هل تعلم بأن المرحلة النهائية لسيمفونية بيتهوفن التاسعة المسماة (قصيدة الابتهاج) (Ode To Joy)، طرب لها أناس متعددو الخلفيات والاتجاهات والميول السياسية والفكرية والثقافية، فبعد تدشينها عام 1824م في فيينا أصبحت تعزف بحضور ملوك وأمراء ونبلاء أوروبا، كما اعتبرها الليبراليون في أوروبا شعارهم، واستولى عليها القوميون، وتبناها الثوريون الفرنسيون. وفي حين أحيت نغماتها عيد ميلاد هتلر عامي 1937م و1942م؛ فإنه قد عزفها سجناء المعتقلات الألمانية، وقاد ليونارد بيرنستين السيمفونية التاسعة في يوم الكريسميس للاحتفال بانهيار جدار برلين في عام 1989م، كما أن هذه المقطوعة كانت لمدة ثلاثين سنة النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي الموسوم بالديمقراطية، وكذلك امتد التأثر بها إلى أعماق جنوب أفريقيا حيث جعلها أيان سميث النشيد الوطني لروديسيا عام 1961م إبّان حكمه لها وسيطرة الأوروبيين عليها قبل تحولها إلى زيمبابوي.
هذه التناقضات يحفل بها الكتاب المعنون (سيمفونية بيتهوفن التاسعة.. تاريخ سياسي) لمؤلفه البرازيلي الأصل إيستيبان بوش (327 صفحة، الناشر: جامعة شيكاغو برس، عام 1999م، ومترجم عن الفرنسية). يحاول المؤلف أن يفسر الاستخدامات سواء السليمة أو السيئة لهذه المقطوعة. فبوكانين الفوضوي حلم بتحطيم كل شيء برجوازي ما عدا قصيدة الابتهاج. القوميون الألمان أعجبوا وانتشوا بتعبيراتها الافتخارية والانتصارية والبطولية. بينما الجمهوريون الفرنسيون وجدوا فيها شعاراً لثورة 1789م: (الحرية، المساواة، الإخاء)، والشيوعيون يسمعون فيها البشارة بعالم لا طبقي، بينما الكاثوليك يسمعون فيها الإنجيل وتعاليمه ويسمعها الديمقراطيون كصوت للديمقراطية.
والسؤال الرئيس الذي يطرحه المؤلف هو ما الذي جعل هذه المقطوعة الموسيقية تتسم بالتشعب والاختلاف الكبير في تأويلها وتفسيرها من أناس مختلفين ومتناقضين؟ النصف الأخير من الكتاب يسهب في استعراض الاستخدامات وإساءة الاستخدامات، وسنكتفي في هذا العرض بهذا القدر المذكور آنفاً.
يبين إيستيبان بوش بأن لودوج فان بيتهوفن (مولود في 17/ 12/ 1770م في بون بألمانيا، وتوفي يوم 23/ 3/ 1827م في فيينا بالنمسا)؛ اغترف بشكل واعٍ من الإرث الأوروبي الموسيقي بأشكاله الدينية والدنيوية، المقدسة والعسكرية، ويضعها بوش في سياق تقاليد كتابة الأغاني الشعبية والوطنية. فمثلاً يصف تأثيرات الموسيقى البريطانية مثل الجنائزية (مسيرة الموت)، والدينية (المسيح)، وذلك في بداية القرن الثامن عشر الذي بزغ فيه نجم الملحن هاندل، بالإضافة إلى مقطوعة موسيقية ذات نغمة عسكرية (ليحفظ الرب الملك) والتي ترجع إلى القرن السادس عشر.
ويقتفي بوش التأثير على المرحلة الأخيرة من السيمفونية التاسعة والمسماة (قصيدة الابتهاج) حتى إلى النشيد الجمهوري الثوري الفرنسي (المارسيلز). بل يذكر أن المارسيلز وصل تأثيرها إلى حد أن أحدهم ألّف قصيدة على نغماتها من أجل مناسبة تتويج الملك البروسي فريدريك وليم الثالث في عام 1798م. هذه المفارقات حيث كانت معظم أوروبا تعاني من الحرب النابليونية؛ لم تمنع من أن تصبح المارسيلز الثورية نموذجاً موسيقياً سياسياً يقتدى به وتطرب له البلاطات الملكية والأميرية ورعاياها.
