أمر الإمبراطور أغسطس أن تُرصف الطرق، وتُمَّد صوب ساحة (روما)، وعندها شاعت المقولة الشهيرة (كل الطرق تؤدي إلى روما)، ولا تزال (روما) مضرب مثل في ذلك دون سواها حتى اليوم، لأن النموذج والمثال يبقى خالداً في ذاكرة التاريخ، ولا التفات لزوال الامتياز عن (روما) بشبكات الطرق التي امتدت باتجاه كل المدن والقرى باختلاف السبل، وتنوع الوسائل.
لفت المخرج المكسيكي (ألفونسو كوارون) بفيلمه الذي يحمل اسم (روما) في نوفمبر عام 2018م إلى (روما) أخرى غير تلك التي تقود إليها الطرق، فهو مولود بمكسيكو سيتي عام 1961م، ونشأ في حي يدعى (روما)، وخرج منه ليُخرج روائعه السينمائية التي أهمها فيلم (جاذبية) عام 2013م الذي حصد كثيراً من الجوائز، ووضع اسم (ألفونسو كوارون) في قائمة الأسماء التي يترقبها المشاهدون، فبعد أن حلّق في فيلمه الأول إلى الفضاء ببطلي الفيلم ساندرا بولك وجورج كولوني، فما عساه أن يفعل بعدها؟!
حان وقت العودة
يهاجر الناس مفارقين أوطانهم والأرض التي نشؤوا عليها، وتظل أرواحهم معلقة بها عادوا أم لم يعودوا، فكيف هي لحظة العودة بعد غياب؟! وكيف يرى العائد أرضه بعد فراق؟! وهل صحيح ما يقوله أبو تمام:
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى
ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى
وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ
هذا الحنين الذي يترجمه المبدعون بلغاتهم، فهذا القصيبي حين عاد لمسقط رأسه (الهفوف) قال في قصيدته التي عنونها (أم النخيل) وأهداها إلى أمه - كما يسميها:
أتذكُرينَ صبيّاً عادَ مُكتهلا
مسربلاً بعذابِ الكونِ.. مُشتملا؟
وقال في مقطع ختامها:
أمَّ النخيل!.. هبيني نخلةً ذَبُلتْ
هل ينبتُ النخلُ غضّاً بعد أن ذَبُلا؟!
يا أمُّ.. رُدّي على قلبي طفولَته
وأرجعي لي شباباً ناعماً أفِلا
وطهّري بمياهِ العينِ.. أوردتي
قد ينجلي الهمُّ عن صدري إذا غُسِلا
هاتي الصبيَّ... ودُنياه.. ولُعبَتَه
وهاكِ عُمري... وبُقيا الروحِ والمُقَلاَ
وهكذا هم الشعراء في عودتهم، يعودون للصبي الذي كان، فهذا إيليا أبو ماضي في قصيدته الشهيرة (وطن النجوم):
وطن النجوم.. أنا هنا.. حدّق.. أتذكر من أنا؟
ألمحت في الماضي البعيد.. فتى غريراً أرعنا؟
جذلان يمرح في حقولك.. كالنسيم مدندنا
لذلك لم يكن (ألفونسو كوارون) إلا مُخرجاً ترجم بطريقته تلك المشاعر حين عاد إلى وطنه، فجعل الكاميرا وسيلته للتعبير عن الصبي الذي سار في تلك الشوارع، فعاد إذ لديه القدرة على العودة بالزمن، فحط رحال عدسته في عام 1970م وما بعدها، إبّان قمع مظاهرة طلابية مرّت عابرة كأي حدث يمر بصبي فلا يقف، وإنما تبقى ذكراه عالقة، لذلك لم يتوقف (ألفونسو كوارون) عند حدث واحد أبداً، أو يتعلق بشخصية واحدة، وإنما كاميرا تعبر كأي عين، وتلتقط ما تراه، فلا غرابة حين يعود بالزمن كلياً، بل يبالغ في ذلك حين يقدّم الفيلم باللونين الأبيض والأسود، وهكذا هم الفنانون يرون أشياء ربما تكون جديدة في الأشياء القديمة، كما كانت تقول والدة جوزيف سوارس بطل رواية الرسام تحت المجلى، فهل وجد (ألفونسو كوارون) جديده في العودة للّونين؟! وهل كان الأسود والأبيض قادرين على الحديث دون حاجة لألوان أخرى؟! وماذا عن المشاهد الذي عليه أن يصغي لثرثرة الكاميرات تارة، وصمتها أخرى لساعتين وبضع دقائق؟
الجديد في القديم
ما الجديد الذي نفتّشُ عنه؟! إنّه السؤال الذي تطرحه السينما، وتقدمه، لتبهر المشاهدين، محاولة عبثاً كسر أفق انتظار المشاهدين، غير أن التشبع أصاب المشاهد في مقتل، إذ لم يعد قادراً على استعادة دهشته الأولى عندما رأى (سوبر مان) لأول مرة على سبيل المثال، فهل يغدو القديم جديداً؟!
