مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

جدل لا ينتهي.. من يكتب؟ ومن يتحكم في الكتابة؟

تبقى الذاكرة وما تحمله من أحداث وتاريخ ومواقف واحدة من الدوافع والأسس التي تبني على ضوئها الأمم ومنها الأمة العربية خارطة طريق لها، ترسم بها درب المستقبل، لذلك يشكل التاريخ وإعادة كتابته أهمية كبرى عند العرب إلا أنّ الإشكال يمس جوهر كتابته التي بقيت رهينة كتّاب مستشرقين (غربيين) أو محليين (عرب) انغمس بعضهم في الذاتية أو الأيديولوجية رغم أنّ بعضهم استفاد من الغرب وجعل ما أرّخوا له نهجاً ساروا عليه.
إشكالية كتابة وإعادة التاريخ أو التأريخ كما يسمى عند المختصين، قضية محل نقاش عميق، لا يزال محل اختلاف إلى اليوم، رغم وجود كتابات بارزة لأعلام ومفكرين عرب ومستشرقين، سلطت الضوء على تاريخ وحضارة العرب وتراثهم وثقافاتهم وتقاليدهم وعاداتهم التي سعى الغرب لطمسها من خلال الحملات التغريبية والحروب والاستعمار، وقد تعاقبت على الجزائر تحديداً حضارات عديدة أثرت فيها على جميع النواحي، وآخرها كانت فرنسا الاستعمارية التي عمرت 130 عاماً (1830-1962) وسعت لطمس الهوية الجزائرية العربية الإسلامية.
الجزائر.. تاريخ عميق بامتداد عربي؟
وفي ظل احتكار فرنسا لجزء مهم من أرشيف التاريخ الجزائري وتبعثر جزء منه في دول مختلفة خصوصاً دول أوروبا الشرقية (الاتحاد السوفييتي سابقاً) التي وثق مصوروها الثورة التحريرية (1954-1962)، غالباً ما تطرح لقاءات تقام ضمن فعاليات ثقافية إشكالية كتابة التاريخ التي تعدّ قضية شائكة في الجزائر، اعتماداً على أسئلة تتمحور حول جدوى التأريخ ومدى توثيقه بدقة؟ ومدى تأثيره على الأجيال الجديدة وأهميته لهم ومدى تغييبه وغيرها من التساؤلات التي تثار وسط غياب مناهج علمية ومدارس خاصة للكتابة التاريخية باستثناء ما يقوم به ثلة من الباحثين، الأمر الذي يعد مجرد جهود فردية غير كافية وبحاجة إلى دعم.
تاريخ الجزائر الذي لديه امتداد عميق في التاريخ العربي، سطره بأحرف من ذهب أعلام ومفكرون ومؤرخون جزائريون وعرب وحتى مستشرقون انبهروا بحضارة لؤلؤة المتوسط (الجزائر)، فأرّخوا في مجموعة من الأعمال الشهيرة لحضارة وثقافة وتقاليد البلاد وهويتها العربية والإسلامية بعيداً عن الأيديولوجية والذاتية منهم شيخ المؤرخين أبو القاسم سعدالله (1930-2013)، عبدالرحمن الجيلالي (1908-2010)، حمدي بن عيسى أبو اليقظان، أبو راس الناصر (1733-1823)، أحمد المبارك العطار (1790-1871)، أحمد المقري التلمساني (1578-1632)، مبارك الميلي (1896-1945)، محمد أركون (1928-2010) وغيرهم من المفكرين والمؤرخين الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية كتابة التاريخ والغوص في قضايا الفكر الإسلامي والعربي وإشكاليات الحضارة... إلخ.
التأريخ بقلم الآخر.. أي تأثير وأيّة حقيقة؟
في السياق سلط مستشرقو (الغرب) من رحالة وفنانين ورسامين التراث الثري لهذا البلد عبر لوحات فنية ومجسمات ورسومات موثقة.
