كتبت إليزابيث باريت ذات مرة رسالة إلى ماري رسل، عندما شاهدت لأول مرة صورتها، وقد تجددت وأصبحت محفوظة إلى الأبد؛ قالت فيها: (أنا أتوق إلى أن يكون لي تذكار مثل هذا، لكل كائن عزيز في العالم، إنه ليس الشبه فقط الذي هو عزيز بل الرابطة والإحساس بالقرب، شيء يشبه أن يظل الشخص مثبتاً في الذاكرة إلى الأبد).
وكم تشبه هذه الرسالة ما ذهب إليه الفنان عبدالله العثمان في عمله المثير مُعلقة، ذلك العمل الذي يقوم على حفظ الأمكنة القديمة في ذاكرة جديدة لا تشبه الذاكرة التي سادت عنها، أو طرائق الحفظ المعتادة، فهو يتجاوز ذاكرة الشفهي والصورة والحكي والمخبأ إلى ما يلمس تلك الذاكرة العريقة بطريقة مختلفة، شيء أكثر صلة بالذاكرة الآنية وقصة المكان.
يستخدم عبدالله العثمان القصدير في تغليف الأمكنة القديمة مرة في البلد القديم في جدة، وأخرى في مدينة الخبر في أحد الأحياء القديمة، وأخيراً في العلا في المنطقة الأثرية.
يستخدم القصدير ليس أداة لها رمزيتها المتصلة بالحفظ فقط، بل يمنح القوة لها لنسخ نفسها بطريقة مبتكره كما يفعل القصدير مع أي من المواد التي يستخدم فيها.
قسطرة قلب، هكذا أطلق عبدالله العثمان اسماً على العمل الذي يحاول أن يلفت الانتباه إلى شيء من القيم المفقودة في زمن مليء بالكثير من اللامبالاة والتفاهات والقبح، يختار أمكنة تاريخية عُرفت بالحكايات والقصص، وتشكل ذاكرة مديدة وعميقة، تلك الأمكنة المهددة دائماً بالزوال أمام عوامل الزمن والزحف القاسي لمظاهر المدنية نحوها، وأمام أي فكرة حديثة قد تستبدله وتهدمه في لحظة.
بعض المدن بلا ذاكرة، وحالة القسطرة هذه المأخوذة من مسمى في عمليات القلب الطبية؛ تحاول أن تستنهض ذاكرة المكان من جديد، تبث فيها النبض، وتحرك فيها الحياة الراكدة، وتؤسس لشيء يشبه حماية هذا النبض الذي قطع شوطاً في المكان، وتلونت وتشكلت معه قصص وملامح وحياة، وذاكرة جمعية وفردية على حد سواء.
يستخدم العثمان القصدير الذي يحفظ ويعزل في تغليف هذه المباني والبيوت القديمة، مما يثير أسئلة وانفعالاً لدى المتلقي، فالقصدير الذي يرونه لأول مرة في غير مكانه بات محرضاً للبحث عن ما وراء هذه الفكرة.
العمل الفني الذي تجاوز الجماليات السابقة والتوقف عند حدود الدهشة والرأي واختلاف الذائقة أو التماهي معها، إلى المشاركة الحقيقية في العمل بشكل ساخر أو جاد أو انفعالي أو غيرها من أنواع المشاركة.
من جهة أخرى يلفت العمل الانتباه إلى قيم الفن في الحياة وتأثيره على المجتمع وفعاليته من خلال ما يوجهه من رسائل مفتوحة وبأدوات معروفة جيداً، إذ تنجح مثل هذه الأعمال في ردم الفجوة بين الفن والمتلقي، وتنجح في تغيير مفهوم الفن بما يتوافق مع قضايا العالم الجديد والمجتمعات المدنية وفي خروجه من دائرة الجمالية السائدة.
نجح الفنان في خلق حالة من المفارقات تلك التي تستند على ما هو معروف تماماً ومستخدم في الحياة، وبين هذا المجاز الجديد حتى أنّه خلق حالة من السخرية الجميلة في تفاعل المتلقي مع شكل المكان المغطى بالقصدير، فعابر يسأل عن إمكانية استخدام القصدير في الشواء، وحفظ الأكل، وآخر يسأل عن إمكانية تغطية الحي بالكامل، وآخرون أشاروا إلى أنه يمكن أن يستخدموه منذ اليوم فصاعداً في حفظ أشيائهم العزيزة عليهم.
القصدير وقسطرة القلب يشيران إلى أهمية أن نرى أمكنتنا وتراثنا وتاريخنا بعين مختلفة توليه اهتماماً مستحقاً قبل أن نفقده، ولذا اختار في تلك الأمكنة في جدة والخبر والعلا مواقع تعج دائماً بالمتغير والجديد، ذلك المتغير السريع الذي قد لا ينتبه لذاكرة المكان ولا يحفل بها.
نتذكر مع سونتاغ كيف أن تيار السورياليين الفني مثلاً، اكتشفوا متاجر السلع المستعملة فأصبح الذهاب إليها عبر وسيط الفن رحلة جمالية، رحلة العثور من جديد على الجمال الذي كان الآخرون يرونه بلا نفع وعديم الأهلية، وأطلقوا عليه مسمى حطام أثري، ما قام به العثمان هو ليس الارتباط بالماضي فقط، بل هو الولع بالحاضر والوعي التاريخي، وأن يشكل الماضي بطريقة تجعله منفصلاً ومختلفاً عن المتخلف، إذ يكمن الفرق جلياً بين كثير من الثنائيات المتضادة، المهم وغير المهم، والمتجدد والرجعي، وما يبقى في الذاكرة المُنعشة أطول وما لا يترك أثراً.