ما يميز المرحلة النهائية من السيمفونية التاسعة المسماة (قصيدة الابتهاج) (وهي المرحلة أو الحركة الرابعة من المقطوعة ككل) هو أن بيتهوفن استخدم المزج بين الموسيقى والشعر، بالإضافة إلى أنه أحل الأصوات محل الآلات الموسيقية في المرحلة الأخيرة. ومن إحدى السوابق في هذا المضمار يذكر بوش عن طموح بيتهوفن وحماسته لأن يكون موسيقياً مرموقاً في النمسا وفي أوروبا ككل، وفي هذا الإطار يضع جهود بيتهوفن في تلحين كينتاته (Cantata) (قصة تنشدها المجموعة على أنغام الموسيقى بدون تمثيل) عرفت باسم (لحظة التألق) (The Glorious Moment) للاحتفالات بالهيمنة والانتصار الأوروبي على نابليون وبمناسبة مؤتمر فيينا عام 1814، ومعروف أن هذه المقطوعة تمجد الملكية بشكل مثالي ومتحمس جداً وتبلغ المقطوعة أوجها بترتيلة عن المثل العليا لأوروبا. وطبقاً لبوش فهذه المقطوعة تنسجم مع الروح السياسية التي كان يقودها آنذاك مترنيخ في طموحه لخلق (كونسيرت أوروبية)، مع أن بيتهوفن رمز للبرجوازية الصاعدة آنذاك. وبمناسبة مؤتمر فيينا كانت المدينة تعج بالملوك والأمراء والنبلاء والقيادات العسكرية العليا ما شكل جمهوراً نخبوياً واسعاً استمتع بما تقدمه فيينا من ثراء ثقافي وفني كانت إحداها مقطوعة بيتهوفن (لحظة تألق). ويستنتج الكاتب بأن في تلك اللحظة لم يقتصر ولاة أمر أوروبا المجتمعون في فيينا على مقاومة العدوانية العسكرية الفرنسية بقيادة نابليون، بل إن مؤتمر فيينا رغب في هيمنة العائلات الحاكمة المنتصرة على الحركات القومية والليبرالية والديمقراطية التي أطلقتها أو شجعتها الثورة والحروب الفرنسية في أوروبا.
وقد اشتمل الإرث الأوروبي الموسيقي في القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر على سيمفونيات وكونسرتس وأناشيد ذات طابع ديني وعسكري وقومي وبطولي مثل مقطوعة هايدن المشهورة (الخلق) (Creation). وبالطبع هذا الإرث كان يحتوي على مواضيع مختلفة ومتناقضة من تمجيد للملكية والأرستقراطية إلى تمجيد الثورة ومبادئ أوروبية مثل الديمقراطية والحرية.
ويعتقد بوش أن إبداعية (قصيدة الابتهاج) لبيتهوفن في السيمفونية التاسعة لم تنبثق بدون سوابق لبيتهوفن، حيث لحّن مقطوعة مشهورة، اتسمت بالنغمة العسكرية، يمجّد فيها انتصار القائد البريطاني الدوق ويلينقتون الذي هزم نابليون. كما أن بيتهوفن سبق أن لحّن كذلك مقطوعة كورس فنتازية (Choral Fantasy) استخدم فيها العزف المنفرد على البيانو والأوركسترا والترانيم، ومزج فيها بين الشعر والموسيقى وأيضاً القصيدة التي استخدمها من قبل الشاعر شيلر، حيث تمتد جذورها إلى قيم عصر الأنوار ومبادئه، ويعتقد بوش أنها تعكس وعياً ثقافياً محدداً انتشر في ألمانيا خلال الحروب النابليونية، يشكل في آخر الأمر أحد أعمدة العالم الثقافي الحضاري للبرجوازية، وهذا هو نفس الأسلوب الذي استخدمه بيتهوفن في المرحلة الأخيرة من السيمفونية التاسعة المسماة (قصيدة الابتهاج).
