الكل يترقب عن كثب بدايات دخول المملكة العربية السعودية للمجال السينمائي، والأصح أن نقول عودة المملكة مرة أخرى للنشاط السينمائي بعد مرحلة أطفئت فيها أنوار السينما، وأظلمت خلالها الشاشات. المملكة بكل ما لديها من ثقل ثقافي واقتصادي وفكري من المؤكد ستغير الكثير في معادلات السينما عربياً، وليس فقط خليجياً.
يقولون الألم هواية والأمل موهبة، وأنا أحاول في تلك المقالة، أن أمسك بخيوط الأمل، على عكس تلك النظرة المتشائمة التي يتبناها كُثر عندما يطلون على المشهد الثقافي العربي برمته والسينمائي تحديداً، لدي إطلالة أخرى، لا أحاكي نظرية نصف الكوب الملآن الذي يقابله بالضرورة نصف فارغ، المتشائم هو الذي يكتفي بالنصف الفارغ فلا يرى غيره، نعم ليس لدينا نصف ملآن، والأمر لم يزد عن رشفات نتجرعها ونحن نتابع الفيلم العربي في عدد من المهرجانات العالمية بتواجده خارج الحدود، وبخاصة أن لدينا جيلاً جديداً من المخرجين استطاعوا تحقيق نجاحات في المهرجانات العالمية خلال السنوات الأخيرة. لم نصل قطعاً إلى تخوم الطموح، ولكن بصيص من أمل قادم أفضل قطعاً من ضياع الأمل، وتلك هي فضيلة موهبة الأمل.
لا نستطيع أن نرصد الاقتصاد بمعزل عن التاريخ السينمائي، ولا عن الفكر الذي يصطدم بمحددات رقابية وسياسية تضعها السلطة، بل تُسرف فيها أغلب دولنا العربية، وأيضاً الواقع الاجتماعي الذي يفرض هو أيضاً حواجز تقف عراقيل أمام حرية السينمائي العربي، وبالطبع تختلف الدرجة في إحكام القيود بين دولة عربية وأخرى، كما أن المجتمع في أحيان كثيرة لديه أيضاً قواعده الصارمة، حتى بعد أن توافق الدولة، فهو في أحيان كثيرة يطالب بمزيد من القيود، وأحياناً يتهم الدولة بالتقصير في أداء دورها الرقابي، وبالطبع النظرة الأخلاقية بمعناها المباشر هي التي تحدد تلك الرؤية.
إلا أنه في كل الأحوال تظل تلك العناصر تملك التأثير بقوة على اقتصاديات السينما، لا نستطيع أن نغفل تلك النظرة الدينية عند بعض المتشددين التي تُحرّم الفن بل السينما تحديداً، وبالتالي فإن النجاح في مواجهة هذا التعنت الذي يتدثر عنوة بالدين، يؤثر بإيجابية اقتصادياً على السينما، والاستسلام لها بالتأكيد يخصم الكثير من حضورنا العربي. العديد من الدول العربية تواجه هذا التيار المتشدد في تعاطيه مع كل الفنون، ورأيي الشخصي أن الإصرار على الإبداع هو فقط الذي يواجه التشدد.
علم الاقتصاد في أبسط تعريف له هو مجموعة من النظريات والنماذج الفكرية التي تسعى إلى شرح كيفية بناء الثروة وتوزيعها ضمن المجتمعات وفهم طريقة تعامل الأفراد مع الموارد مع ندرة وجودها، والمصطلح لغوياً يعني التوسط بين الإسراف والتقتير.
السينما والتي تحمل في أشهر تعريف لها توصيف (الفن السابع)، الفنون الست السابقة عليها هي: الموسيقى والعمارة والنحت والرقص والشعر والرسم؛ تجمع السينما بين هذه الفنون في بوتقة واحدة، ولكني أراها من خلال قناعتي الشخصية باعتبارها موسيقى مرئية، لم تكن السينما مجرد فن جديد يضاف للفنون الست التي سبقتها، ولا هي في الحقيقة تجميع لها؛ بقدر ما يمكن اعتبارها تفاعلاً بينها، أسفر عن هذا الفن الجديد الذي برغم تخطي عمره مئة عام بقرابة ربع قرن، إلا أنه لا يزال يسعى لكي يعثر على السينما الخالصة.
