وأنا ما زلت طفلاً أستلذ السمع لحكاوي التاريخ من فِيْهِ جدتي، فإذا بإسماعيل بن مكي يخترق قلبي دون إذن! (يا ولدي بعد أن صلى إسماعيل بالناس وأبكاهم بحلاوة تلاوته لآيات الله أقبل عليهم مغنياً فأبكاهم مجدداً من فرط عذوبة وجمال عزفه على أوتار الربابة!!).
ومن تلك اللحظة وأنا تائهٌ أبحث عن إسماعيل في المسجد، بعد أن انتظرت إلى ما بعد الباقيات الصالحات أتفرس الوجوه لعلّي ألقاه ومن ثم نادى لسان حالي جموع المصلين، أفيكم عازف الربابة إسماعيل؟ وارتجفتُ من هول ردهم وهم يزمجرون (يا زنديق إن لم تتب سوف نعلقك على حبال المشانق وننثر إهابك!). يا قومي لقد صليتُ معكم الظهر حاضراً في أول المغرب! والذين شهدوا الفجر أمَّهم إسماعيل ومن ثم دندن لهم!! فخرجت من عندهم خائفاً أترقب! ومن ثم ذهبت وقد غاب الشفق لسمار النيل وندمائه وسألت عازف الجيتار أصليت بالناس العشاء الآخرة هاهنا يا إسماعيل؟ فقهقه السُمَّار ضاحكين وهم يقولون أدرويشُ أنت؟ أيصلي السُمَّار؟!
وهكذا استمر الحال بي باحثاً في أندية الفن ومقلباً لكتب التاريخ من غير فائدة، وهأنذا أطوي صفحات الأديم بحثاً عنه، وفي كل مرة أرجع خائباً والعبرات تخنقني وبعد أن أضناني الترحال بحثاً ناديت جدتي: يا جدتي هل كان إسماعيل أسطورة من نسج خيالك الخصب بالحكاوي؟ أم عازفاً شنقوه على أبواب المساجد؟ أم عابداً أغرقه الندمان بعد أن أسقوه خمراً؟!
فأطرقت جدتي ملياً ثم واصلت في حكيها: إسماعيلُ يا ولدي قصة وغصة، فكل المساجد والنوادي كانت تعج بإسماعيل. فأتى العدو ليسود على ديار الأجداد بسنابك خيله، والطبالون يتغنون بعدله مقابل دريهمات ينثرها لهم! فإذا بحوافر فرس إسماعيل تدك الأرض وترفض الاستسلام، يقاتلهم نهاراً ويُقْرِيهم ليلاً حتى تلاشى مقسماً ما بين المساجد والنوادي والتلال ومنذ ذلك اليوم بعض إسماعيل يُكفِّر بعضه وهذا يسخر من ذاك.
فقلت لها يا جدتي بالله عليك كيف نعيد إسماعيل؟
فقالت: يا ولدي لئن عاد إسماعيل هل ستعود الأذن التي تصغي لإسماعيل ولِلَحنِه تحِنُ؟!
وهل سوف نُرِجِع القلوب التي تخبت لتلاوته وتذرف الدمع في المحراب؟ الآن يا ولدي نحن عالة على عالم أصبحنا فيه مجرد مستهلكين لكل شيء حتى اللسان ما عاد ذاك لسان العُرب الذي نعرفه فبالله عليك ياولدي إن متنا كلنا اليوم هل سيخسر العالم غير سوق تباع فيه المنتجات الرديئة؟ أظن أن تجار السلاح وحدهم من سيحزن علينا..!
يا بني إن إسماعيل كان فوق ذاك شاعراً ويدرس بعد الفجر علم النجوم، وتصرف الأوقافُ على ملابسِ طلابه ومعيشتهم!
ولئن وُجد إسماعيل اليوم فسوف يشنق بتهمة الهرطقة أو يُضحك عليه بتهمة التخلف!
