ارتبط التشكيل الحركي (الميزانسين) بتطور حركة المسرح العالمي في القرن التاسع عشر، عندما أصبح الفضاء المسرحي مكوناً من ثلاثة أبعاد، بعد أن كان ذا بعدين، إذ شمل هذا الفضاء (الممثل والمنظر) بأبعاده الثلاثة، باعتباره الذروة أو البؤرة الفكرية والفنية للمشهد كله. ويقصد بالميزانسين: (إخراج مسرحية على خشبة المسرح، مسرحتها). فالميزانسين إذن حسب هذا التعريف هو الإخراج نفسه. وبناء على هذا التعريف يمضي المخرج والباحث المسرحي السوفييتي الكسي بوبوف بالحديث عما يسميه بـ(لغة المخرج) حيث إن التعبير بسلسلة من التشكيلات الحركية هو لغة المخرج، مثلما أن الرقص هو لغة فن الباليه. يقول بروك: (إن دور المخرج غريب، هو لا يطلب أن يكون مقدساً، لكن دوره يتضمن هذا، وهو يريد أن يكون معصوماً من الخطأ، لكن هناك مؤامرة غريزية من جانب الممثلين كي يدفعوه لأن يلعب دور الحكم، لأن الحكم مطلوب في كل وقت. إن المخرج دليل في سواد الليل لا يعرف الأرض، وليس لديه اختيار آخر، فلا بد له من أن يقود جماعته، وأن يتعلم الطريق كلما سار فيه، ويكمن الموت غالباً حين لا يتعرف على هذا الموقف وتبزغ الآمال في الأفضل إذا كان هذا أسوأ ما يواجهه).
إن الحركة: عبارة عن تعاون مجموعة من الأعضاء لأداء تغير في وضع الجسم خدمة لهدف معين. فالحركة هي النقلة، أي العبور من شكل إلى آخر وبهذا فهي تغيير في المكان، والتغيير يعني تغير الشكل والحالة. حيث إن تحركات جسم الممثل على الخشبة هي التي تخلق المكان وتحدد الزمان لأنها تتم في فترة معينة. لذا فإن بناء التشكيل الحركي (الميزانسين) يتطلب تحليلاً وتركيباً للحركة، وتحليل الحركة لا يقتصر بالضرورة على حركات جسم الممثل فحسب، وإنما يمتد إلى كافة الحركات التي تنشأ في الفضاء المسرحي. فالعرض المسرحي ليس عرضاً للواقع السطحي وللون الحكاية، بل لذلك الشيء الذي يمكنه رؤيته في حكاية.
والحركة على المسرح هي جميع الإيماءات والإشارات والتصرفات الناتجة كأفعال وردود أفعال عن عواطف الشخصية والظروف المحيطة بها، ولا تعني انتقال جسم الممثل من مكان إلى آخر، وهي كذلك نتاج عملية نقل وتوصيل الأفكار والمشاعر إلى الجمهور من خلال عناصر الأداء، فهي التعبير المرئي عن الفكر والتجسيد الحي للفعل، وتحدد قواعد علم التشريح ووظائف الأعضاء الجوانب الجسدية للحركة المسرحية، كما تحدد جذورها العاطفية أنماط السلوك المبنية في الأفراد والثقافات.
إن الميزانسين في عمل الممثل، يتشكل من الحركة والصوت التي يقوم العرض بتوحيد طرفيها المتناقضين في تكوين جديد جمالي مركب، لأن كلاً من عنصري الحركة والصوت يتشكلان بدورهما من صراع جدلي، فحركة الممثل سواء كانت مرسومة أم عفوية لا تكتسب طاقتها وشكلها إلا من خلال علاقتها مع حدود خشبة المسرح وتشكيلها، ومع المنظر المسرحي والإكسسوارات، وتحويلها إلى علامات مرئية تتكلم للعين، فكما يتحول الممثل على مساحة الأداء إلى شخص آخر، كذلك الأداة التي يستخدمها يمكن أن تكتسب وظائف جديدة كانت غريبة عنه حتى تلك اللحظة. وما ينطبق على الأدوات ينطبق على الملابس، تدل على الحالة النفسية والاجتماعية والفكرية والشخصية، ويفترض تنفيذها مرونة جسدية في التعبير وإلا سيصبح الميزانسين بلا معنى، مثلما هو القناع الذي يأخذ فعاليته من براعة الجسد إلى درجة أن ننسى مرونة العضلات ونرتبط بجاذبية القناع وفعاليته ومرونته.
