مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

البعد الدرامي في الفن المسرحي المجتمعي وشواغله المشتركة فنياً

يرتبط الفن المسرحي المجتمعي بالتقاليد والمعتقدات والسلوك الفردي أو الجمعي لمجموعة من الأشخاص نجدهم على خشبة المسرح ضمن بيئة معينة، ويحاولون من خلال ذلك تحسين ظروف معيشتهم، مما يعطي رؤية اجتماعية لهؤلاء من خلال هذا المسرح الذي يهتم بالقضايا الإنسانية المجتمعية تحديداً، ليتميز هذا المسرح بالتعاون المشترك لتحقيق الأهداف بقوة الدراما المسرحية وعلاقاتها المباشرة مع الجمهور، وبزرع الوعي الفني المجتمعي القادر على التأثير المباشر من خلال تسليط الضوء على الحياة اليومية الاجتماعية، للمس الأوجاع ورؤية السلبيات والإيجابيات بأسلوب يتشارك فيه الممثل مع الجمهور وفق دراما ذات تأثير حي يتوافق والمشكلات الإنسانية التي قد لا تُرى ما لم يتم تسليط الضوء المسرحي عليها، إن بضحكة أو بدمعة بمعنى إما تراجيديا أو كوميديا ومستوحاة من الممارسات الحياتية للأفراد منها التقليدي والتراثي والشعبي.
فهل يمكن جمع الفن المسرحي المجتمعي مع العمل الاجتماعي الإرشادي بهدف بناء المجتمعات؟ وهل يستطيع هذا الفن تغيير المجتمعات لتطويرها وإعادة النظر بالمسببات التي تعيق عملية التقدم الاجتماعي؟ وهل من التزام ثقافي لترميم هذا المسرح وإعادته إلى الحياة الفنية بقوة ليكون همزة وصل بين الجمهور والممثل وأهداف بناء المجتمعات إنسانياً كي تتطور إلى الأفضل؟
يؤكد الإحساس بالدراما على المسرح حقيقة فنية لا يمكن الهروب منها، إذ تندرج القضايا المجتمعية تحت سياق الأداء المسرحي، كما في مسرحية مدرسة المشاغبين أو العيال كبرت دون أن ينفصل العمل عن مجرى الحياة العادية رغم الحدث الذي تم تصويره بأسلوب دراماتيكي يثير الشجون، كما يثير الضحكة البناءة والمدروسة باعتدال مسرحي حقق أهدافه المجتمعية، لأنه سلط الضوء على القضايا المحقة في المجتمع المصري، وربما في المجتمع العربي ككل، بل لامس النص الممثل والجمهور على السواء، وبقدرات تمثيلية تفاوتت فيما بينها، إلا أنها حققت مبتغاها من حيث الفكرة المطروحة ما بين الكوميديا والمغزى التراجيدي، أي المضحك المبكي بصرف النظر عن قدرات الممثل، لأن التمثيل المسرحي له معنى مختلف على الخشبة، لأنه يضفي الطابع المشترك بينه وبين الجمهور مباشرة، وإن كانت أطر العمل تخيلية إلا أنها تدخلنا إلى الواقع المجتمعي، وبخبرة فنية لا تتعارض مع مفاهيم الحياة والطاقة الحيوية لجمهور المسرح وخاصيته التي تعززها العلاقة الحميمة بينه وبين الفنان، وقبل كل شيء بين الفعل والمكان كنافذة مفتوحة على حياة أخرى يرى منها الجمهور معايشات يلمسها ليجمع بين حقيقتين الواقع المتخيل على خشبة المسرح. فهل بدأنا نخسر كل هذا في الوقت الحالي؟
إن التشابه والاختلاف والتباين في وجهات النظر عند جمهور الفن المجتمعي وبين العاملين بالعمل الجماعي للتنمية والتطوير الاجتماعي هي وجهات نظر لقضايا يتم طرحها على خشبة المسرح، لتصبح قضية جماعية تحتاج لحلول ولتطوير ولوعي اجتماعي لا سيما وأن القضية المطروحة ساهمت في فتح النوافذ على القضايا المحقة. وتجعلنا نتساءل هل هذا المسرح هو مسرح فني مجتمعي يهدف إلى إظهار قضايا المجتمع عبر الفن أو هو الفن للفن فقط؟
 ما بين الأداء التمثيلي والنص المسرحي عظمة فنية مشتركة هي الجوهروالمبدأ الأساسي للدراما التي بني عليها المسرح في البدايات الأولى له، وبوعي مجتمعي في تكوين القصص المتخيلة التي تتوج الخلاصة والمغزى، بتوجيه مجازي وفقاً لتكيفات الجمهور مع العمل المسرحي القائم على السلطة الدرامية، وبفلسفة ذات تأثيرات درامية تتفوق على قوة العمل، وجمالية النص الذي يتيح للمثل الوصول إلى الجمهور بشكل أوسع، ضمن مفاهيم المسرح المجتمعي وشواغله المشتركة، بقدر الإمكان مع تكرار العرض أكثر من مرة، مما يضفي قيمة إرشادية ترتكز على المعايير الإنسانية وبعض الجوانب الحياتية التي يتم إهمالها من قبل الأفراد لتبدو أكثر وضوحاً على خشبة المسرح مع كوكبة من الممثلين التي تتوافق فيما بينهم السمات الفنية والتوجيهات القادرة على تقديم عمل مسرحي تعتمد قدرته على تحسين فهم الجمهور للمواضيع المجتمعية، وتقدير الجمهور لها وبنظرة بناءة يلتقط من خلالها المشاهد والممثل بعض المعالم الفنية والمطلبية أو الإرشادية وإن بشكل مستبطن، مما يمنحها قوة متجذرة في المجتمعات لما تشكله من دفاع عن فن الحياة على خشبة المسرح وثقافته المجتمعية. فهل خسرنا قوة هذه الخشبة حالياً؟ أم أن الجمهور كسر رتابة النصوص التي هي بحاجة إلى تدعيم فني بشكل أوسع لتتواءم مع المسرح المعاصر في العصر الحديث؟