ويشير بوش إلى حقيقة أن بيتهوفن في سيرة حياته المهنية قد ارتبط بالعالم الأرستقراطي في زمانه والمتسم بالروابط العائلية والتحالفات الموسيقية. بل ساهم بيتهوفن بإرادته في الدعاية للعائلة الحاكمة النمساوية (الهابسبرج)، ولمّح لمنصب في مؤسساتها، ولحّن عدة مارشات عسكرية وقصائد بطولية في هذا الإطار، بالإضافة إلى ترانيم تمجيدية على شرف الإمبراطور النمساوي ليبولد الثاني.
ولكن يجد بوش أنه من الصعب عمل علاقة محددة بين الأناشيد الثورية الرائجة آنذاك؛ وموسيقى بيتهوفن، وذلك بالرغم من أن بعض المؤرخين الموسيقيين، طبقاً لبوش، يشيرون إلى تصريح بيتهوفن في 1802م باتباع (طريق جديد)، وكانت نفس الفترة التي بدأت فيها أعراض الصمم لديه، ويسمون تلك الفترة بالنسبة لبيتهوفن (الفترة البطولية)، حيث تجسّدت في نغمات تصنف بالكلاسيكية، وذلك بالعزف المنفرد (Sonatas)، ومن أشهرها السيمفونيتان الثالثة والخامسة، إذ يعتقد أنه يتخللهما تأثير الموسيقى الثورية الفرنسية. ولكن بوش يعتقد أن السمة الكلاسيكية لمقطوعاته هذه المذكورة يتناقض مع المبادئ الأساسية الجمالية للموسيقى الثورية والتي تتحلى بالموسيقى الغنائية وتعبّر عن (صوت الأمة). ويصل الخلاف حول ماهية موسيقى بيتهوفن في أوائل القرن التاسع عشر إلى حد التناقض، حيث ينقل بوش رأي معلق موسيقى في عام 1810م على السيمفونية الخامسة بوصفها: (تثير الخوف، والارتعاش، والرهبة، والحزن والأسى، وتوقظ التوق إلى الماضي بشكل لا نهائي، وذلك جوهر الرومانسية).
ولا يمكن أن تخطئ العين تأثر بيتهوفن بالشعور القومي الألماني المعادي للنابليونية، بل إن بوش يذهب إلى حد القول بأن عظمة بيتهوفن لا يمكن فصلها عن قبوله كجزء من الثقافة الألمانية آنذاك. ولبيتهوفن تصريحات عديدة تعبّر عن حبه لوطنه الأصلي ألمانيا ولوطنه الثاني النمسا، حيث كان يسعى إلى توسيع حيّز جمهوره. ومن أشهر الفعاليات التي تعبر عن ميوله القومية هو قيادته لكونسيترو خيرية لصالح الجنود البافاريين والنمساويين في القاعة الكبرى لجامعة فيينا عام 1813م، حيث اشتمل البرنامج على السيمفونية السابعة ومارشات عسكرية ومقطوعة انتصار الدوق ويلنقتون ومقطوعات عديدة جداً لملحنين مرموقين ومشهورين، كلها تحت قيادة بيتهوفن، وتكرر شبيه بهذه الفعالية في القصر الإمبراطوري في عام 1814م، حيث تكللت بشعور بيتهوفن بالانتصار والنشوة حسب ما أشار إليه كتاب سيرته. وبدخول الحلفاء باريس (31 مارس 1814م) منتصرين، شارك بيتهوفن في اليوم الثاني في فيينا بمقطوعة تعظّم ألمانيا وتمجّد الإمبراطور النمساوي فرانز، وهذه المقطوعة كانت تراتيلية مصاحبة بدقات طبل منفرد وأوركسترا.
ويشير بوش في كتابه إلى رعاية وسخاء البلاط الإمبراطوري النمساوي للملحنين عموماً، ولكن الملحن العظيم هايدن كان ذا حظوة أكبر بكثير من بيتهوفن، ويظهر أن ذلك بسبب التقلبات المزاجية التي كانت تعصف ببيتهوفن. وطبعاً في رأي فات بوش أن يضع هذه الملاحظات في السياق التاريخي، حيث كان الملوك والأمراء والنبلاء يرعون ويكرمون ويوثقون علاقات الصداقة والوئام مع فلاسفة ودعاة عصر التنوير من مثقفين وفنانين، فمثلاً من المهشور جداً العلاقات الوطيدة بين فولتير وفريدريك العظيم ملك بروسيا، وبين ديدروت وكاثرتين قيصرة روسيا وليوبولد الثاني ملك توساني وإمبراطور النمسا؛ وبيتهوفن لم يخرج عن هذه التقاليد، حيث أنه كان دائماً تحت رعاية نبيل أرستقراطي نمساوي.