وينفرد المسرح باستخدام الإنسان خاصية أساسية في التصميم الفني للعرض، وتجد هذه الخاصية فاعليتها في جماليات التعبير الجسدي، الذي تكون مهمته نقلاً للفكر والانفعالات والعواطف والأحاسيس على المستوى الروحي وعلى المستوى الذهني عبر أداة هي الجسد. والتعبير الجسدي للممثل إبداع يتأسس على طاقة روحية كاملة في داخله، بتشكلها يتشكل الجسد، أو هو مزج بين الوعي واللاوعي في نسيج مبدع معتمداً على سبر الطاقة الكامنة عند الممثل، وهذا يعني التعامل أساساً مع الممثل بوصفه إنساناً. ولكي يكون التعبير الجسدي للممثل صادقاً وصحيحاً يجب أن ينطلق من إحساس الممثل بالمكان، فضلاً عن إحساسه بالعالم المحيط به، وبنفسه، وبالموضوع الدرامي الذي يؤديه.
إن ستانسلافسكي يريد من الممثل أن يهتم بالصدق في الأداء، فهو لا يهتم كثيراً لأداء الممثل إن كان جيداً أو سيئاً.. المهم فقط أن يكون صادقاً. أما مايرهولد، فيعتبر التمثيل الشعبي مهماً جداً للممثل كي يعينه على إعادة اكتشاف تلك القوانين الأساسية للتمسرح وسيؤدي إلى قيام نهضة جديدة لفن المسرح المرتجل. حيث يقوم فن الممثل على طرح آثار البيئة، ثم اختيار قناع وثياب يمكنانه من عرض حيله وألاعيبه ومن التحول السريع للشخصية والموقف عن طريق السيطرة التقنية الرفيعة. ويريد بريخت من ممثليه أن يقدموا فكرة الشخصية لا أن يتوحدوا بها انفعالياً، ومن ثم لم يكن مطلوباً من الممثل أن يكون جاليليو، لكن أن يقدمه. ولتحقيق هذا الهدف كان بريخت يصر دائماً أثناء التدريبات على أن يقدم الممثل لسطور دوره بكلمة قال أو قالت. ويرى جروتوفسكي أن الفن الجديد بحاجة إلى ممثل جديد وتكنيك جديد. فالممثل عنده يجب أن يكون قادراً على التعبير بالصوت والحركة عن تلك الدفعات التي تتذبذب على التخوم الفاصلة بين الحلم والحقيقة، إنه يجب أن يكون قادراً على أن يبني لغة التحليل النفسي الخاصة به للأصوات والحركات، على نفس النحو الذي يبني به الشاعر العظيم قصيدته من الكلمات. ويخاطب بيتر بروك ممثليه قائلاً: (يجب أن يكون الجسد مستعداً وحساساً، لكن هذا ليس كل شيء، يجب أن يكون الصوت مستعداً ومفتوحاً، يجب أن يكون الانفعال مفتوحاً وحراً، يجب أن يكون العقل حاضراً وسريعاً. كل هذا من باب الإعداد).
وهذا كله لا يقود إلا إلى أن عمل الممثل في الميزانسين إنما هو ترويض للخيال وتوجيهه ضمن متطلبات محتوى المشهد أو العرض وبجهاز روحي وعصبي حاضر الاستقبال، وبمرونة تشكيلية داخلية وخارجية، لأن كلمات المؤلف في المسرحية إنما هي حالات صدامية يستوعبها الممثل لا عن طريق التحليل والتفكير المجرد والشعور فحسب، وإنما يتلمسها روحياً، عندئذ تتدرج على شكل علامات داخلية، تتمتع بالآنية.