في كتابه (تلمسان) يقول المستشرق الفرنسي جورج مارسيه عن زيارته إلى الجزائر عام 1902 من بوابة تلمسان (غربي البلاد) عاصمة الزيانيين إنّه وجد مجتمعاً مسلماً يعتز بماضيه المجيد.
وفي مؤلفات مختلفة للمؤرخ الفرنسي شارل روبير نقل بأمانة وقائع تاريخية بالجزائر إبّان الاستعمار، فذكرت مراجع تاريخية أنّه عمل على محو النظرة الفرنسية للجزائر، كما جاء في مؤلفه (تاريخ الجزائر المعاصرة) (1964).
واهتم المؤرخ الفرنسي شارل فيرو الذي زار الجزائر وعمره 16 ربيعاً، وأتقن اللغة العربية بدراسة المظاهر الاجتماعية والتقاليد والعادات بالجزائر، فوثق ما عاشه وشاهده في كتاب عنوانه (تاريخ جيجلي).
على غرار المستشرقين الفرنسيين الذين أرّخوا للجزائر، بدا الحضور الجزائري عند المستشرقين الروس قوياً، بحيث يعيد الكاتب الجزائري عبدالعزيز بوباكير هذه التجليات في عمله الجديد (2018) المعنون بـ(الجزائر في الاستشراق الروسي).
واستعرض الكاتب اهتمام الروس بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبدالقادر بن محي الدين، بالتطرق إلى عدد المؤلفات التي تناولت هذه الشخصية المعروفة منذ 1847 إلى غاية صدور سلسلة (حياة المشاهير) في العام 1968 التي أفردت له أكثر من 50 صورة ووثيقة وسردت طفولته وأبرز محطات حياته ومقاومته.
وفي قسم خاص ركز بوباكير على المستشرق روبرت لاند الذي ألّف 19 كتاباً وكيف اهتم بتاريخ وحضارة الجزائر وشعبها. كما استعاد في قسم ثانٍ (الرحلات الروسية إلى الجزائر).
وقال: (وبخلاف الرحلات الفرنسية أو الألمانية ما تزال الرحلات الروسية إلى الجزائر مجهولة والكثير منها لم يغادر مكتبتي موسكو وجامعة سانت بطرسبورغ).
وذكر بوباكير بعض الرحلات مثل (رحلة السائح المجهول) الذي زار عنابة في شرق البلاد في العام 1674.
تعددت الكتابة وإعادة كتابة تاريخ الجزائر من طرف كتّاب ومؤخرين محليين وآخرين مستشرقين، لا يسع الحيز لذكرهم جميعاً في ظل تنوع مجال التأريخ الذي مس الشق الثقافي والاجتماعي والهوياتي والحضاري والإسلامي والعمراني والتاريخي (الثوري).
فوزي سعدالله: التاريخ مهم لنا كعرب
ولفك شيفرة هذه المعادلة تحدث (للمجلة العربية) المؤرخ الجزائري فوزي سعدالله، حيث أوضح أن التاريخ شديد الأهمية بالنسبة لنا كعرب أكثر من غيرنا من الأمم التي سَبقتنا على درب التقدم بمختلف مستوياته وسبقتنا في استخراج الكنوز من ذاكرتها خلال مسيراتها.
وأكدّ أنّ الأهمية تكمن أيضاً في كون تجاربنا خلال المائة إلى مائتي عام الأخيرة، على سبيل المثال، على الرغم من كوْنها كثيرة وكبيرة ومُكْلِفة ومؤلِمة لم نستفِد منها كثيراً كَدُوَلٍ وكَمُجْتَمَعاتٍ.
وأضاف (هذا يعني أن تعاطينا مع تاريخنا الحديث، والقديم أيضاً، غير سليم وغير فعَّال حتى لا نقول غير سَوِيّ. التاريخ ليس حكايات وأحاجي للأطفال ولا فقط للتغني بالأمجاد، التاريخ عِبارة عن مَخْبَر مفتوح لِنتعلّم منه ونكتَشِف ذواتنا وأخطاءَنا وإيجابياتنا حتى نستنير بها في الحاضر ونرْسم على ضوئِها آفاق المستقبل).
