التاريخ سبيل لإدراك الذات للفرد والأمة والإنسانية جميعها، وهو كذلك يؤدي للاعتزاز بالنفس وبالأجيال الماضية من الآباء والأجداد، ويعمل على إنارة الطريق للمستقبل القريب والبعيد، ويؤدي للاستفادة من التجارب الناجحة، ومحاولة الابتعاد عن الأخطاء والتجارب غير الناجحة، ومعلوم أن الأمة التي تهتم بتاريخها تكون أكثر اعتزازاً وثقة بنفسها، وأكثر جرأةً لوضع الخطط الطموحة والمفيدة والفاعلة للأمة، وذلك لسعة التجربة وعمقها.
وبالنسبة للتاريخ العربي فقد كان إسهام العرب كبيراً وجباراً في النهضة العالمية في جميع المجالات وشتى العلوم من طب وهندسة وفلك ورياضيات وغيرها من العلوم، إلا أن هذا الأمر لم يتبلور بوضوح في التاريخ العربي إلا بقدر يسير للغاية، وأدى هذا إلى جعل كل هذا الإنجاز منسوباً للغرب الذي تعمد بشكل واضح وضع غشاوة على التاريخ العربي، في محاولة جادة منهم لسرقة الجهد العربي وتبني فكرة أن الغرب هو الذي قد أوجد هذا الإنجاز الضخم، وقد ساعدهم في ذلك عدم اهتمام العرب بتاريخهم، إذ إن المؤرخ العربي لم يسهم بشكل واضح في جمع وتنقيح تاريخ العرب، مما فتح الباب على مصراعيه للمستشرقين لكتابة التاريخ العربي، بل ساعد على نشر هذا التاريخ الذي لم يكن محايداً بل كان يسعى بكل جد لطمس الهوية التاريخية للعرب، دون أن يحلل أو ينقح ما كتبه هؤلاء المستشرقون، ولا نريد هنا أن نقلل من هذه المجهودات التي بذلت في هذا الجانب، لكن نرى أن أي جهد بشري لا يخلو من الأخطاء والأهواء الشخصية مقصودة كانت أم غير مقصودة.
ويقودنا هذا الأمر لضرورة إعادة كتابة تاريخ العرب في ظل تطور علوم الاتصال الجماهيري والاتصال الرقمي التي أتاحت طريقاً جديداً، ووسائل متقدمة لتحليل الأحداث التاريخية وتَبْيين الأدوار التي قام بها العرب، فقد قاد العرب التطور العلمي الكبير الذي أدى بدوره لهذه النهضة الحضارية الضخمة التي يشهدها العالم اليوم، فالحديث عن هذا الأمر يكون مبتوراً إذا لم يُبْرَز فيه دور الإنسان العربي في هذه النهضة.
الحديث عن هذا الأمر يكتنفه كثير من عدم وضوح الرؤية الكاملة، بالرغم من وضوح الأهداف وسموها، لذلك يجب أولاً وضع خريطة طريق تقود لإكمال هذا العمل. وللسير قدماً من أجل ذلك لابد من تضافر الجهود والابتعاد عن التَطرُف الفكري والتعصب الجهوي والمذهبي والتجرد من النظرة الذاتية الضيقة، وضرورة الاستفادة من الثورة المعلوماتية والرقمية لاستحداث منهج متطور يعمل على إيجاد تفسير جديد ومواكب للتاريخ. ولا يتم ذلك إلا عبر المؤسسات الأكاديمية المتخصصة والتي يجب أن تجد الدعم والسند السياسي مع مشاركة كل المثقفين والمهتمين من العلماء العرب داخل وخارج الوطن العربي. وهذا بالطبع لا ينفي جهد الأفراد ودورهم الكبير في هذا المضمار المهم، وعلى المؤسسات الأكاديمية أن توجه الباحثين وطلاب الدراسات العليا للقيام بذلك، ويجب في هذا الصدد أن نثمن كل الجهود المبذولة وأن نشد بقوة على أيدي القائمين والمهتمين بهذا الجانب من الأكاديميين والباحثين وطلاب الدراسات العليا والمهتمين من العلماء الذين أقاموا المنتديات والندوات والمؤتمرات داخل وخارج الوطن العربي.
ونرى أن هذا الاتجاه بالرغم من الجهد المبذول في هذه المؤسسات إلا أنه يصاحبه بعض القصور وذلك لعدم وضوح الرؤية إضافة للعزلة وشتات المجهودات المبذولة مع كل الاحترام والتقدير لهذه المجهودات فإنه لا يوجد تواصل بين الفئات المختلفة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن التركيز على جوانب دون أخرى يجعل العمل غير متصلٍ، ويمكن بشكل موجز أن نضع بعض المقترحات التى نرى أنها قد تخدم هذا المشروع المهم ويمكن مثلاً تكوين فريق من الأكاديميين والباحثين وطلاب الدراسات العليا والمهتمين من جميع أنحاء الوطن العربي، وبالضرورة فإن ثورة الاتصال والمعلوماتية سوف تسهل تواصل هذا الفريق، ويمكن تقسيم الفريق إلى قطاعات تعمل بالتزامن، وعلى الفريق بكامله أن يعمل أولاً على دراسة الاستشراق وبيان أهدافه ومراميه، ثم جمع كل الكتابات التي كتبها المستشرقون وفرزها وتصنيفها، والعمل على تنقيحها وتحليلها، ومن ناحية أخرى على الفريق أن يعمل على جمع كل الوثائق المتعلقة بتاريخ العرب والتي كتبت باللغات المختلفة والعمل على ترجمتها، وإعادة تصنيفها وتحليلها، ويمكن أيضاً مراجعة كتابات الباحثين الذين ساروا على نهج المستشرقين واعتمدوا على مؤلفاتهم.
ولابد هنا من الإشارة إلى ضرورة وضع تصور متكامل لإعادة كتابة التاريخ العربي ليشمل كل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحركة التراث العربي وألا يغفل جانباً من هذه الجوانب حتى يخرج المشروع متكاملاً ومتماسكاً.
نطمح أن يكتمل مشروع إعادة كتابة تاريخ العرب بجهد المهتمين، من أجل أن نعود إلى ذاتنا ونفخر بالأجداد والأسلاف، وعلى الجميع أن يعمل كل حسب استطاعته ومجاله لإنجاح هذا المشروع الكبير والحيوي المهم.