يدور الجدل في عوالم المسرح المجتمعي المشغول درامياً بعيداً عن الأزمات التي تتعرض لها المسارح اليوم، كما أن تجربة المجتمعات المتطورة فنياً وثقافياً تؤكد على أولوية هذا الفن الذي بدأ يتعرض لأزمات في ظل المسرح المرتجل أو المسرح الذي لا يلتزم بالنص، وهو يتجه نحو فهم العالم المعاصر منتفضاً على الدراما، وبازدواجية ناجمة عن القدرات الإبداعية عند جيل جديد ثار على النصوص، ليخنق الدراما المسرحية التي تنطوي على الكثير من المفاهيم الإنسانية المدروسة العناصر بطبيعتها وإنسانيتها وأهدافها المغزولة بعمق، وتكامل يتضمن المعرفة الدرامية كما في مسرح شوشو اللبناني الذي استطاع في فترة زمنية فرض خشبته التي عالجت الكثير من القضايا الاجتماعية درامياً إن تراجيديا أو كوميديا، برغم أنه اتصف بالكوميديا، لكنه استطاع تعزيز أهدافه من حيث القيمة الاجتماعية، وجمالية المواضيع وتعزيزها في ذاكرة هذا المسرح وهويته الفنية الثقافية القائمة على جمالية النص المسرحي الاجتماعي، والضحكة المسيطرة على مفارقات هي مزيج ثلاثي من البيئة الاجتماعية ومن الدراما ومن تفعيل هذا المسرح الذي سيطر على الجمهور من حيث محاكاته لهموم الإنسان بشكل عام. فهل أزمة الدراما المعاصرة من أزمة جمهورها عربياً؟
أعطى الجمهور المسرح الملتزم ظهره وانقاد خلف الضحكة الرنانة التي تقترب من ستاند باي كوميدي أو مسرح الشخص الواحد الذي يعتمد على حنكته ودرايته بالشخوص التي يتقمصها، ليمسك بجمهوره من خلال المفارقات في الشخصية لا في المواضيع الاجتماعية التي يتم معالجتها درامياً كما المسرح الملتزم بقوة النص واعتماده على الأبعاد المسرحية المبنية على التطوير، وعلى بصمة ثابتة ذات نكهة اجتماعية بحتة، يعالج من خلالها النص الكثير من القضايا الاجتماعية، كما في مسرح (جورج خباز) الذي تناول في مسرحياته الكثير من المشكلات الاجتماعية وبسطها على خشبة المسرح بفن يميل إلى المعالجة الدرامية بالكوميديا الواضحة التفاصيل، التي تشكّل البنية الأساسية في النص الذي يشترك فيه الممثل والجمهور، لتتفاعل الأحداث بشكل تطوري يهدف إلى خطف الأنفاس من خلال الحقائق التي يبثها كوميديا، لتتخذ تراجيديا فيما بعد نوعاً من الدراما المشتركة، والأكثر جذباً من حيث التزامها بالحدود الاجتماعية، وبنوع درامي لا يقتصر على الروح المرحة التي يمتلكها الفنان، وإنما على الأبعاد الفنية المجتمعية التي تخرج من الأثواب الدرامية إلى الكوميديا الأكثر تحرراً دون تكلف لتنتقل كالعدوى إلى الجمهور، فما الذي حدث للنص المسرحي المجتمعي ليقع في أزمة الحداثة ويتمرد على النص المكتوب بل ويثور على الدلالة الاجتماعية لهذا المسرح الذي حافظ على أهدافه في الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات والتسعينات؟
يرتكز البعد الدرامي في الفن المسرحي المجتمعي على القيم الإنسانية، وبتمييز بين العقلانية والموضوعية الدرامية حيث يتم التعبير الكوميدي غالباً لتوجيه الذهن نحو لب المشكلات والاهتمام بها، وبالمعايير المجتمعية الخاصة بها وفق الاحتياجات الإنسانية المهيمنة على الحياة اليومية، وتميل إلى رفض اللاأخلاقيات الاجتماعية التي تتعرض لها المجتمعات دون الدخول بالنزاعات السياسية التي قد تؤثر سلباً على روحية النص وبعده عن الغايات الدرامية المكتوب خصيصاً لها، وإن بدا الأمر في مسرح نبيه أبوالحسن أو أخوت شاناي قد ارتكز على خاصية الجنون، إلا أنه ارتبط بالحكمة وبالنص الملتزم بالأهداف الإنسانية ومعاييرها التي خرج عنها الممثل المسرحي اليوم لينفرد بذاتيته على خشبة مسرح لا تحتاج لأكثر من وقفة ارتجالية تثير ضحكة أدمنها الجمهور الذي انفلت عن النص الملتزم بالأسس المسرحية الدرامية القادرة على التوجيه وبث المغزى الملائم للفكرة التي يتناولها. فهل يتجاهل المسرح الحديث القائم على الضحكة المنفردة البعيدة عن التمثيل أو الالتزام بالنص بالاحتياجات المجتمعية للمسرح الاجتماعي وإمكانية التوفيق بين النص والممثل والجمهور؟ أم أن الأزمة هي أزمة جمهور أعطى ظهره للمسرح الملتزم بالقضايا المجتمعية؟

ذو صلة