وأشار إلى أنّه (بسبب عدم التعاطي الجيد مع تاريخنا، أصبح اليوم التاريخ العربي والجزائري القديم مصدر متاعب خطيرة على وجودنا).
وبرر ذلك بقوله: (لأننا تركنا غيرنا يتلاعبون به حسب مصالحهم، وبقينا بشكل عام لا نعرف منه، من شدة الإهمال واللاجِدِّية، إلا ما يقوله لنا الغير ودون أن يكون بالضرورة موضوعياً).
وأضاف: (وهذا ما يحدث مع الأبعاد القديمة في هويتنا من المحيط إلى الخليج بشأن الماضي الفينيقي/الكنعاني والفرعوني واليوناني والروماني والبيزنطي والإفريقي والبربري/الأمازيغي والسّرياني والآشوري/البابلي والفارسي والتراث الروحي الوثني واليهودي والمسيحي وحتى التراث الروحي المرتبط ببعض المذاهب والفِرق الإسلامية التي انقرض بعضها وما زال البعض الآخر قائماً في مستويات محدودة...).
لماذا تراجعت كتابة التاريخ العربي.. الجزائرنموذجاً؟
وأرجع بخصوص غياب المؤسسات البحثية لتحقيق منجز إعادة كتابة التاريخ العربي وسط نجاح الأفراد ولو جزئياً، إلى أنّ هذه المؤسسات بدأت بانطلاقة جيدة نسبياً في منتصف القرن 20م ومع حركة الاستقلالات عن الاستعمار، لكنها تراجعت ثم انتكستْ وانكسرت بشكل عام ولم تتمكن من الاستمرارية لأسباب معقدة ومتعددة مرتبطة بالفشل العام الذي أصاب مشاريع النهضة والبناء خلال النصف الثاني من القرن 20م.
ومن بين ما منع تحقيق إعادة قراءة ماضينا بكتابة التاريخ بمنظور علمي مجموعة من الأسباب بعضُها مرتبط بنقص الخبرة والكفاءة لحداثة التجربة في الكتابة التاريخية بمنطق البناء الوطني التي تعود بدورها لحداثة الدولة الوطنية في العالم العربي بحسب سعدالله.
وقال: (وهي الدولة التي جاءت بشكل عام كنتيجة للاستقلالات عن الاستعمار أو للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية وللتجاذبات الفئوية والقبلية في العديد من الحالات التي لم تُيسِّر عملية بناء الدولة ولا يَسَّرتْ بلورة تاريخ وطني واضح التقاسيم والمعالم والمقاصد، لذلك نحتار اليوم في كيفية تصنيف وجود بعض الحضارات والأعراق والمعتقدات عندنا في الجزائر كما في دول أخرى شقيقة).
وفي الحالة الجزائرية أكدّ أنّ هناك تعاطياً يبدو مَرَضياً مع الماضي العثماني الذي لا يعرف الجزائريون عنه سوى أن الأخوين عروج وخير الدين أنقذوا البلاد من الأطماع الإمبريالية الإسبانية في بداية القرن 16م إثر سقوط مملكة غرناطة الإسلامية في إسبانيا (حالياً) من جهة، ومن جهة أخرى أن التوتر في العلاقات مع فرنسا انتهى إلى حادثة المروحة والحصار البحري على الجزائر ابتداءً من عام 1827م لينتهي بسقوط الدولة بيد الاحتلال عام 1830م.
وتساءل المتحدث: لكن ماذا عمّا حدث بين دخول الأخوين العثمانيين البلاد في القرن 16م ووقوع البلاد بيد الاحتلال؟
(هناك 3 قرون لا يَعرف الناسُ عنها شيئاً، بِمَن فيهم أساتذة جامعات وأطباء ومحامون وصحفيون وأدباء وسياسيون وغيرهم مِمَّن يُوصَفون بالنُّخبة، بل لا يَعرِفون حتى أسماء الحُكَّام من باشَوَات ودَايَات وآغَوَات وبَايَات، ولا يَعرفون أهمّ محطات وأحداث هذه الحقبة من تاريخنا، ولم يسمعوا عن أسْياد البِحار الجزائريين الذين صنعوا تاريخ الحوض الغربي للبحر المتوسط على مدى 300 عام، وهم كُثر، سوى باسْمٍ أو اثنيْن كالرَايَسْ حَمِّيدُو بن علي أو مُراد رَايَسْ... هذه مشكلة كبيرة وخطيرة، أصبحت منذ عقود ورقةَ مناورات يتلاعب بها البعض داخل وخارج البلاد لأغراض سياسية وإيديولوجية وجيوسياسية لتفكيك الانسجام بين الجزائريين).