وتشتغل آلية الميزانسين في العرض المسرحي على: الإنسان (الممثل) -المكان (الفضاء المسرحي)، -الصورة (موضوع التكوين). إذ إن الممثل وبواسطة فعله الداخلي هو حضور مادي يقوده إلى الشعور بالحقيقة والإيمان بها، من أجل أن تنفجر في داخله المشاعر والأحاسيس الصادقة مع الشخصية. وتجري هذه المهمات على عاتق الممثل كوظيفة ومهمات تقنية في بناء الميزانسين وعلى مراحل ثلاث، الأولى: العلاقة مع مضمون الشخصية. الثانية: الارتجال، بحيث يصل الممثل إلى الأفعال التلقائية المفتوحة طوال فترة التمرين وصولاً إلى القصدية. وهي النقطة الثالثة: وهي بلورة وتكثيف لأفعال الشخصية أو هي تكثيف وتميز للواقع. يقول بيتر بروك: (وجودنا كممثلين يمكن تصويره في دائرتين (الداخلية) هي الدوافع وحياة الممثل السرية، والتي لا يمكن رؤيتها وتتبعها، والدائرة الخارجية المتمثلة بالحياة الاجتماعية، وأن البحث في المسرح يشكل دائرة تتوسط الدائرتين، وما مهمة الممثل سوى التقاط الإشارات الخفية من الدائرة الداخلية). فالممثل في عمل الميزانسين يبدو كمن يرسم خط الدور على الورق تماماً مثل رسم تخطيط القلب فإنه يخضع لنفس الخطوط المنكسرة المعقدة، مع تغير ذبذباته الكثيرة، ومع الارتفاعات والانخفاضات الكبيرة والصغيرة التي هي ليس من خلق آلة التخطيط لمخيلة الممثل وإنما هي حية وطبيعية مثل ضربات القلب.
ولا يتحقق الميزانسين في عمل الممثل إلا من خلال (1) اتصال الشخصية بالممثل، والمساحة بين الاتصالين هي التي يلعب عليها الممثل في الميزانسين (2) الممثل فعل وانفعال، فعل بمعنى أنه يتعامل مع الشخصية كبناء درامي، وانفعال، أي بحثه وتنقيبه عما يلائم دوره عبر ذاته، أي يقوم الممثل كتابع مسيطر على حيثيات الشخصية.. إن الممثل هو سيد الحالة بكل تنوعاتها وهو يلعب على مساحة الأداء، والدراما ستظل أسيرة أوراقها ما لم يمنح الممثل أبعاداً تشكيلية سمعية بصرية لشخصياتها. ولا يقتصر دور الممثل هنا على التغلغل في روح المؤلف والدور فحسب، إنما وبسبب قدرته على الإنتاج يحل بشخصيته على كثير من الأشياء ويملأ كل فراغ، ويجد المسالك ويمهد الطرق، ويجعلنا نفهم وندرك بابتكاراته ما قصده المؤلف، ويخرج إلى الحقيقة النوايا الخفية والملامح الرئيسية التي تركت غامضة في الإنتاج الفني الذي وضعه المؤلف. وهذا لا يتم دون توفر الشرط الإبداعي في عمل الممثل وهو تصوير الشخصية وتفردها على المستوى الجسدي والصوتي، عبر ممارسة أناه الإبداعية بوصفه الطرف الأساسي في عملية بناء الميزانسين روحياً، لأن الممثل هو أول من يستوعب الرؤية وينقلها من الحدس الضبابي إلى عالم المجسد والمحسوس، وبذلك يكتسب صفة العبقرية الموازية لعبقرية المؤلف وتصويب المخرج.
إن الميزانسين الذي يبدعه الممثل نتاج البحث الموضوعي للعمل الداخلي والخارجي على الشخصية، ويبقى الجانب الداخلي هو جوهر الجمال، لأنه بمثابة الصناعة الروحية للتشكيل الحركي (الميزانسين)، أما الخارجي فهو المعبر عن الدلالات الجمالية التي تنبعث من روح الشخصية وبنائها الداخلي وملبياً لمتطلبات الفكرة الإخراجية والحل الأسلوبي للعرض المسرحي.