عاش معجزة الموسيقى النمساوي موتسارت 36 عاماً (1756-1791)، كان خلالها الموسيقي الأغزر إنتاجاً وإبداعاً (أنتج 626 عملاً موسيقياً منها 22 عملاً في الأوبرا و41 سيمفونية). كان موتسارت يتمتع بعبقرية قلما تتكرر في موسيقي، فقد امتلك موهبة فذة، فشرع عندما كان في الخامسة من عمره في التأليف الموسيقي، ولما بلغ السابعة من عمره قاد موتسارت الأوركسترا، وعزف على البيانو والأرغن والفيولين (الكمان).
ينتمى موتسارت إلى فصيلة الموسيقيين العباقرة الأفذاذ الذين تركوا بصمات واضحة وأثراً موسيقياً على مدى القرون الماضية، فقد توافرت أمام هذا الموسيقي البيئة الحاضنة المساعدة في بلوغ النجاح والإبداع بجانب موهبته التي كانت أول عوامل هذا النجاح. ففي سالزبورج المدينة النمساوية ولد فولفجانج أماديوس موتسارت في 27 يناير عام 1756م. كان موتسارت الطفل الذي امتلك العبقرية الخارقة للعادة، وقد تدفقت الموسيقى من هذا الطفل كشلال، تدفقاً روى الأرض القاحلة. ولم يكن الطفل موتسارت عازفاً عادياً على البيانو والأرغن والفيولين، عندما كان في الثامنة من عمره؛ بل كان يملك براعة وقدرات غير عادية أذهلت من شاهده واستمع إليه، كما توافر له من العلم بالتأليف الموسيقي ما لا يتوقع المرء مصادفته إلا لدى أصحاب العراقة من أهل الصنعة.
رحلة إلى أوروبا
لم يكن موتسارت موسيقياً مقلداً بل يمكننا أن نحدد موسيقى هذا العبقري من أول وهلة، إذا كانت لدينا معرفة جيدة بالموسيقى العالمية. وقد طاف موتسارت أنحاء أوروبا، لكنه لم يتصور الأساليب القائمة كوحدات راسخة؛ بل بدت له مجرد ظواهر يمكن الاستفادة منها في صنع أسلوب عام، وبذلك أمكنه خلق أسلوب عالمي شامل ارتفع فوق الأنواع الثانوية، وربما كان مثل هذا الأسلوب العالمي ممكناً في الموسيقى وحدها؛ لأن تنوع اللغات في الأدب وتشخص الموضوع في الفنون الجميلة يحول دون إحداث تآلف مماثل في أساليبها.
برع في كل أنواع الموسيقى
كتب موتسارت في كل أنواع الموسيقى (أوبرا- كونشيرتو- سيمفوني- موسيقى الحجرة- سوناتات البيانو)، وقد طور موتسارت التعقيد التقني، وطور كونشيرتو البيانو التقليدي، وكتب الكثير من الموسيقى الدينية، وكانت موسيقاه تتسم بالنمط الكلاسيكي والتوازن والشفافية والصفاء والعذوبة والتعبير، وهو يرى أن الصنعة والشكل لا معنى لهما بدون مضمون. لقد كانت دنيا التعبير عند موتسارت لا تنفصل عن قوالبه، مع الحرص في الوقت نفسه على وحدة رنين النغم، وهذا هو سر كمال موسيقاه ووحدتها.
أسلوب عالمي شامل
لم يخلق موتسارت قوالب جديدة بالفعل، ولكنه ارتفع فوق الأنواع الثانوية، مما مكنه من خلق أسلوب عالمي شامل؛ لأنه لم يتصور الأساليب القائمة وحدات راسخة؛ بل بدت له مجرد ظواهر يمكن الاستفادة منها في صنع أسلوب عام. ويصنف موتسارت واحداً من أهم عباقرة الموسيقى، بالرغم من أنه تعرض للنقد من البعض خلال القرن الثامن عشر، وقد اعتبروا أن موسيقاه ثقيلة معقدة بالمقارنة بموسيقى معاصريه، ووصفوا أذنيه بأنها صماء كالحديد. لقد عانى موتسارت خلال حياته صحياً وعاطفياً، وقد أصيب بخيبة أمل وصدمة قاسية، فلم يتزوج من الفتاة التي أحبها بل تزوج شقيقتها، كما عانى طوال حياته من آلام في البطن، مما انعكس على موسيقاه التي اتسمت بالشجن والرقة، لكنها موسيقى لا تخلو من الرشاقة والجمال والانسجام والشفافية والبساطة، بالرغم من أن هذه البساطة الظاهرية لموسيقى موتسارت وراءها عرض المضمون في قوالب طبيعية، بعيدة كل البعد عن التكلف. وقد يجد الدارس السطحي للموسيقى صعوبة في فهم هذا الكمال في الموسيقى والأدب والشعر والتصوير.. وهو لم يكن يسعى على الإطلاق إلى بناء صرح هائل على انقاض قوالب قديمة؛ ولكنه كان يأخذ من تلك القوالب لبناء أعلى في عالم الموسيقى، فقد كان موتسارت يرى أن إبداع موسيقى جديدة لا يعني التخلص من موسيقى سابقة.