الأيديولوجيا.. غياب المناهج بعبع التأريخ
وفي السياق اعتبر المتحدث أنّ الأيديولوجيا ساهمت في تعطيل محاولات إعادة كتابة التاريخ القديم، بصورة معتبرة وتتحمل مسؤولية كبيرة، والأخطر بحسب تعبيره أنها أصبحت تعي حجم الأضرار الناجمة عن تصرفاتها، لكن مصالحها الضيقة تتغلَّب عادةً على حسّها الوطني ومنطق بناء الدولة.
وحول مناهج وتفسير التاريخ الحديثة وما يمكن أن تضفيه أشار إلى أنّ التأسيس للتعاطي الموضوعي مع التاريخ، بعيداً عن التوظيف السياسي، بمنطق تعزيز مناعة وصلابة المجتمع من أجل بناء الدولة وليس إضعافها وتفكيكها وبالاستفادة مما يُفيد فيه وترك ما لا حاجة به دون إهماله وتركه للغير يتلاعب به ضدّنا.
ولم يخف المتحدث أنّه إلى جانب المبادرات اللامعة الفردية المُتفرِّقة غير المنظَّمة والعفوية في جلِّها، توجد جهود معتبرة قامت بها مراكز الدراسات المتخصصة، عادةً تتكفل السلطات برعايتها، لكنها لم تستمر طويلاً.
وتابع (ربما هذا ما أدى إلى عدم حصول التراكم المعرفي والبحثي الضروري، ولا توفر الوقت الكافي، لإنضاج هذه التجربة وارتقائها إلى مستوى الاستقلالية الفكرية وإعادة النظر في الصياغة الاستشراقية لماضي العرب).
وأكدّ في السياق أنّ العرب استفادوا كثيراً من تجارب أسلافهم في كتابة وتفسير التاريخ، ولكن يقول: (الثمار ما زالت دون المطلوب بشكل عام، استفادوا بالمرور من مرحلة صياغة التاريخ كأداة إشادة بالأمجاد لإعطاء الثقة في النفوس وتحريك الهِمم في القرن 19م وبداية القرن القرن 20م إلى تاريخ يبحث عن الحقائق لِفهم الأخطاء والنجاحات وتقييم التجارب الماضية، ولو بنكهات إيديولوجية/سياسية).
وأضاف: (والآن أعتقد أننا بصدد الانتقال إلى مستوى أعلى والدليل أننا أصبحنا نعي أن ما قمنا به في السابق غير كافٍ).
واستطرد قائلاً: (الأسلاف قاموا بما عليهم وأكثر، لا سيما الذين عاشوا في فترات ازدهار الثقافة والحضارة العربية. الانحطاط والأفول الحضاري انعكس بتراجع في التأريخ ونوعيته).
وشدد على أنّ الجهود المبذولة هي بذور مرحلة قادمة وقد بدأت بعض بوادرها في الظهور من خلال بعض الأعمال التي تُنجز وفق مناهج جديدة راقية في مستواها العلمي وبمقاييس دولية.
وأشاد المتحدث بأعمال المؤرخين التونسيين عبدالجليل التميمي ونسبياً هشام جعيط والمؤرخ المغربي محمد رزوق والجزائرييْن المتخصصيْن في تاريخ العمران وفن المعمار مصطفى أحمد بن حموش وسامية شرقي واللبناني المتخصص في تاريخ العلوم العربية والإسلامية جورج صليبا وغيرهم.

ذو صلة