وقبل أن نوغل أكثر في سرد العديد من التفاصيل، دعونا نتوقف أمام رافد جديد للسينما العربية، وأتصوره سوف يغير العديد من المعادلات الاقتصادية والإبداعية خليجياً وعربياً بل عالمياً، وأعني به المملكة العربية السعودية التي بدأت بافتتاح دور عرض، تبدأ الخطة بنحو 100 دار على أحدث طراز، لتستقبل المملكة الأفلام السينمائية من مختلف دول العالم، وذلك بعد أكثر من 35 عاماً أغلقت فيها دور السينما، بدأ التمهيد لذلك باستقبال عدد من نجوم عالميين، وأيضاً هناك بدايات مشروعات سينمائية عالمية.
قد يبدو الأمر لمن لا يعرف آليات صناعة السينما أنه فقط شأن داخلي، في الحقيقة إن السينما في المملكة العربية السعودية لها بُعدها الخليجي، وتتسع الدائرة لتصبح عربية بالضرورة، لتتسع أكثر لتشمل العالم كله، ونجد رقم الاستثمار المرتقب في البداية هو مليار دولار، ليتضاعف في بعض التقديرات ويصل إلى 20 مليار دولار.
ولكن قبل أن نستطرد، نضع الحقائق التي تؤكد أن دولة الإمارات العربية هي الأولى حالياً بين سينمات الخليج، وهناك أكثر من 200 دار عرض، ولدينا أيضاً دولة قطر التي تحل ثانياً ثم دولة الكويت التي تراجعت للمركز الثالث، وإن كانت هناك إرادة لعودة الكويت مجدداً إلى مكانتها المرموقة خليجياً ومن ثم عربياً، كواجهة مشرقة للسينما العربية، في مطلع العام الماضي، وننتظر أن يتواصل في العام الجديد، وتم تحديد الفترة من 11 إلى 17 مارس موعداً للدورة الثانية، وهو يصنف كمهرجان وطني وإن كان لدى مجموعة الشباب القائمين عليه هدف لكي يصبح عربياً، وهكذا سوف يشارك في لجنة التحكيم هذه الدورة عدد من السينمائيين ينتمون لأكثر من دولة عربية بينهم كاتب هذه السطور.
في الكويت يصل عدد دور العرض إلى 90 داراً مجهزة بأحدث التقنيات، والحصة الأكبر تملكها شركة (السينما الكويتية الوطنية)، التي تُدير وحدها 77 دار عرض في محافظات الكويت الخمس. عدد الأفلام الروائية الطويلة بمعدل إنتاج من خمسة إلى سبعة أفلام، وأكثر من 25 ما بين روائي قصير وتسجيلي، ومتوسط التكلفة حوالي مليون دولار وقد تتراجع إلى نصف مليون، ومعدل الاستثمار 10 ملايين دولار، ومن المنتظر أن يرتفع الرقم في القريب إلى ثلاثة أضعاف، وبالطبع لم يتحقق كل الطموح ولكن في الحد الأدنى كانت تلك هي البداية. دولة الكويت عرفت السينما في مطلع الثلاثينيات من خلال تصوير أفلام تسجيلية تتناول صيد اللؤلؤ، ويعتبر فيلم (بس يابحر) للمخرج الكويتي خالد صديق الذي أنجزه عام 1971 هو درة التاج خليجياً، وواحد من أفضل ما قدمت السينما العربية طوال تاريخها.