ولكن يا جدتي أنا مُصِرُّ على أن ألقاه فما السبيل؟
قالت جدتي: أولاً لا تبحث عنه يا بني في كتب نقلها الطبالون عن أسيادهم وهم بها معجبون، فالتاريخ يا بني دوماً يكتبه كما يقال المنتصرون، ستجدون يا بني إسماعيل بعد أن تتذوقوا طعم الاستقلالية، وتستقوا من أمهات الكتب فهي تزيل الظمأ للمعرفة، وحين تكونون معتبرين لا مقلدين، وحين تملؤون قلوبكم بالتسامح والحب فإن إسماعيل بدين الحب كان يدين!
وحينها قد تكون أنت إسماعيل أو يكون (شرحبيل أحمد، أو كاظم الساهر، أو محمد عبده) إمام الجمعة وخطيبها!
ويلتئم جسد إسماعيل ويتعافى من جرح السنين يا ولدي.
ومن ذلك اليوم وأنا أبحث عن تاريخنا المسروق وكأنني في مهمة مقدسة لإعادة كتابته، وبعد عدة محاولات في التنقيب والاطلاع استفزني ذاك التحقيب الذي جعل من أحداث التاريخ الأوروبي أحداثاً كونية تمثل طوراً عظيماً من أطوار التاريخ الكوني (لا الأوروبي وحسب) فالحرب الأوروبية الأولى صارت في عقليتنا هي الحرب العالمية الأولى وكذا الثانية. ولإعادة كتابة التاريخ لابد من تحقيب يسهل دراسة التاريخ من خلال بدايات لكل حقبة ونهاية يشكلان نقاطاً مهمة في تاريخ المنطقة فظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية وسقوط بغداد وفتح القسطنطينية هي أحداث لها أهميتها في تاريخ المنطقة ومن المفترض أن يتم تحقيب التاريخ منها كنقاط بداية ونهاية لأي حقبة تاريخية.
وقد نجد عوائق أخرى تعيق كتابة تاريخ المنطقة الآن ومن أهمها على الإطلاق الدولة القُطرية التي دفعت الكثير من الباحثين لأن يكونوا حذرين أكثر مما يلزم في تجاهل كثير من الأحداث خشية إثارة هذه الدولة أو تلك مما شكل عائقاً أمام حرية الباحث والتي هي النقطة الأهم في أي بحث وكذلك محاولة كثير من الأنظمة أدلجة التاريخ وسعيها للتضييق على هوية الأمة على حساب إبراز الخصوصية القطرية الضيقة.
فالآن نحن في حاجة ماسة لمؤسسات مستقلة ذات تمويل ذاتي تتفق أولاً على الأطوار العظمى لتاريخ المنطقة ومن ثم تعيد كتابة تاريخنا بمنهجية شاملة لمجتمعنا، وتعيد إبراز التاريخ في أبعاده (السياسية - الاجتماعية - الاقتصادية - الجغرافية - المادية ...إلخ) بعيداً عن الاستعلاء الاستعماري الذي قطع التطور الطبيعي لهذه الشعوب محاولاً غرس حضارة تختلف عن طبيعتنا، ونشأت في ظرف موضوعي لا علاقة له بمجتمعاتنا ونجد هذا الاستعلاء واضحاً في تاريخنا في السودان وبقية الدول التي استعمرت فيما مضى، وتاريخها الذي دونه المستعمرون الذين أدركوا أهمية كتابة التاريخ لتبرير احتلالهم للبلدان وكأنهم جاؤوا في ظرف موضوعي وكرد فعل لاضطهاد تعرضت له هذه الشعوب من حكامها ومن ثم سياستهم لصنع كيانات مستقلة عن بعضها البعض موظفين كتابة التاريخ التي فعلت من ورائهم أشد ما فعلوه هم في وجودهم ومن ثم كانت النكبة الأخرى عندما حاول كثير من بني جلدتنا توظيف التاريخ توظيفاً أيديولوجياً من خلال تفسير يصادف ما في هوى جنونهم الأيديولوجي، وفي كثير من الأحيان اختزال حقبة تاريخية مهمة في صورة شخص واحد يدور معه التاريخ حيثما دار!
وقد لا ننكر كثيراً من المحاولات الجادة لإعادة كتابة التاريخ رغم ما فيها من قصور واضح وأحياناً يغلب عليها التحيز للدولة القطرية أو النظرة الأيديولوجية باستثناء علامات مضئية كابن خلدون الذي ركز على الجانب الاجتماعي للتاريخ.