ويسهب بوش في وصف فضول وحب اطلاع أصحاب المقامات الرفيعة من البلاطات الملكية الأوروبية على التعرف على صاحب العبقرية الموسيقية بيتهوفن عند زياراتهم إلى فيينا. ويضرب بوش مثلاً بمستوى علاقات بيتهوفن بهذه المقامات النبيلة عند قيام بيتهوفن بالدعوة الشخصية لملوك وملكات وأمراء وأميرات أوروبا إلى الاحتفال بانتصار الحلفاء على فرنسا ومنها مقطوعته المشهورة (لحظة تألق) (Glorious Moments) في فيينا.
ويصف بوش هذه المقطوعة بأنها (تمثيل فني لعالم سياسي مغلق تماماً، بل هي صرح لا شقوق فيه)، يتعايش فيه بانسجام تام السكان، الشعوب، الإمبراطور، الأمراء، الوطن، أوروبا، العالم، والإنسانية في بنية متماسكة وملتحمة ذات تكافؤ وتراتبية في آن واحد، ويصفها بوش بأنها تعكس موسيقياً إبداعاً فنياً قديماً (مهجوراً)، ومفرداتها مستندة إلى تقاليد من الموشحات الدينية والأناشيد الجماعية على أنغام الموسيقى (Oratorioanal And Cantata)، ما يجعلها ذات أسلوب يتحاشى قدر الإمكان سمات الكلاسيكية في الموسيقى. وفي نفس الوقت يسمها بوش بأنها مطبوعة بمفهوم ذي علاقات ديناميكية مشتق من النمط الباروكي (Baroque) والمرحلة النهائية للمقطوعة مليئة بالإنشاد الفنتازي، ومن خلال الأصوات والآلات الموسيقية ينبثق خطاب عصر الأنوار بتمجيد الإنسانية والأخوة الكونية، حيث جوقة الأناشيد والتراتيل تكرر أعمالاً سابقة منذ 1790م لبيتهوفن وخصوصاً في المرحلة النهائية للمقطوعة التي يتخللها ما يعتقده بوش صوت الشعب مرفوع بشكل ثوري، ولا يجد بوش نفسه متأكداً هل هذا راجع إلى التأثير الفرنسي أم إلى كاتب السير والمقالات الفلسفية والأخلاقية الإغريقي بلوتارك. ويقرر بوش بأنه بنهاية العهد النابليوني سواء اتخذت الأشكال الموسيقية أنماطاً تمجيدية أم تقريعية للثورة فإن التعبير الموسيقي للقوة السياسية يتضمن بين ما يتضمن خرافة انصهار المجتمع في صوت واحد (إنشادي أو تراتيلي). ويعتقد بوش جازماً بأن الإنشاد في المرحلة الأخيرة من مقطوعة (لحظة تألق) له رسالة سياسية، ويصب في التشكيل الأيدلوجي لطموح مترنيخ (وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية والمحافظ جداً) في خلق كونسيرت أوروبية (Concert Of Europe) يسودها الانسجام والسلام والاستقرار. ويعتبر بوش هذه المقطوعة لبيتهوفن هي مساهمته الفنية في خلق المشروع المترنيخي، ولكن الأهم هو أن هذه المقطوعة وغيرها دشنت نمطاً موسيقياً مستمراً لدى بيتهوفن تمخض عنه وتوج بالسيمفونية التاسعة. وليس الأسلوب الموسيقي هو ما يجب التأكيد عليه فقط؛ ولكن ميوله الأيدلوجية الواضحة والتي بانت في أعماله السابقة للسيمفونية التاسعة مثل: الإنشاد الفنتازي، وانتصار الدوق ويلنقتون، ولحظة تألق. وبدون شك يعتبر بوش أن بيتهوفن نموذجاً لفنان السلطة، وقبله كان هايدن فنان السلطان بدون منازع، حيث لحن مقطوعة نشيد وطني لتكريم الإمبراطور النمساوي المحافظ فرانز الأول بعنوان (ليحمي الرب الإمبراطور فرانز).