لو توقفنا أمام المهرجانات سيصعد قطعاً اسم مهرجان (دبي) الذي انطلق عام 2004 ليس فقط عنواناً بارزاً في الخليج ولكن في العالم العربي كله، ويجب أن نذكر أنه حقق حضوراً ملفتاً على الخريطة السينمائية في العالم وصار المهرجان بحق (عاصمة للسينما العربية)، صحيح أنه تُرصد له ميزانية بملايين الدولارات، ولكنه نجح على أرض الواقع في تحقيق درجة رواج جماهيري تتصاعد من دورة إلى أخرى، حيث عقدت في الفترة من 6 إلى 13 ديسمبر الماضي دورته التي تحمل رقم 14، كما أنه استطاع أن يحقق درجة جاذبية تجعل العديد من كبرى الشركات تُشارك في رعاية المهرجان مادياً، ليواصل المهرجان إشعاعه. وبعد مهرجان (دبي) بنحو ثلاثة أعوام انطلق (أبوظبي) وتحديداً 2007، وفي 2009 انطلق (الدوحة ترايبكا) بدولة قطر قبل أن يتوقف ويتحول إلى مهرجاني (قُمرة) و(أجيال).
ويجب أن نتوقف أيضاً مع مملكة البحرين التي لعبت دوراً تمهيدياً ومهماً منذ عشرينات القرن الماضي بوجود دار سينمائية. وعرفت مملكة البحرين بداية إنشاء شركات للإنتاج بدأت بأفلام قصيرة وتسجيلية، وتعددت المحاولات حتى جاء المخرج بسام الزوادي بفيلمه (الحاجز) 1990 أول فيلم روائي طويل بحريني، وتعددت المحاولات والأفلام لبسام وغيره، حيث صار الرقم 10 أفلام، أخرج بسام من بينها ثلاثة أفلام روائية طويلة. وعدد الشاشات 80 مجهزة بأحدث التقنيات، ولا يوجد استثمار منتظم في البحرين سينمائياً، ومن الممكن كل عامين أن نرصد بين نصف أو مليون دولار، وأقيم مهرجان للسينما العربية في السبعينات في (المنامة)، ولكن النشاط السينمائي في مملكة البحرين يتأرجح والخطوات مع الأسف لا تكتمل. وأيضاً في سلطنة عمان منذ التسعينات لها نشاط سينمائي ملحوظ، وهناك جمعية سينمائية تقيم مهرجانها السنوي منذ مطلع الألفية الثالثة، وهو مهرجان (مسقط) الذي يمنح جائزة الخنجر الذهبي. والمخرج خالد الزدجالي قدم أول أفلامه الروائية (ألبوم)، ولديه أيضاً فيلم (أصيل)، ويعد فيلمه الروائي الثالث (زيانة)، بالإضافة إلى ذلك هناك ثلاثة أفلام روائية أخرى، تكلفة الفيلم إنتاجياً 115 ألف دولا ر. وعدد القاعات 15، وفي المتوسط كل دار بها نحو 4 شاشات. مهرجان (مسقط) هو الأقدم من الناحية التاريخية في منطقة الخليج، وهو يعقد سنوياً في شهر مارس.
شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة قفزات مهمة جداً على الساحة السينمائية، وشاهدنا مثلاً المخرج محمود الصباغ في مهرجان (برلين) السينمائي ولأول مرة في الدورة قبل الماضية، حيث عرض رسمياً الفيلم الجريء (بركة يقابل بركة)، وهو اسم يصلح للمرأة والرجل، ومن هنا جاءت المفارقة الدرامية بين بركة الرجل وبركة المرأة. ورأيي الشخصي أن الفيلم وصل إلى أعلى درجات الانتقاد الاجتماعي خليجياً، كما أنه قدم صورة حقيقية للمواطن السعودي، بعيداً عن تلك النظرة النمطية التي صنعت صورة ذهنية خاطئة رسختها عشرات من الأفلام العربية وبخاصة المصرية. وسبق ذلك أيضاً المخرجة هيفاء المنصور التي قدمت فيلمها (وجدة)، الحاصل على العديد من الجوائز وبينها المُهر الذهبي في (دبي) كأفضل فيلم عربي، كما أنه كان أول فيلم سعودي يرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، لا أنكر طبعاً أن المخرج المخضرم عبدالله المحيسن ومنذ السبعينات له بصماته بفيلمه الروائي (اغتيال مدينة) الذي يعد الأب الشرعي للسينما في السعودية، إلا أن مخرجي هذا الجيل وضعوا السينما في المملكة على خريطة المهرجانات.
