مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

جدل فلسفة التاريخ

| بما أن هؤلاء المؤرخين يفتقرون إلى الفكر الفلسفي.. فكيف يمكنهم أن يدركوا التفكير المعقول ويستعرضوه؟ | هيغل
ما الذي يريد أن يقوله هذا النص المشهور في فلسفة التاريخ؟ هل كان هيغل فيلسوف التاريخ يقصد أن المؤرخ ينبغي أن يكون فيلسوفاً، أو ملماً بالفكر الفلسفي؟ وإلا ما معنى فلسفة التاريخ؟ وما علاقتها بابن رشد وابن خلدون؟ وكيف قام بعض الباحثين الأوروبيين والعرب بقراءة تاريخ الفلسفة العربية؟ بل أكثر من ذلك؛ ما علاقة تاريخ الفلسفة العربية بالتاريخ العربي؟
سننطلق من هذه الحكمة الفلسفية التي تقول بأن المعلوم جداً نحن أبعد ما نكون عن علمه، وما يبعدنا عنه إلا معلوميته المفرطة هذه تحديداً. وهذه الحكمة قد تصدق على تلك الدراسات الاستشراقية التي تختصر تاريخ الفلسفة العربية منذ حلقة الكندي إلى موت ابن رشد في قياس الشاهد على الغائب، بمعنى أن هذه الفلسفة ليست سوى يونانية مكتوبة بحروف عربية، وحجتهم في ذلك مأساة اندماج الفلاسفة العرب في المجتمع سواء في المشرق أو المغرب. ومن الحكمة أن نعترف بأن الاستشراق هو أكبر عامل على ترويج التاريخ المزيف الذي يقوم على إنتاج المعنى واستهلاكه، مادام أن الغاية تبرر الوسيلة كما قال ميكيافيلي. والشاهد على ذلك ما يقوله المستشرق أرنست رينان في كتابه (ابن رشد والرشدية)، وهو من المؤسسين للاستشراق: (هذا العلم ممقوت عند العرب لا يستطيع الفيلسوف إظهاره.. وكان ابن رشد قد اشتغل في هذا العلم إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه إلى الزندقة).
والحال أن تزوير الحقيقة قد تكون غايته مكر التاريخ، لأنه كلما كانت الأمة خاضعة لمكر التاريخ كلما ارتبط مستقبلها بماضيها، ولم يعد للوعي التاريخي مكان في الواقع، ذلك أن ربط محبة الحكمة بالزندقة وتعميم هذه الإشاعة سيؤدي إلى حرمان العقل العربي من المنطق وعلم البرهان وعلوم الرياضيات والطبيعيات، والحكم عليه بالخطابة وعلم الكلام. ولعل خطورة هذا الحكم الزائف تكمن في انتشاره في أغلب الدراسات الاستشراقية التي تأثرت برينان.
هكذا نجد دي بور يقول في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام: (وكان ابن رشد فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً، فتراه في عام 1169م يتولى القضاء في إشبيلية، وفي قرطبة بعد ذلك بقليل، ولما صار أبو يعقوب خليفة اتخذه لنفسه طبيباً عام 1182، وبعد ذلك تولى القضاء في مسقط رأسه مرة أخرى في منصب أبيه وجده من قبل. غير أن الأيام تنكرت له، وحل السخط بالفلاسفة فصارت كتبهم ترمى في النار، ثم أمر أبو يوسف بإبعاد ابن رشد إلى إليسانة (قريبة من قرطبة). ومات في مراكش في 10 ديسمبر عام 1198م). ويضيف بسخرية قائلاً: (ويشبه أن يكون قد قدر لفلسفة المسلمين أن تصل في شخص ابن رشد إلى فهم أرسطو ثم تفنى بعد بلوغ هذه الغاية). لا يختلف موقف المستشرق دي بور عن موقف رينان، إنهما الشيء نفسه؛ لأن الانطلاق من الجزئي لدحض الكلي كان هو هدفهما، فنكبة ابن رشد كانت وراء السخط الذي حل بالفلاسفة. فكيف يمكن اختصار تاريخ الفلسفة في الإسلام في معرفة أرسطو وتنتهي؟ وما المقصود بكلمة فهم أرسطو؟ وأين هو اجتهاد هؤلاء الفلاسفة الذي جعل الغرب يتتلمذ عليهم؟ وإلا لماذا كل هذا العناء الذي يبذله المستشرق من أجل معرفة فلسفة الفيلسوف؟
فالإجابة لا يمكن أن تأتي إلا من المستشرق هنري كوربان الذي أعلن عن مكر التاريخ في الاستشراق الفلسفي الذي يحيل إلى نسخة من الجبس في تاريخ الفلسفة، باعتباره تاريخاً للبحث في الإشكالات الفلسفية، قبل أن يكون مجموعة من المذاهب وسيرة للفلاسفة. وبناء على ذلك لا بد من الاستغراب من كلام المستشرق كوربان حين قال: (إنه بتشييع جنازة ابن رشد قام العالم العربي بتشييع جنازة الفلسفة).
