1
لصوته الشجي، وتباين طبقاته الفريدة، التي أجاد بها أداء ألوان مُختلفة من الطرب والغناء، لم يسبقه إليها أحد، كانت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، قد كرَّمته، ومنحته جائزة لأفضل الأصوات في العالم.. تغنَّى بالفُصحى فأطرب، وباللهجات العامية فأبدع، كتب كلمات أغانٍ لبعض كبار المُطربين العرب، وذاع صيته كمُلحِن، لُقب بالعديد من الألقاب، منها (أبو الغناء الخليجي)، وفي العام 2002م، وبمُناسبة مرور خمسين سنة على عطائه الفني، مُنِح جائزة أوسكار الأغنية العربية، ولَقَب (فنان القرن)، من جامعة الدول العربية.. إنه صوت الخليج الأصيل، أبوبكر سالم.
2
في مدينة تريم، قلعة التاريخ والحضارة بحضرموت، ولِد أبوبكر سالم، وذلك يوم الجمعة الخامس والعشرين من محرم عام 1358هـ، الموافق السابع عشر من مارس/آذار عام1939م، سُمِّى (أبوبكر)، تيمناً بجده أبوبكر شهاب الدين، أحد علماء حضرموت البارزين في ذلك الوقت.. قُبيل اكتمال ربيعه الأوَّل توفي والده، متأثراً بداء الاستسقاء، انتقل مع أمه السيدة الصالحة بنت السيد عمر بن حسين الكاف، التي ربَّته وحيداً من دون إخوة، في بيت جده الكبير زين بن حسن.. وعلى يد نفر من أعمامه وأقاربه، تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ آيات من الذكر الحكيم، ثم ألحقه عمه حبشي، بمدرسة الأخوة الابتدائية، القريبة من منزل جده في تريم، وقد شهد له أساتذته بالتفوق في دراسته، وسرعان ما برزت مواهبه في مجال الشعر والأدب، إلى جانب الدندنة والغناء بصحبه آلة العود، وبعض الآلات المحلية، واشتهر في صباه كمُنشد للأناشيد والموشحات الدينية، كما كان يحرص على الأذان، وترديد تكبيرات العيدين، في مساجد مدينته، وكان يصطحبه أعمامه لإقامة الحفلات الخاصة بالإنشاد الديني.. وقبيل ولوجه إلى ربيعه السابع عشر، كان قد ألف كلمات أول أغنية له، والتي تحمل عنوان (يا ورد يا محلى جمالك بين الورود).. تخرَّج في معهد إعداد المعلمين، وعمل مدرساً لمادة اللغة العربية، في مدينة تريم، ثم في مدينة عدن، لمدة ثلاث سنوات، بعدها اتجه إلى التفرغ للغناء والطرب والتأليف، إلى جانب القيام ببعض الأعمال التجارية.
3
كانت مدينة عدن، في منتصف خمسينات القرن الماضي، تشهد نهضة فنية كبيرة، فتحت أبوابها أمام هذا الشاب الموهوب، الذي سرعان ما استُقطِب من قِبل فناني المدينة، للعمل كعازف موسيقى، وبدأت دائرة معارفه في الوسط الفني، وكذا الأدبي، والإعلامي أيضاً، تتسع بشكل كبير، حيث صادق الشاعر لطفي جعفر أمان، والشاعر والإعلامي فضل النقيب، والفنانين محمد رشيد ناجي، وأحمد بن أحمد القاسم، ومحمد سعد عبدالله، وغيرهم، ولصوته المميز، توسعت وتعددت مشاركاته في إحياء الحفلات الغنائية.
ومنذ العام 1956م، بدأت إذاعة عدن في تسجيل أغانيه، وإذاعتها، ومن أوائل أغانيه التي لاقت استحساناً كبيراً، من جمهور الإذاعة، أغنية (لما ألاقي الحبيب)، التي صاحبه فيها بالعزف الموسيقي أنور قاسم.. وانطلقت شهرة أبوبكر في الآفاق، ليس محلياً وخليجياً وكفى، بل وأيضاً امتدت إلى عواصم الدول العربية، خاصة بعد ظهور العديد من أغانيه في الإذاعات العربية، ومنها إذاعة صوت العرب المصرية، ومن بين هذه الأغاني (خاف ربك)، و(يا حبيبي يا خفيف الروح)، و(يا ورد يا محلا جمالك بين الورود)، و(أقبلت تمشي رويداً)، من كلماته وألحانه، و(اسكني يا جراح)، وهي من قصائد الفصحى للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، وألحان أبوبكر، و(ليلة شعت لنا بالنور)، من ألحانه وكلمات الشاعر عبدالله التوي، وغنَّى (وصفوا لي الحب)، و(كانت لنا أيام)، و(أعيش لك)، وهذه الأغنيات الثلاث، من كلمات الشاعر لطفي أمان، وغنى (قال لي باتوب)، و(من علمك يا كحيل العين)، و(قولوا له)، من كلمات الشاعر الدكتور محمد عبده غانم.
