبل الشقيقين بنفس الأسلوب، ونفس الكلمات ونفس طريقة الاستجابة من (ديفز) للرد على الشخصين المختلفين تاركاً للمتلقي حرية تأويل الموقف على النحو الذي يميزه ويناسب قدراته وأفكاره، ونفس التكرار يشاهد في الطريقة التي يرجو بها (ديفز) الأخوين في طلب زوج من الأحذية لكي يتمكن من الذهاب للحصول على هويته الموجودة في (لوتون) كما يعمد (ديفز) إلى تكرار جمل بعينها في حواره الموجه (لأستون) بغرض دفعه إلى التفكير بأن أخيه (ميك) شخص غريب الأطوار غير طبيعي شاذ الأفعال وفي طريقه إلى الجنون (ديفز: اسمع عندما أستيقظ في الصباح أراه يبتسم لي... عندما أستيقظ في الصباح أراه يبتسم لي -عندما أستيقظ في الصباح- يقف هنا ينظر نحوي ويبتسم وأستطيع أن أراه، خذ بالك معي، أستطيع أن أراه من تحت البطانية يرتدي معطفه ثم يستدير وينظر إلى سريري وهو يبتسم؟ لمن يبتسم؟ وهو لا يعرف أني يمكنني أن أراه يعتقد أني نائم ولكني أظل أراقبه من تحت البطانية لا يعرف ذلك لا يعرف أنني يمكنني أن أراه ولكني أظل أراقبه بعيني طوال الوقت من تحت البطانية هل أنت معي؟ لكنه لا يعرف ذلك كل ما يفعله هو أن ينظر تجاهي ويبتسم لا يعلم أني أستطيع أن أراه وهو يفعل ذلك).
يرجع السبب في نجاح مسرحيات (بنتر) بالدرجة الأولى إلى حواره المدهش المختلف والمتميز الذي حاولنا أن نعرض نماذج منه لنرى ما تنطوي عليه من إحساس وذكاء وتعريض، وإيحاء وإسهاب واقتضاب وتركيز وتكثيف وتكرار مفيد، كما أبدع بنتر في توظيف لحظات الصمت وأوقاته داخل نسيج الحوار والتي لا تقل في تأثيرها وقيمتها وقوتها عن تأثير وقوة وقيمة الحوار المنطوق ذاته.
من أقوال هارولد بنتر الشهيرة ذات العبقرية الكبيرة (إننا نجيد الاتصال في صمتنا فيما لا ينطق، أما هذا الذي يجري بيننا فهو هروب مستمر، محاولات فاشلة خافية كيف نحتفظ بما في صدورنا لأنفسنا).
بعد نجاح (بنتر) في الكتابة المسرحية الذي بدأ من التمثيل انهالت عليه التكريمات والتقديرات لعل أبرزها شهادة التقدير التي حصل عليها من المندوب السامي البريطاني ضمن قائمة تشريفات عيد ميلاد ملكة بريطانيا عام 1966م، وفي سبتمبر 1970م حصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة بردنج في وسط إنجلترا، ثم وبعد رحلة طويلة مع الإبداع المسرحي في مارس 2005م أعلن (بنتر) توقفه عن الكتابة المسرحية لصالح كتابة المقالات الصحفية التي اهتم فيها اهتماماً عميقاً بموضوع الشرق الأوسط وانحاز معارضاً للسياسات الأمريكية والإسرائيلية ووقف بوضوح ضد الحرب الأمريكية البريطانية على العراق وأعلن تفرغه تماماً لذلك فكان جزاؤه بعد أن اختار التحيز لهذه القضايا العادلة منحه جائزة (نوبل) تقديراً لمساهمته الأدبية ولدوره الفاعل في خدمة الإنسانية، وبعد ثلاث سنوات من نوبل رحل (هارولد بنتر) في 24 ديسمبر عام 2008م عن عمر ناهز الثامنة والسبعين وبعد رحلة طويلة من الإبداع في مشوار فني طويل وفريد بدأ من التمثيل وانتهى بالإبداع في الكتابة المسرحية.