ويشير بوش إلى الفترة التي سبقت كتابة بيتهوفن للحن المقطوعة التاسعة، مبيناً أنه ولا بد أن الأحداث السياسية والشخصية أثرت على مزاج بيتهوفن، ومنها تكريمه كمواطن شرف العاصمة الإمبراطورية النمساوية فيينا، وبعد فترة وجيزة اعترافه أمام محكمة النبلاء في قضية تبنيه لابن أخته عن أصوله اللاأرستقراطية عكس ما كان يدعيه قبل هذا الكشف القضائي.
كذلك يؤكد بوش على عبقرية بيتهوفن في الجمع بين المتطلبات الموسيقية الرسمية للدولة ذات السمات الكنائسية والأساليب الباروكية (المتسمة بالترانيم والكورس المصاحب لنغمات الأرغن وذات التأثيرات البطيئة والسريعة وذات الصوت الواحد أو الأناشيد الجماعية)، وهو ما تفتقت عنه عبقريته الفنية من تجديد ليحلق عالياً في فضائه السياسي والذي أطلق عليه بوش (إمبراطورية فانتزي) (A Fantasy Empire). فمثلاً مقطوعته الكنائسية Misa Solemnis تتويج للأثر غير العادي وغرابة الأطوار (Unusual And Eccentric) حيث يجمع بشكل إبداعي غير مسبوق بين البيان والبلاغة والأساليب الإنشائية (Devices Rhetorical And Stylistic) وبين النمط التقليدي القديم واللغة الأوركسترا الكلاسيكية. وكانت هذه المقطوعة من بين مشاريع بيتهوفن لبيعها على كل الشخصيات الملكية والأميرية والأرستقراطية التي حضرت سابقاً عزف مقطوعته (لحظة تألق) أثناء مؤتمر فيينا للاحتفال بالانتصار على نابليون.
وطبقاً لبوش انهالت العروض على بيتهوفن لتدشين المقطوعة التاسعة في برلين ولندن، ما حدا جمعاً من الفنانين والمعجبين ومحبي الموسيقى في فيينا أن يبعثوا برسالة مطولة إلى بيتهوفن هادفين إلى تفادي الإلحاق بفيينا الخزي والعار ويناشدوه العدول عن ألا يختار غير فيينا. ويشير بوش بهذا الصدد إلى أن الموقعين على الرسالة رؤوا أنفسهم متحدثين لأناس اعتبروا الموسيقى العظيمة خلقاً ذا أصول إلهية متجسدة في أعمال مقدسة وترمز إلى عصر ذهبي. وفي هذا السياق فإن مناشدة بيتهوفن تصبح من أجل إنقاذ أرض الآباء والأجداد بأعماله. ولا يفوت بوش أن يؤكد أن هذه المناشدة يمكن اعتبارها تجسيداً لفكرة الحرب المقدسة، حيث أن المفهوم الديني للوطن يظهر الأجنبي (الغريب) على أنه تجسيد للشر (الشيطان) والفنان مخلص تم اختياره من قبل الرب. وفعلاً دشنت المقطوعة التاسعة عزفها بشكل احتفالي في فيينا في مسرح كارتثيرذور في 7/ 5/ 1824م، مصحوبة بعزف مقطوعات أخرى وأناشيد وطنية، وقاد بيتهوفن الأوركسترا بنفسه.
وعندما تم إعادة نشر السيمفونية التاسعة في عام 1826م كان الإهداء عليها موجهاً من بيتهوفن، (مواطن بون) الألمانية إلى ملك بروسيا فريدريك وليم الثالث (أب رعيته) و(حامي الفنون والعلوم)، ويعلق بوش على هذا الإهداء بأنه في سياق رنو بيتهوفن إلى مبادئ الأنوار التي كانت متجسدة سابقاً في الإمبراطور النمساوي جوزيف الثاني وانتقلت في مخيلة بيتهوفن منعكسة في شخصية الملك البروسي، فريدريك وليم الثالث.
