مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ريال فلسطين وسمكة كبيرة

سمعت اسم فلسطين كثيراً وكثيراً، من أبي وأمي والجيران والأصدقاء والراديو الصغير الذي كان يسمع فيه أبي صوت عوض الدوخي ومحمد أزويد، وفي الجمعة صوت القرآن الكريم، وأخبار الملك فيصل وخطابات عبدالناصر والعالم.
كنت في الصف الثاني الابتدائي، وكانت المدرسة تضم أساتذة من كل الدول العربية، لكن كان للمعلم الفلسطيني صوت مختلف ولون متجدد، وحضور قوي، كان صديقاً للجميع يتحدث كثيراً عن فلسطين في الصف، وأيضاً كان هو المسؤول في إذاعة المدرسة الصباحية تتحدث عن فلسطين، وعن الملك فيصل واهتمامه بفلسطين، أينما تولي فثمة حديث عن فلسطين.
في أحد الأيام جاء الأستاذ يوزع علينا ريال فلسطين، وهو عبارة عن كارت صغير مكتوب عليه ريال فلسطين، وكنا كل طالب يدفع مصروفه اليومي، البعض ريال والبعض الآخر ريالين وأحياناً يدفع بعض الطلبة نصف ريال أو يستأذن بعض الطلاب أن يأتي بالريال غداً.
وقبل أن يصل الأستاذ لي كنت أفكر أن مصروفي ريال وهو قيمة شوكولاتة (الباونتي) الذي أحب أن أشتريه يومياً، لدرجة أن أخي الأكبر شكاني لأمي لافتاً أني أدفع كامل المصروف (للباونتي) دون شراء ماء أو عصير أو زعتر، وبينما يتحدث المدرس قبل أن يوزع علينا الكروت عن فلسطين والاحتلال الإسرائيلي والأطفال والمخيمات والظلم المستمر مع مؤامرة من الغرب على رأسهم أمريكا وفرنسا وبريطانيا، كان حديثه بشكل سريع يترجم في مخيلتي صور المخيمات والأطفال والبؤس والفقر والصرخات، وبشكل أسرع رأيت الفنانة السورية منى واصف التي كانت تمثل دور المحامية في مسلسل (بأم عيني) وصل الأستاذ عندي ومد الكارت ومددت الريال وأنا أرى أمامي الشوكولاتة (الباونتي) المحشوة بالكوفرة الأبيض.
قضيت ذلك اليوم جائعاً جداً، وكنت أنتظر جرس انتهاء اليوم الدراسي حتى أرجع سريعاً إلى البيت.
وصلت البيت وأنا أصرخ: أماه أماه أماه أنا جائع.
غريب يا ولدي ليس بعادتك أن تصرخ هكذا (جائع.. جائع) ألا تنتظر إخوانك وأباك وأيضاً تكمل واجباتك المدرسية، ماذا حدث لك اليوم؟
اليوم يا أمي جاء لنا المدرس وتحدث عن فلسطين وعن ريال فلسطين وعلينا أن نتبرع بالمصروف اليومي لفلسطين، الأطفال، الخيام، الظلم، العوائل، ونساعد المجاهدين هناك الذين يدافعون بأنفسهم وأرواحهم وما يمتلكون عن أرض القدس ودفعت كل ما أملك.
ضحكت أمي وهي تقول: كل ما تملك ما شاء الله!! يعني ضحيت بقطعة الشوكولاتة (الباونتي)، ولكن من أجل أنك ضحيت بكل ما تملك الآن سوف أضع لك الطعام مع سمكة كبيرة لك هدية مني إليك إجلالاً لتضحيتك العظيمة، ومعاناتك الجوع والعطش وانتظار انتهاء اليوم الدراسي لتعود إلى البيت، وهو عمل عظيم.. انتظرني خمس دقائق.
يا ألله سمكة كبيرة بريال واحد، لوحدي ليس معي أحد من الذين يأكلون سريعاً وكثيراً، ولا أستطيع معهم أن أحصل على ذيل أو حتى رأس السمكة.
تفضل الغداء جاهز.. تحدثني أمي
أماه ما رأيك كل يوم أقدم مصروفي لفلسطين وتعطيني سمكة كبيرة.
ردت أمي: ولكن إلى متى ستدفع ريال فلسطين.

ذو صلة