يبقى أن السينما تتنفس بتداول الأفلام في السوق، وتحقيق الإيرادات هو الذي يضمن تدفق وسريان الدم في شرايين الصناعة، لا أحد ينتج لكي يخسر، أو يعتبرها مرة أولى وأخيرة، السوق السعودي ضخم جداً، والطموح هو أن يصل إلى 2000 دار عرض في أنحاء المملكة، أظنه سيلعب دوراً محورياً في إنعاش الصناعة السينمائية عربياً.
السوق السينمائي في المملكة أعاد الأمل بقوة وأنعش صناعة مهمة في مصر، لأن المزاج الفني السعودي يتعامل مع الفن المصري بقدر كبير من الأريحية، والدليل أن التلفزيون السعودي الرسمي تعاقد على شراء مسلسلين واحد لنجم مخضرم عادل أمام والثاني لنجم قادم جديد عمرو يوسف، في أول صفقة لرمضان القادم. والسعودية هي أكبر سوق عربي يستقبل الفن المصري، وبالضرورة الفن الخليجي. إن عودة دور العرض في المملكة منح السينما المصرية مساحة اقتصادية قادمة، وبدأ بالفعل عدد من شركات الإنتاج التي كانت قد توقفت في التمهيد للعودة للميدان مجدداً، لأن هناك موزع في المملكة سوف يتعاقد على تسويق الفيلم. والسينما فن وصناعة وتجارة، وفي عالمنا العربي الفن وبنسبة كبيرة متوفر، والصناعة السينمائية لا بأس بها أيضاً، ويبقى الشق التجاري والذي أرى أن دور العرض في المملكة، ستنعش السوق العربي كله لتلعب دوراً محورياً في هذا الاتجاه.
الحراك الاجتماعي السعودي الذي نتابع إيقاعه الناجح له وجهه الآخر، وهو انتعاش الثقافة وعلى رأسها السينما، وهو ما لا يمكن اعتباره فقط شأناً سعودياً ولا حتى خليجياً ولكنه شأن عربي بامتياز. نعم أترقب تلك الطاقة التي ستتفتح في الأشهر القادمة بالمملكة، وسوف تؤدي بداية إلى انتعاش سوق الإنتاج الخليجي لأن أكبر مأزق يواجه السينما في الخليج هو أن توزيعها خارج الإطار الخليجي ضئيل جداً، ودخول المملكة العربية السعودية بثقلها المالي وأيضاً بعدد جمهورها الضخم، خصوصاً أن الخطة الطموحة لانتشار دور العرض في المملكة ستجعلها تستوعب العديد من تلك الأفلام التي ستحقق شباك تذاكر ضخم ومن خلال ذلك تدور عجلة الإنتاج.
العالم العربي والذي عرف السينما في عدد من دوله مع بدايتها في العالم، يتطلع لهذا السوق القادم الجديد
في النهاية يجب أن نلحظ أن نظرية الأواني المستطرقة تؤثر على السينما العربية، وأن الانتعاش السينمائي في دولة سيؤدي حتماً إلى الانتعاش بنسبة ما في عدد من الدول العربية، وبخاصة تلك التي يعرض في أسواقها بنسبة كبيرة الفيلم العربي.
ويبقي أن أذكر لكم في الختام أنه من المؤكد أن أي بحث يتكئ على الأرقام في مجال السينما يحتاج إلى جهد مضنٍ في تجميع المادة العلمية والتاريخية، حيث أنه كثيراً ما تتضارب المعلومات هنا وهناك، وأعتذر مسبقاً عن أي تقصير، ولكن يبقى أنني لا أزال بعد هذه الجولة الاقتصادية في السينما العربية أتشبث بشاطئ الأمل في أن الغد العربي سيحمل رغم كل شيء ما هو أفضل. السينما ليست فقط وسيلة ترفيهية رغم أهمية قطعاً الترفيه في حياة الناس؛ إلا أنها وبرؤية مباشرة واحدة من أهم الأسلحة الثقافية، فهي الأكثر وصولاً للجماهير في بوتقة القوى الناعمة، ولقد حان الآن وقت انطلاقها.