ويعتبر بوش بيتهوفن ملحّناً تحوّلياً، حيث أسس لنقلة موسيقية عظيمة في الشكل السيمفوني، وبخاصة أن مركز الثقل في السيمفونية الكلاسيكية كان دائماً الحركة الأولى، لكن بيتهوفن بدءاً بمقطوعته السيمفونية الثالثة، إرويكا (Eroica) في عام 1805م جعل مركز الثقل في الحركة الأخيرة، حيث تصبح ذروة الجهد الموسيقي للحركات التي قبلها. وكرر هذا الأسلوب في أعمال عديدة أخرى ومن أهمها السيمفونية الخامسة المسماة (الإمبراطور)، هذا الأسلوب الفني الجديد آنذاك، اتصف بالتعزيز الفني المتدرج والمتصاعد وإفساح المجال أمام الحركة الأخيرة للتعبير الكامل بناء على النغمات والأصوات في الحركات السابقة. ويشير بوش إلى أن هذا الأسلوب عايشته الأجيال من المستمعين الذين رؤوا فيه تصويراً للوجود الإنساني.
في هذا السياق يضع بوش المرحلة الأخيرة من السيمفونية التاسعة، قصيدة الابتهاج، حيث كانت موضوع التعليق والقراءات المتعددة والتي لم تخلو أحياناً من الأسطورية سواء في قراءاتها من زوايا فلسفية أو دينية أو أدبية (ملحمية) أو موسيقية أو سيرة ذاتية. والإجماع الوحيد بين هذه القراءات لقصيدة الابتهاج هو على جماليتها الإبداعية الفنية وأبعادها الإنسانية في محتواها النصي من قبل الشاعر شيلر، وفي طريقة تقديمها فنياً من قبل بيتهوفن. فقصيدة الابتهاج تشبه إلى حد كبير المسرحية الدرامية التي تتخللها مرحلة يتم فيها حل العقدة، ولكن يؤكد بوش بأن معناها الحرفي سيبقى دائماً غير واضح، وذلك لاعتقاده بأن قصيدة الابتهاج في السيمفونية التاسعة بالثلاث حركات (المراحل السابقة لها ذات الصبغة الآلية والمتعددة الدلالات اللفظية، ويعتبر بعض النقاد الموسيقيين أنها تشكل (حلماً موسيقياً) (Musical Chimera) لأن هذه الحركات الأولى ارتفعت إلى أسمى شكل فني لخلوها من الأناشيد الجماعية (Cantata). ومن هنا يأتي دورها المزدوج: فهي في آن واحد رمز للموسيقى في الحياة السياسية ورمز للسياسة في الفن الموسيقي - على حد قول بوش.
وطبقاً لبوش فإن وصف قصيدة الابتهاج بالحلم الموسيقي نابع من ميلودراميتها، فهي أول موسيقى لفظية في عمل موسيقي يطغى فيه عزف الآلات. وقد تم وصف قصيدة الابتهاج كثيراً بأنها تتسم بصفة الغناء الشعبي (Folksong). ونص القصيدة موضوع من قبل بيتهوفن في سياقات موسيقية مختلفة من أناشيد جماعية إلى موسيقى معارك، وموسيقى عسكرية، أو موسيقى ذات صبغة تراتيلية دينية. واختار بيتهوفن من القصيدة الأبيات التي تمجد الأخوة الإنسانية والتي تحول الأخ إلى بطل. وتتخللها ألحان تراتيلية تمزج بين الشعائر الدينية والدنيوية كأنما في مواضع صلاة.