عباقرة في حياته
تأثر موتسارت بأعمال الموسيقي هايدن (1732-1809) النابعة من روح دينية وديعة، لكن هايدن قال عنه (موتسارت هو أعظم مؤلف موسيقي يعرفه العالم في وقتنا الحاضر). كما تأثر بموتسارت كل من شوبان وتشايكوفسكي وحتى بيتهوفن الذي يصنف أعظم موسيقي على مر العصور. أما أعظم من تأثر بهم موتسارت في طفولته فهو والده ليوبولد موتسارت (1719-1787) الموسيقي الرائع مؤلفاً وعازفاً على الفيولين (الكمان)، وقد ألف كتاباً عام 1756 خاصاً بدراسة عزف الفيولين (versuch)، وهو كتاب رائع تضمن منهجاً جديداً لتلك الدراسة استمر يحظى بالتقدير زهاء القرن. وحظي موتسارت بالاطلاع على المراجع الموسيقية المكتملة التي منحها له والده والمختارة من مؤلفات فرنسية وإيطالية وألمانية تمثل الشمال والجنوب، وهو الأمر الذي ساعده خلال مسيرته الموسيقية ليكون أول مؤلف موسيقي يضع فهرساً لأعماله التي نشرت للمرة الأولى بعد رحيله وبالتحديد في عام 1862.
جولة طويلة في أوروبا
في عام 1762 اصطحب الأب ليوبولد موتسارت الأسرة في جولة فنية أوروبية استمرت خمسة أعوام كاملة، زار خلالها مدن ميونيخ وفيينا وبراغ وباريس ولندن وزيوريخ وبروكسل ولاهاي ومانهايم وروما، تعرف خلالها موتسارت ابن السادسة على بعض رواد الموسيقى في عصره، واستمع في ميونيخ إلى لويجي توماتيني (1741-1808) الذي أصبح فيما بعد موضع ثقة هايدن كعازف أول للفيولين، كما قابل بيترو نارديني (1722-1793)، وكانت هناك مفاجأة في انتظاره في مانهايم، حيث فاق إعجابه بالأوركسترا. وفي باريس شعر موتسارت بسعادة غامرة بعد لقاء يوهان شوبرت الذي برع في موسيقى (لوحات المفاتيح) وموسيقى الأصحاب مع الكلافسان، وقد اعتبره موتسارت من أعظم الأساتذة الذين تأثر بهم في طفولته، وقد عرفت مؤلفات شوبرت الفانتازيا الشعرية في الموسيقى.
وفي لندن عام 1764 عمقت معرفة أحوال الموسيقى في لندن انطباعات باريس، وعرف موتسارت من الموسيقى الإيطالية التي تغمر لندن؛ متعة الموسيقى البحتة المحلقة بعيداً عن الواقع، وقد أدرك في إنجلترا أن هذه الموسيقى البحتة هي عالمه الحق، واستمع في مسرح الملك إلى أوبرت بتشيني وهاسه وجالوبي.. وغيرهم، ولكن ما هز عبقريته الخلاقة في لندن كانت موسيقى اثنين من الألمان هما كارل فردريخ آبل ويوهان كريستيان باخ.