مهما تكن هذه الحقيقة المزيفة تشهد بمكر التاريخ كما كتبه الاستشراق الذي تناول تاريخ الفلسفة العربية؛ فإن وضع العقل في التاريخ يبدأ من تأسيس جدل الوعي التاريخي العربي انطلاقاً من تفكيك هفوات وأخطاء الدراسات الاستشراقية ووضعها موضع تساؤل من أجل كتابة تاريخ جديد للفلسفة العربية يبدأ من حلقة الكندي التي قال عنها ابن النديم في الفهرست: (فالبترجمة أمكن للقراء العرب معرفة الفلسفة، وبفضل ابن البطريق ويحيى بن عدي وبشر متى تأسس بيت الحكمة)، وظهر الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وابن خلدون، فأين هو هذا التاريخ في الدراسات الرشدية؟ هل تم نسيانه، أم ممارسة المحو الأيديولوجي عليه؟
نتساءل: هل كانت الفلسفة هي التي تهم الاستشراق أم الإسلام؟ وما هو رأي بعض الرشديين العرب؟
بإمكاننا أن نسترجع ابن رشد من هذه الغربة في فضاءات الاستشراق بواسطة الدراسات الرشدية العربية التي دشنها رواد النهضة في مصر، واستمرت عند المفكر المغربي محمد عابد الجابري والمفكر الجزائري محمد أركون؛ لأن مشروعهما كان يهدف إلى تحرير الوعي التاريخي العربي من النظرة الاستشراقية. وقد كان ابن رشد مناسبة لتدشين مرحلة جديدة في قراءة علمية التراث، ونقد القراءة الأيديولوجية التي تركها الاستشراق، باعتباره رؤية غربية متمركزة للعرب كما قال إدوارد سعيد، صاحب كتاب الاستشراق.
يسعى محمد عابد الجابري إلى تقديم (مشروع قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد)، فيما يخص العلاقة بين الحكمة والشريعة، ولا يمكن استيعاب مقاصد هذه القراءة إلا في إطارها العام الذي حاول المفكر رسم معالمه في مدخل عام من كتابه نحن والتراث، أفرده للحديث عن المناهج السائدة في دراسة التراث الإسلامي، لاسيما وأن محمد عابد الجابري يرى أن الاهتمام بابن رشد لا بد أن يكون عبر الاهتمام بالتراث بصفة عامة، لأن الأبحاث التي يضمها هذا الكتاب رغم تعددها واختلافها، تصدر عن منهج واحد، مما يجعلها قراءة لا قراءات.
هذا وقد ذهب الجابري إلى أن غايته من وراء هذه القراءة الجديدة التي يسعى إلى القيام بها هي تجاوز ثلاثة أصناف من القراءة التي كانت سائدة في الفكر العربي المعاصر؛ أولها القراءة السلفية التي كانت ترفع شعار الأصالة، والتمسك بالماضي من أجل الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، ولذلك فإن هذه القراءة التي قدمها التيار السلفي كانت: (قراءة لا تاريخية، وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى عن نوع واحد من فهم التراث هو: الفهم التراثي للتراث. التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه لأنها: التراث يكرر نفسه). أما القراءة الثانية، فهي في نظره عبارة عن (سلفية استشراقية)، إنها بعبارة الجابري (سلفية جديدة)، تستمد جذورها من الفكر الاستشراقي حيث نجدها: تدعي أن ما يهمها هو فقط الفهم والمعرفة، وأنها تأخذ من المستشرقين منهجهم (العلمي) وتترك أيديولوجيتهم، ولكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع المنهج، وهل يمكن الفصل بينهما؟ أما القراءة الثالثة فهي ما يسميه الجابري بالقراءة الماركسية للتراث؛ إذ أن الفكر اليساري العربي المعاصر يتبنى المنهج المادي الذي بلوره ماركس، ويحاول تطبيقه في قراءته للتراث الإسلامي، ولكنه: لا يتبنى -في تقديرنا- المنهج الجدلي لـ(التطبيق)، بل يتبناه كـ(منهج مطبق). وهكذا فالتراث العربي الإسلامي يجب أن يكون انعكاساً لصراع الطبقي من جهة، وميداناً لصراع (المادية والمثالية) من جهة أخرى، ومن ثم تصبح مهمة القراءة التي يقدمها الفكر اليساري العربي للتراث في الأخير إلى (سلفية ماركسية)، لأن هدفها كان هو (البرهنة على صحة المنهج المطبق)، (لا تطبيق المنهج).