هذا ما يبدو من ردود الفعل تجاه فيلم (روما) والاحتفاء به، وحصاده لما يفوق مئة جائزة، بل ترقيه شيئاً فشيئاً في قوائم أهم الأفلام في تاريخ السينما! والرهان على أن لكل مشاهد طريقه، فهل قادت تلك الطرق إلى (روما)؟!
ربما بنظرة الفنان الثاقبة الذي يرى أشياء جديدة في الأشياء القديمة، ويعيد تكوينها بطريقته، حقق الفيلم نجاحه! وأعاد المشاهدين إلى (روما) أخرى، ربما تكون مضرب مثل! ما يدريك!
ليس للأمثال القدرة في هذا الزمن على السير، فهل تصبح السينما وسيلة جديدة وبديلة، فنجد من يقول: أصْبرَ من (صوفيا)، وأشْجَعَ من (كليو)، وألْأمَ من (فيرمين) ! شخصيات الفيلم.. ربما.
مهما ضُربت الأمثال لن تكون مثل تلك التي بقيت في ذاكرة الصبي، ولذلك يعيدنا الحنين للساعات البكر التي ظلت محفورة مهما كبرنا، فـ(ألفونسو كوارون) برحيله عن (روما) لا تبدو ساعاته إلا كـ(جاذبية) لا تخلو من خيال، فمهما ترك ماضيه وراءه، سيعود ذلك الماضي، لأن الماضي لا يبقى في الخلف البتّة، بل يرافقنا باستمرار ويسير أمامنا فلا نرى المستقبل إلا من خلاله كما يقول (أفونسو كروش) في رواية الرسام تحت المجلى، وكما يقول إيليا أبو ماضي في حق المهاجر:
لكنّه مهما سلا
هيهات يسلو الموطنا
لذلك عاد (ألفونسو كوارون) بكاميرا تمر دون حكم، وتجول في المكان، لتنقل المعاناة كما هي، تلك المعاناة التي تفرقت بين البشر في شخصية (كليو) و(صوفيا)، بل كل فرد في الفيلم دون استثناء، ووصلت إلى الكلب (بوراس)، والسيارة، وكل شيء.
أين الأزمة؟!
يُصنّف الفيلم من الأفلام هادئة الإيقاع، لذلك لا غرابة حين يأتي تعليق في بداية الفيلم من مشاهد اعتاد الإثارة، فيصف الفيلم بالبارد أو حتى يتوقف عن المشاهدة، وما لا يدركه أنه حين يعلق سوف يعلم أن الفيلم يعتمد توزيع الذروات، فحين يجب على الفيلم الوصول إلى ذروة واحدة، يجد المشاهد أن لكُلّ حدثٍ سقفُ ذروة يصله، ليعلو فوقه بحدث آخر، وذلك حين تقتسم شخصيات الفيلم عدداً من الأزمات، فحين تعاني (كليو)العاملة من رحيل (فيرمين) بعد حملها، لم تسلم (صوفيا) السيدة من هجر زوجها أيضاً؟ وتركها وحيدة تصارع الحياة مخلّفاً أولاده الثلاثة، بل لم تسلم السيارة من ضيق مساحة الكراج، وارتطام المرآة عند الدخول، وتكرار المحاولة بهدوء أعصاب من الزوج على صوت الموسيقى، وإتمام سيجارته، وارتطام زاويتها الأخرى ثانية، حتى يوقفها! بل حتى الكلب لم يسلم حين يمارس طبيعته في قضاء حاجته دون أن يلقى تبرماً من زوج صوفيا، بل لم يسلم (فيرمين) ابتداء من التنمر، والزج به في معركة لقمع تظاهرة لا ناقة له فيها ولا جمل.