كان موتسارت قد بلغ الحادية عشرة من عمره في عام 1767 عندما زار إيطاليا؛ فشعر في مدينة روما الساحرة بأن إحدى أمانيه قد تحققت، وقد قوبل موتسارت بحفاوة بالغة في كل مكان ذهب إليه، وقابل صفوة الموسيقيين الإيطاليين، واستمع إلى أفضل موسيقيي إيطاليا (لوكاتيللي- هاسه- سامارتيني- مارتيني- فارينيلي- نارديني- يوميللي- بايزيلو- دى مايو- كافاريللي- فالوتي.. وآخرين). وهناك بالعاصمة الإيطالية نجح موتسارت في إعادة كتابة مقطوعة (رحماك يا رب) للمؤلف جورجيو أليجري مدتها 15 دقيقة، وكانت هذه القطعة الموسيقية محرمة وممنوعة، وعندما كتبها موتسارت بمساعدة والده؛ ذهل الجميع من موهبة الفتى الصغير الذي كتب القطعة الموسيقية بأسلوب أحدث.
لقد عزف موتسارت بين الرابعة والخامسة من عمره (الكلافسات والفيولين)، ليؤلف الموسيقى قبل أن يتعلم القراءة والكتابة بشكل متكامل، وفي السادسة من عمره كان موتسارت يجوب أنحاء أوروبا مع والده الموسيقي البارع وعازف الفيولين والمؤلف الموسيقي الذي يحظى بتقدير واسع، وقد تعلم موتسارت على يديه الكثير، كما تعلم في روما على يد مارتيني (1706-1784) أعظم أساتذة عصره، بل ربما القرن بأسره، فهو معلم ممتاز، وصاحب نظريات ومؤرخ، وبفضله تعرف موتسارت إلى روح الموسيقى الإيطالية قبل زيارته لإيطاليا حيث افتتن افتتاناً كاملاً عندما اطلع بالفعل على الحياة التي أنتجت هذه الموسيقى، وتحول الطيف الجميل الذي رآه في لندن إلى حقيقة واقعة نابضة بالحياة.
كان موتسارت أكثر اقتناعاً بأن الجمال في الموسيقى لن يتحقق بشكل كامل على موسيقى الآلات وحدها؛ بل يجب الاتجاه إلى الصوت الآدمي وروعة الغناء الذي سيطر على مخيلته الموسيقية سيطرة كاملة، فكان الاتجاه إلى الأوبرا قالب التأليف الغنائي الشامخ، وإعجابه الشديد بيوميلي ممثل الدراما الموسيقية الجليلة، وهاسه آخر عظماء أبطال أوبرا (الأريا)، فقد تعلم في إيطاليا كيفية رسم الحياة وشخصياتها بالموسيقى، وتعلم من أسلوب الأوبرا الإيطالية، ومن قوالبها ونماذجها المرسومة بكل دقة، ومن تعابيرها المجسمة؛ كيف ينتقي أهم اللحظات ذات المغزى في الحياة، ولكن موتسارت تأكد بعد فترة من أن النضارة والدماءة عند كريستيان باخ وسامارتيني لا تزيدان عن جزء صغير من عالم الموسيقى، وأن التعبير عن أفكاره دون أن تفقد شيئاً من غزارتها يتطلب شيئاً أكثر تشخصاً وتركيزاً حتى جاءت دروس الأب مارتيني في الكونترا بمثابة الوحي ليبدأ بعدها إدراك قيمة البوليفون، وجاءت في أعقاب هذا الكشف سلسلة من المؤلفات الكونترابنتي.
موسيقى البلاط
بعد العودة من الرحلة الأوروبية الطويلة عام 1769 عين موتسارت عام 1772 كموسيقي البلاط في سالزبورج، وهناك وجد الفرصة للعمل بأنماط موسيقية مختلفة مثل السيمفوني والسوناتا والرباعيات الوترية والسيرنياء والموسيقى الكورالية، وخلال هذه الأعوام القليلة ألف موتسارت سلسلة مكونة من خمسة أعمال كونشيرتو للكمان، ثم تحول إلى التأليف بالبيانو فوضع البيانو كونشيرتو رقم 9 التي اعتبرها الكثير من النقاد والمتخصصين انطلاقته الحقيقية فقدم استقالته في عام 1777 كموسيقي البلاط بحثاً عن التأليف الأوبرالي، وفي مانهايم بألمانيا التقى مع أعضاء الأوركسترا الأشهر والأفضل في أوروبا وتزوج من كونستانزا ثم سافر إلى باريس في عام 1778 ليعمل عازفاً لآلة الأورجن لكنه لم يستمر في تلك الوظيفة ليدخل في حالة من عدم الاستقرار المادي والنفسي خصوصاً بعد وفاة والدته ليعود إلى مسقط رأسه سالزبورج، ومنها إلى فيينا في عام 1781 ليفرض نفسه كأفضل عازف بيانو في فيينا ويبدع في التأليف الأوبرالي، ويقدم أوبرا (الاختطاف من السراي) عام 1782 لتحقق نجاحاً ساحقاً ليس في النمسا وحدها بل في أوروبا وأنحاء العالم، ثم اتجه موتسارت إلى أعمال باخ وهاندل وتعاون معهما في التأليف لترتقي شهرته وتتحسن أحواله المالية، لكن إسرافه الشديد جعله لا يملك شيئاً من المال.