4
في الستينات، أطلَق إحدى أشهر وأهم أغانيه (24 ساعة)، من كلماته وألحانه، والتي نال عليها جائزة الكاسيت الذهبي من ألمانيا، بعد أن حققت توزيعاً تجاوز المليون نسخة، وصار يتردد بين عدن وبيروت، وأعاد تسجيل أغانيه القديمة، بتوزيع موسيقي جديد، وشارك في العديد من الحفلات، التي أقيمت في حواضر ومدن الخليج العربي، حيث كان يُدغدغ مشاعر الجماهير، بنغمات موسيقى صوته، خاصة في أغانيه (أمتي أشوفك)، من كلماته وألحانه، و(شلنا يا بو جناحين)، من كلماته وألحان حسين المحضار، و(يا زارعين العنب)، كلمات وألحان حسين المحضار، و(يا الله مع الليل بانسهر)، كلماته وألحانه.
5
في العام 1967م، قرر الاستقرار بشكل دائم في بيروت، وغنَّى له من كلماته وألحانه، عدد من مُطربيها المشاهير في تلك الفترة، إلا أنه غادرها، عقب نشوب الحرب الأهلية هناك، عام 1975م.. انتقل إلى الكويت، وانطلق بجديد أغانيه (يا حامل الأثقال)، و(أقله إيه)، و(سر حبي فيك غامض)، كلمات وألحان حسين المحضار، و(ما حبيت غيرك)، كلماته وألحانه، و(حجة الغائب)، من كلمات عبدالله البقعي وألحان عبدالرب إدريس، و(عتابك حلو)، من ألحانه وكلمات أحمد البيض، و(أنا اليتيم)، من كلمات إبراهيم جمعة، وألحان عبدالرب إدريس، و(في سكون الليل)، كلماته، وألحان أبي أحمد.
6
لم يمض في الكويت طويلاً، حيث قرر الانتقال إلى الرياض، والاستقرار فيها، وأبدى رغبته بالحصول على الجنسية السعودية، وبالفعل حصل عليها.. لتبدأ ما يُسميه مؤرخو الأغنية العربية، الفترة الذهبية في حياة أبوبكر الفنية، حيث غنَّى عشرات الأغاني الجديدة، سُجِّل جلها في الإذاعة، وراجت بشكل كبير، بين الجمهور الخليجي والعربي، منها (ما علينا)، و(عادك إلا صغير)، و(تصافينا)، و(نار الشوق)، و(يا سمار)، و(مرحيب)، و(ظبي رامي)، و(في شواطئ عدن)، و(موقفي صعب)، و(وغدر الليل)، و(ما حسبنا حسابه)، و(في السماء غيم)، وجميعها من كلماته وألحانه.. و(أعطني الحل)، من كلمات فائق عبدالجليل، وألحان عبدالرب إدريس، ومن ألحانه وكلمات فائق عبدالجليل، غنَّى (أنتي وين)، و(لا تنادي)، و(غزاني الشيب)، و(لا أنت شمس).. ومن ألحانه وكلمات حسين المحضار، غنَّى مجموعة كبيرة من الأغاني، منها (عنب في غصونه)، و(يا سهران)، و(أويح نفسي)، و(لو خيروني)، و(يقول أنني فضلت)، و(فرصة من العمر)، و(طاب الهنا)، و(يا مسافر)، و(يا قمر)، و(أحب الفراق).. كما غنَّى (حطني في عيونك)، من ألحانه، وكلمات الأمير الشاعر محمد بن راشد آل مكتوم، و(مجروح)، من كلمات إبراهيم جمعة، وألحان يوسف المهنا.. و(رسولي قوم)، و(امغرد بوادي الدور)، وهما من التراث الصنعاني.. و(إن العواذل)، من ألحانه، وكلمات عبدالله شبراوي، و(شوف لي حل)، من ألحانه، وكلمات ابن شهاب.. كما أن له العديد من الأغاني الوطنية، التي كان يُثير بها حماسة الجمهور، في المناسبات والاحتفالات التي تقام في المملكة، ومنها (يا مسافر على الطائف)، و(وبرج الرياض)، و(إلا معك في الرياض)، و (يا بلادي واصلي)، كما أنه شدا حباً للملك خالد بن عبدالعزيز، وأيضاً للملك فهد بن عبدالعزيز رحمهما الله.