إنها سلسلة من الأزمات لا تتجلى في القديم كما يحددها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، إذ يرى غرامشي أن القديم آيل الى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، لذلك ظلّت الأزمات تنتفخ شيئاً فشيئاً كبالونة.
بالونة
يخبر الصبي على مائدة الغداء أسرته عما شاهده: بالونة مملوءة بماء تُلقى على مركبة عسكرية، فيقابلها طلق ناري تجاه الملقي، تفزع (كليو) سائلة عن سلامة الملقي، فيجيبها: (انفجر رأسه)!
لا تدري أو ربما تدري (كليو) ساعتها أنها ليست سوى بالونة لم تنتفخ بعد!
إن الفزع تراه في عيني (كليو) الخلاسيتين، وذلك لعرقها المختلف عن أسرة سيدتها (صوفيا)، فلماذا هاتان العينان دون سواهما؟
في رواية الرسام تحت المجلى للروائي البرتغالي (أفونسو كروش) كان جوزيف سورس يمر في حالة ركود إذ لم يتمكن من الرسم، فليس لديه ما يرسمه، فهو يرسم أعين الناس المغمضة، وقد فقد ذلك بعدم خروجه من المنزل، فما من أعين حوله باستثناء أعين الأسرة التي كان يسكن معها.
فاقترحت عليه السيدة روزا بسؤالها:
(لماذا لا ترسم عيني الخادمة؟)
هل كان هذا السؤال ذاته ما أعاد (ألفونسو كوارون) لخادمته الأولى؟! لمعاناتها، وأزمتها التي نقلها بكاميرته؟! للبالونة التي انفجرت على سيارة، فانفجر مقابلها رأس! للبالونة الأخرى التي لم يلحظها أحد وهي تنتفخ، وتترقب موعد انفجارها!
في فيلم قصير يحمل ذات العنوان (بالونة) عام 2007م من إخراج بدر الحمود وبطولة ذياب الجاسر الشاب الذي يلتقي بالونة حقيقية، وربما رمزية، يدعوها لمنزله، وينفخها شيئاً فشيئاً، وبعد سعادة ولذة بمداعبتها، يملّها، ويلقيها من النافذة! لتقضي بقية ليلتها وربما حياتها بجوار برميل قمامة!
ربما هذا ما حدث لـ(كليو) دون قسوة (ذياب) المفرطة بإلقاء البالونة من النافذة، فـ(فيرمين) حين سمع بخبر حمل (كليو) في السينما استأذن مخلّفاً معطفه، وذهب دون أن يعود! رحل وأنفاسه في أحشاء (كليو).
المعطف
ظلت (كليو) تنتظر طويلاً في قاعة السينما، خرج كل من في القاعة سواها ومعطفه والكاميرا المذعورة التي ظلت واجمة دون حراك من فرط الأسى الذي يتركه الرجال للنساء بلا مبالاة!
لذلك لا غرابة حين تقف صوفيا مع خادمتها (كليو) في مواجهة قدرها، والعناية بحملها، ومواساتها في لحظة مصارحة فاضت فيها (صوفيا) بعد كبت مشاعر لم تعلنها لأحد، تحدثت لأنه حان وقت مواساة خادمتها (كليو)، فقالت جملتها التي أجدها الحدث المفصلي في الفيلم:
(مهما يخبرونك، ستبقى النساء دائماً وحيدات).
المرأة وحدها تعلم ما تعانيه وتكابده، لن يشعر الرجل بمعشار ألم المرأة مهما قدّم (ألفونسو كوارون) في فيلمه المواسي والمناصر للمرأة، والمناهض لعدم مبالاة الرجل! فالرجل سيظل المعطف الذي يحاول عبثاً حجب البرد دون أن يستطيع إلى مواطن الصقيع في داخلها.