هكذا يرفض الجابري هذه القراءات السلفية للتراث؛ لأنها لا تاريخية، تمهيداً للبديل الذي يقترحه، أو القراءة الجديدة التي يدافع عنها بصدد التراث الفلسفي الإسلامي بصفة عامة، وفلسفة ابن رشد بصفة خاصة. ولا يتردد في الإفصاح عن هوية القراءة التي يسميها بـ(القراءة الأيديولوجية) للتراث الفلسفي الإسلامي، وبخاصة في كتابه نحن والتراث، ويبني اختياره هذا على أن التحليل التاريخي سيظل ناقصاً في نظره ما لم يسعفه الطرح الأيديولوجي، أي لا بد من الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية التي أداها فكر ما. وتأسيساً على هذا الاعتبار لا بد من التمييز من أجل ربط هذه الفلسفة بالمجتمع والتاريخ؛ لأنه إذا تم الاقتصار على النظر إلى هذه الفلسفة من زاوية محتواها المعرفي-العلمي والميتافيزيقي؛ (فنجدها عبارة عن آراء وأقاويل مكرورة لا تختلف إلا في طريقة العرض ودرجة الإيجاز أو التركيز، والنتيجة هي الحكم عليها بالعقم، صرحنا بذلك أم لم نصرح. أما إذا نظرنا إليها من زاوية المضامين الأيديولوجية التي حملتها؛ فإننا نجد أنفسنا إزاء فكر متحرك أمام وعي متموج مشغول بإشكاليته، زاخر بتناقضاته). يتعلق الأمر إذن بقراءة جديدة يحرص صاحبها على النظر إلى الفلسفة الإسلامية انطلاقاً من مضمونها الأيديولوجي، وذلك أن القراءات السلفية الثلاث حصرت مهمتها في النظر إلى هذه الفلسفة من خلال مضمونها المعرفي فحسب، وهذا ما جعلها تتسم بتلك النقائص التي سبق للكاتب أن أعلن عنها، بل إن حصر مهمتها في المادة المعرفية هو الذي جعلها تنظر إلى الفلسفة الإسلامية بمثابة تكرار للفلسفة اليونانية، على الرغم من أن القراءة الماركسية للتراث كانت هي الأخرى قراءة أيديولوجية، بيد أن الجابري ينفي عنها هذه الخاصة.
والملاحظ أن الجابري، وإن كان يتفق مع محمد أركون في نقده للمناهج التقليدية في الأدبيات الرشدية الكلاسيكية؛ فإنه يختلف معه في البديل الذي يقترحه؛ لأنه إذا كان أركون يخلص إلى القول إن الخطاب الرشدي هو خطاب إصلاحي في ماهيته؛ فإن الجابري يحاول أن يفصح عن المضمون الأيديولوجي للفكر الرشدي في مقارنته بالفلسفة المشرقية، والتي يمثلها ابن سينا على وجه الخصوص. ولذلك نجد صاحب كتاب نحن والتراث يراهن في البداية على الاختلاف الحاصل بين الخطاب الفلسفي الرشدي والخطاب الفلسفي السينوي.
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا كان مؤرخ الأيديولوجيات يتكلم وهو يشعر بانتمائه لعائلة (مقدسة أم لا)؛ فإن مؤرخ الفلسفة وحيد مع الواحد. وبلغة دولوز: إن مؤرخ الأديولوجيات معمر يستقر، أما مؤرخ الفلسفة فهو رحالة لا وطن له. لكن كيف يكون ذلك ممكناً؟ وبعبارة أخرى: هل استطاع الجابري أن يحقق هدف مشروعه في المنهج أم في الموضوع؟
من أجل القراءة الأيديولوجية لمفهوم القطيعة الإبستيمولوجية، قام الجابري بعرض شامل لخصائص ومكونات المنهج النظري عند فلاسفة المشرق العربي، الذي يعتبره منهجاً غير برهاني، ويعتمد في ماهيته على طريقة المتكلمين في الاستدلال على المطالب الفلسفية. لقد انطلق من نقد ابن رشد لابن سينا والغزالي ليعمم هذا النقد على الفكر النظري في المشرق الإسلامي. فالتركيز على (استدلال الشاهد على الغائب) باعتبار أن فيلسوف الغرب الإسلامي كان يرفضه بشدة، ولذلك حاول تمحيص هذا الاستدلال وتفكيك بنيته المنطقية. فقد كان ابن رشد في رأيه يعتبره استدلالاً غير صحيح، لأنه يجمع بين عالمين مختلفين تماماً: عالم ما بعد الطبيعة وعالم الطبيعة، بيد أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يستقيم في نظر ابن رشد إلا حينما تكون طبيعة الشاهد والغائب واحدة. إن صاحب نحن والتراث تبنى هذا الموقف الرشدي، ويحاول توسيع دائرة هذا النقد ليشمل الفكر النظري في المشرق العربي. ذلك أن غايته هي التمييز بين عقلانية الغرب الإسلامي وعقلانية المشرق العربي.
هكذا يخلص الجابري إلى الحديث عن بنية الفكر النظري في المشرق الإسلامي، حيث يقوم بإحصاء المفاهيم الأساسية في هذا الفكر. من بين هذه المفاهيم نجد: الحدوث والقدم والنهاية واللانهاية والممكن والواجب والفيض والعلم الإلهي، بيد أن الجابري سيغير رؤيته لهذا التراث في كتابه نقد العقل العربي، وكتاب ابن رشد سيرة وفكر. ونظراً لإعجابه بابن رشد، سقط ضحية انبهار باللحظة الموحدية، هكذا ارتبط بالتاريخ ونسيان الفلسفة. وربما يكون مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية هو الدافع إلى هذا النسيان للوعي التاريخي وتغييره بابن رشد.

ذو صلة