7
إن من أهم ما يُميِّز فن أبوبكر سالم، تنوعه الكبير، وتعدد القوالب الغنائية، التي أجادها جميعاً، ومنها الدان واللون الحضرمي، الذي ظهر جلياً في ثنائياته مع شاعر حضرموت حسين أبوبكر المحضار، واللون الصنعاني، والدانات العدنية، كما في ثنائياته مع الشاعرين محمد عبده غانم ولطفي أمان.. ويعود الفضل له في صياغة الأغنية الخليجية باللون الحضرمي على وجه الخصوص، مستفيداً في ذلك من التقارب الكبير بين اللهجة الحضرمية واللهجة الخليجية، وقد صار في هذا الاتجاه، وساهم في تطويره أيضاً كل من غريد الشاطئ، وطارق عبدالحكيم، وطلال مداح، وعبدالعزيز المفرج.
وفي كثير من تجليات أبوبكر الغنائية، يظهر بوضوح البُعد الديني، بتنوعاته الصوفية، كما في (يا ساكني طيبة)، و(إلى طيبة)، و(إلهي في الفلاة دعاك عبد)، و(يارب يا عالم الحال)، و(بانقرع الباب)، و(الرشفات).
لقد حرص أبوبكر سالم، على مدار عمره الفني الطويل، والذي تجاوز النصف قرن، أن يكون محافظاً على إرث من التراث الفني، ومجدداً له، من خلال حيوية توزيعاته، والصولوهات البديعة في أغانيه، ومن تجديداته أن جعل للحن المكرر جاذبية استثنائية، تجعل المُستمِع نفسه يطلب هذا التكرار، ويذوب طرباً، كلما زيد منه.. يضاف إلى ذلك أنه كان ماهراً في تطوير اللوازم، والتوزيع، واستثمار كل آلة على حدة.
ويشير إليه غير واحد من مؤرخي الموسيقى والغناء العربي، إلى أنه بالإضافة إلى حضوره القوي، وقدراته الصوتية والأدائية الفريدة، كان يمتلك ثلاث خصال أخرى، قلما اجتمعت في غيره، وهي اتساع اختياراته، التي جمعت بين الحب والوطن والغُربة والتراث والحِكم الشعبية وغيرها، بالفصحى واللهجات العامية، وبألحان سلك فيها طريق الخِفَّة، التي تجمع بين الحيوية والتفاعلية، وطريق الفخامة التأليفية، والخصلة الثانية كان دائماً يطمح أنه يكون فنه ليس قاصراً على الجمهور الخليجي وكفى، بل وممتداً إلى ما هو أبعد، يظهر ذلك في نظرته إلى النص الذي بين يديه، فإن وجد احتمالية لبعض التبسيط، ليصل إلى جمهور أكبر، بسَّطه، وإن لم يكن تركه على حاله، واكتفى بجاذبية اللحن والأداء والتوزيع، والخصلة الثالثة حرصه على اختيار الآلات الموسيقية المصاحبة له في الغناء، والتي تزيد من طرب صوته طرباً فوق طرب.. كما يرى البعض أن ثنائيات أبوبكر سبب آخر من أسباب تفوقه، وبخاصة ثنائيته مع الشاعر والملحن الكبير حسين المحضار، والتي لا تقل أهمية لدى دارسي الموسيقى العربية عن ثنائية الأخوين رحباني، في لبنان.
8
بعد حياة حافلة بالعطاء الفياض، الذي أثرى به الأغنية الخليجية، توفي صوت الخليج الأصيل أبوبكر سالم، عن عمر يناهز الـ 78 سنة، وذلك يوم الأحد 22 ربيع الأول عام 1439هـ، الموافق العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2017م، وذلك بعد فترة صراع مع المرض، الذي غيَّب جسده، ولكن تراثه الغنائي والموسيقي الثري، يظل حاضراً بقوة، لينهل منه عُشَّاق الطرب الأصيل.. رحم الله أبا أصيل.