(صوفيا) التي تفوقت في ذلك حتى تلبست دور المعطف لأولادها في غياب والدهم، متذرعة بسفره إلى (كيبك) في كندا، ومحاولة بكل الوسائل استجداء عاطفته برسائل أولاده شوقاً إليه، محافظة على منزلها، وصابرة على نزواته التي لا بد من مواجهتها أخيراً، والإفصاح عن سبب انقطاعه وغيابه عن أولاده، بل إعلانها انسحابه من أجل أخرى غائبة عن الفيلم، فالكاميرا ترصد ما أمامها، وتخفي الكثير خلفها، ولذا كان المعطف من الأهمية بمكان يفوق تلك الغائبة، فالمعطف أكثر إخلاصاً من لابسه الذي عادت إليه (كليو) أثناء تدربه على فنون قتالية، لتعود خالية الوفاض، وليعود هو أيضاً في تلك اللحظة الحاسمة التي خرجت فيها (كليو) مع الجدة بحثاً عن سرير لمولودتها المرتقبة، لتمر كما تمر الكاميرا بمظاهرة تقابلها ميليشيا موالية للحكومة تقمع المتظاهرين برصاص حي، فتقف مصدومة عند رؤية (فيرمين) أمامها في ذات اللحظة التي يصب الماء معلناً ولادة الصبية، فهل كانت (كليو) تلك البالونة التي رميت على السيارة العسكرية، لتكون ابنتها المتظاهر الذي تلقى رصاصة في الرأس؟!
خرجت الطفلة ميتة، وهل كان لها أن تعيش؟! لم تستطع (كليو) أن تنقذها، ولذلك صمتت وحُق لها أن تصمت.
ما بين الصمت والكلام
أعلنت صوفيا التأقلم مع حياتها، فزمان صمتها ولّى، لذلك قررت أن تبدل السيارة الضخمة التي تفوق كراج المنزل بأخرى أصغر، وأن تخرج في نزهة تصحب فيها (كليو) في زمن الصمت الذي حطَّ في ساحتها، فالتزمت (كليو) الصمت خلافاً للعبة التي مارستها مع الصبي في بداية الفيلم، حين تعامدت واضعة رأسها نظير رأس الصبي، واستلقت ممثلة حالة الموت متشبهة بما يفعله الصبي، وحين لم ترد على ندائه، أخبرته بأنها ميتة، وهي تحب هذه الحالة!
هذه المرة تمارس فعل الصمت غير محبة وغير مختارة، وإنما أثر الصدمة التي تلقتها عند إجهاضها، وخيبتها بعدم قدرتها على الاحتفاظ بمولودتها، لذلك ظلت صامتة حتى أتت اللحظة التي استطاعت -هي التي لا تحسن السباحة- أن تنقذ الصبي من الغرق!
عندها انفجرت باكية، فهل كان بكاها لشجاعتها التي استطاعت بها إنقاذ الغريق في الوقت الذي لم تتمكن من إنقاذ مولودتها؟! ما أقسى دموع الشجاعة والخيبة في آن!
طائرة البدء والمنتهى
بينما ينتهي الفيلم بصورة لـ(كيلو) وهي تصعد للأعلى، وتبدو الطائرة في السماء، تعود بنا الذاكرة للقطة البداية، أرض ينسكب عليها الماء، وتبدو أنها تظهر طيارة منعكسة على صورة الماء، فهل هي ذات الطيارة؟!
ربما تكون أو لا تكون، غير أنها حتماً غير تلك اللحظة الأولى، في رواية الرسام تحت المجلى لـ(أفونسو كروش) يقول السيد كوستا لجوزيف سورس بأن الصور تخدع أحياناً، وكذلك ذاكرتنا، بعد أن أراه صورة، وقال له بأنها لوالدته، وهكذا بدت لنا كمشاهدين صورة (كليو) التي أدّت دور العاملة بكل بساطتها، لأنها ليست ممثلة، بقدر قيامها بهذا الدور لأول مرة، وهكذا تكون تلك الطائرة المحلقة التي تنعكس على الأرض، لتراها في السماء حقيقة، لأن ما بين البداية والنهاية رسم غير مكتمل، وهنا يكمن السحر الخاص، فالاكتمال يجعله سجناً من خطوط كما يقول (كروش)، وهكذا أجاد (كوارون) حين ترك اللوحة مفتوحة للأعلى، لأن الطرق كلها تؤدي للأعلى، وهكذا كان الفيلم.