يرى بوش أن قصيدة الابتهاج في السيمفونية التاسعة تعكس الدور التاريخي لهذا العمل الفني والذي يتسم بغموض أيديولوجي ذي جذور ضاربة في التاريخ الغربي، حيث أن بيتهوفن في أعماله الأخيرة (والتي أشرنا إلى بعضها آنفاً) استحضر كل العناصر التي بشكل أو آخر لعبت دوراً في خلق لغته الموسيقية: فكرته عن الميلودراما، لغته ذات الإيقاعات الهارمونية، مفاهيمه للشكل الموسيقي، فنّه الأوركسترالي؛ كلها في إطار صورتها البلاغية وأهميتها التاريخية. ويعتقد بوش، في هذا السياق، أن قصيدة الابتهاج كمرحلة نهائية للسيمفونية التاسعة مقصود بها الحاكم المتنور، والمبادئ المثالية الثورية الفرنسية، ومقصود بها أيضاً مفهوم آخر مرتبط بمفهوم الطبيعة، كذلك تقاليد مرتبطة بمفهوم ديني سياسي للمجتمع، وأخيراً وليس آخراً المثالية البرجوازية المتجسدة في جمالية التعليم (Aesthetic Education) محفورة في موسيقى ميتافيزيقية.. كل هذه العناصر، كما يؤكد بوش، في لحظة أو أخرى تأخذ شكل أغنية جماعية ذات هيام وافتنان ونوع من العبادة والتي لو تحرينا فيها قليلاً لوجدنا جذورها ضاربة في العصور السابقة للقرون الوسطى، وهي بالضبط النشيد تعريفاً. وفي هذا السياق يختتم بوش هذا الجزء الأساسي من الكتاب بالقول بأن حضور النشيد في الأتوبيا الموسيقية في أعمال بيتهوفن الأخيرة يثير التساؤل حول حضور الدولة في الموسيقى كرمز وكتعبير لمبدأ تنظيمي مجرد في حياة الإنسان.
يستنتج القارئ من الكتاب، ومن وضع طرح بوش في السياق التاريخي الذي عاشه بيتهوفن؛ أن بيتهوفن عاش حياته في خضم أحداث تاريخية رئيسة مرّت بها أوروبا، من أهمها: عصر الأنوار، الثورة الفرنسية، الحروب النابليونية، فترة الإمبراطورية النابليونية، إعادة الملكية في فرنسا. كما أن بيتهوفن تأثر بعمالقة الموسيقى من هاندل، وهايدن، وموزارت، وكذلك بالأشكال الأوروبية المتعددة للموسيقى والغناء من تراتيل دينية وأناشيد وطنية، ومارشات عسكرية وغناء شعبي. وبالتأكيد فقد عايش بيتهوفن أنظمة وحركات وتيارات سياسية مختلفة من ملكية وجمهورية وقومية، وأرستقراطية وبرجوازية. فلا غرابة أن المقطوعة تعكس هذا المزيج الذي يبدو وكأنه متناقض، وتجسّد بشكل عبقري في السيمفونية التاسعة. ويمكن القول إن أعمال بيتهوفن الموسيقية المتأخرة وخصوصاً تتويجها بالسيمفونية التاسعة جعلت بيتهوفن جامعاً لمتناقضات وثنائيات عديدة في عصره أهمها الجمع بين كل من:
- القومية والعالمية.
- الملكية والجمهورية.
- الأرستقراطية والبرجوازية.
بل إن مقطوعته جعلت ما يبدو متناقضات هو انسجام يجسد بالفعل عبقرية استثنائية انعكست في إبداعه في تأليف هذه المقطوعة.
وبالرغم من أن الكاتب أشار إلى بعض من هذه الفضاءات الفنية والسياسية والاجتماعية، إلا أنه في رأيي كان يمكنه أن يثري بحثه بشكل أفضل لو أنه عرض بالتفصيل كيف عايش بيتهوفن الفترة الانتقالية بين عصرين (للموسيقى والفن خصوصاً والأدب والسياسة عموماً) وهما الكلاسيكية المتسمة بالشكلانية والتحفظ (Formality, And Restraint) وعكسها الرومانسية المتسمة بالتركيز على التعبير للشعور الذاتي أو الشعور القومي. حيث أن أعمال بيتهوفن المتأخرة دشنت الموسيقى الرومانسية بإدخال أشكال موسيقية جديدة منها: القصيدة السيمفونية، المقطوعة القصيرة جداً للبيانو، الموسيقى الدرامية.
وفي اعتقادي أيضاً أن الكتاب كان سيكون موفقاً أكثر لو أن عنوانه اقتصر على التاريخ السياسي لقصيدة الابتهاج، حيث أن حظ المقطوعة التاسعة كان أقل كثيراً من الاهتمام الذي وجهه الكاتب لمقطوعة قصيدة الابتهاج والتي استحوذت على النصيب الغالب من المحتويات، ولكن هذا لا يقلل من الفائدة والمتعة الكبيرة للكتاب، وبالتأكيد النشوة عند سماع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، حيث أن العواطف يتم تطهيرها بالفن على حد قول أرسطو!