تعاون موتسارت مع لورينتز ودابونتي في التأليف لتكون أوبرا (زواج فيجارو) عام 1786 مقدمة لنجاحات هائلة تبعه نجاح أوبرا (دون جيوفاني) عام 1787 لكن النجاح لم يستمر طويلاً وفي عام 1788 تراجعت أحوال موتسارت المالية بسبب عدم الاستعانة به فكانت الديون سبباً في تراجع حالته النفسية والصحية، وفي عام 1790 قدم مع دابونتي أوبرا (الكل على هذا الحال) وبعد مرضه عاد من جديد في عام 1791 ليقدم أروع أعماله أوبرا (الناي السحري) باللغة الألمانية غير المناسبة للغناء الموسيقي كما قدم أيضاً كونشيرتو البيانو الأخير وكونشيرتو الكلارينت.
رحلة المرض
كانت السنوات الأخيرة من حياة موتسارت زاخرة بالصعوبات والإحباطات، فقد فشل في الظفر بأي وظيفة خلال وجوده في برلين، وأصابه المرض بالحمى، وهو لم يكن ينتهي من تلحين (القداس الجنائزي) الذي كان يعمل عليه رغم مرضه، ويقال بأن أحد طلابه الذي كان يكتب النوتة بدلاً منه استكمل العمل بعد أن توفي موتسارت في الخامس من ديسمبر 1791، وقد دفن موتسارت بإحدى ضواحي العاصمة النمساوية فيينا في مقبرة سانت مارس، ولم يحضر أحد جنازته سوى خمسة أفراد ليس من بينهم زوجته كونستانز بسبب البرد القارس حينذاك.
تأثير موسيقى موتسارت
أكدت مجموعة من الأبحاث والدراسات أن الاستماع إلى موسيقى موتسارت تنشط لفترة وجيزة بعض الأنشطة الدماغية، وأن الاستماع إلى موسيقاه تجعل المرء في حاله من التنبيه، وبخاصة إذا كان في سن مبكرة لأن الموسيقى التي يقدمها موتسارت لها تأثيرات على تطور القدرات العقلية وهي تحسن بعض النواحي التي تتخطى التفكر (الحيز-زماني). وتؤكد الدراسة أن الموسيقى لها قدرة هائلة في التأثير على الصحة.. التربية.. الرفاهية، وكان ألفرد توماتيس أول من استعمل المصطلح كحافظ سمعي للشفاء من بعض الاعتلالات، وكانت كتب (دون كامبل) قد زادت من شعبية الفكرة التي اعتمدت على أبحاث في مجلة nature العلمية والتي أظهرت أن الاستماع لموسيقى موتسارت تحسن نتائج نسبة الذكاء ما بين 8 و9 درجات، وتباعاً قام حاكم ولاية جورجيا بطلب لميزانية لتقديم أسطوانة موسيقى كلاسيكية لكل مولود جديد في الولاية.
وقالت صحيفة دايلي ميل البريطانية إن باحثي الجامعة أجروا دراسة مقارنة بين موسيقى موتسارت والألماني لودفيج فان بيتهوفن لمعرفة تأثيرها على المخ، ولاحظ الباحثون أن موسيقى موتسارت تساهم في تقوية الذاكرة، وتحسن من قدرات المخ على استيعاب المشاكل وحلها؛ في حين لم يجدوا التأثير نفسه في موسيقى بيتهوفن. وأكدت الدراسة أن موسيقى موتسارت تحديداً يمكنها تنشيط الدوائر العصبية القشرية المرتبطة بوظائف الإدراك. وقد نشر الباحثون نتائج دراستهم عبر الدورية العلمية، حيث جرى استعمال أجهزة تخطيط أمواج الدماغ لقياس النشاط الكهربي في عقول المشاركين في الدراسة وعددهم 30 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 33 إلى 77 عاماً، حيث تم تسجيل قراءات أدمغتهم قبل وبعد الاستماع لمقطوعات موسيقية لكل من موتسارت وبيتهوفن.