مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

فصول مرصّعة بالدهشة!

ربيع..
حشد من الزهور الملوّنة كثياب الأطفال الزاهية أيام العيد، تتزيّن بها الحدائق والشرفات، وفي السماء نجوم متناثرة، وطيور مرحة، وشمس جديدة، .. وهناك ثمّة حزن ساكن قاب قوسين أو أدنى من النار، كفراشة تحوم حول حتفها، تبحث عن خلاص يُعْتِقُ روحها من الضعف ويطلقها في مدارات آمنة. تدور دورتها الأخيرة، تطير بين العرائش مُتْعَبة، لترشف آخر قطرة من ألسنة اللهب قبل أنْ تهوي، وتمضي إلى حلمها كالبرق، تُفتّش عن فضاء واسع لترقد بسلام.

شتاء..
تسير الغيوم إلى موعدها في السماء بسيقان رشيقة، تبحث عن أرض طيّبة لتحطّ عليها، وقد ضاق بها الفضاء.. فتهبط متثاقلة بأحمالها وترى من علٍ كائنات تتدافع بعنف وعلا ضجيجهم، فيزمجر الرعد مفسحاً لها المكان، ويشتعل البرق لتفريق الجموع، فتريق الغيوم ماءها لإنهاء الفوضى، ويهطل المطر على رؤوس الكائنات، فتعمّ السكينة، ويذهب الغضب جفاء، وتفرح الحقول فتتراقص الزهور، وتتثنّى الأشجار طرباً على أنغام المطر، ويخرج الناس من بيوتهم، والدواب من جحورها، ويفرح الجميع بمهرجان الطبيعة البهي، وليس سوى الطير راقدة في أعشاشها حزينة مذعورة، وقد تاقت لفضائها الأزرق الفسيح.

خريف..
الشمس تتربّص بالزهر والشجر، وتصطاد الطير والبشر، لتجلدهم بسياط أشعتها الحارقة بلا رحمة، والحقول لا تستسلم، فهي تصارع بلا هوادة لحماية خضرتها الزاهية. والكائنات تفرّ إلى مخابئها، وتبقى الأشجار وحيدة صامدةً تلملم أغصانها التي أنهكها الذبول، وتحتضن ثمارها الناضجة، وتخوض صراعاً مريراً، لتحفظ أسرار العاشقين، وأشعارهم العذبة، وحروف أسمائهم الأولى المنقوشة على جذوعها، وتجمع أحلامهم الباسقة قبل أنْ تشرق شمس جديدة، أو ريح عاتية تُفرّق بينهم.

حياة..
الراكضون نحو مساقط الفرح بشغف إذا ما فاحت الأرض بعبير الخصب، تَخْفُتُ أحلامهم، ويتهدّج غناؤهم كلما شحّ الهطول، وحين تلملم السماء غيماتها على عجل لتمضي بعيداً، وإذ يرون أشعة الشمس تتسلّل من خلف ستائر البياض المنثورة في الأفق، فتفرّ الغيوم من بطش أشعتها. أمّا أنا، فأجلس قرب النافذة أترقّب السكون قبل أن أفتحها قليلاً، فأشمّ رائحة الحياة التي ملأت الشوارع من جديد، فتأخذني الغواية إلى ذكريات مختلطة، وتشدّني الرغبة للسير في الشوارع النديّة لأنفض يأسي هناك، فأستجيب لصوت الطفولة في داخلي، وأخرج لألهو مع الصغار، ونتراشق بحبّات البَرَد حتى تلسعنا سياط الرياح الباردة، فأعود إلى غرفتي الدافئة لأحلم بأفراح جميلة تدوم إلى أجل بعيد.

صيف..
في هذا الوقت -تماماً- من كل عام، تهبط الشمس من عليائها لتبحث عن طرائدها الضعيفة، فتقترب من الناس، تتلصّص عليهم، لتعرف أخبارهم، وتفضح أسرارهم، وتعرف -أيضاً- متى يفرحون، وبِمَ يألمون، ومتى يخلدون إلى عجزهم؟ فتفرّقهم ثمّ تصطادهم واحداً بعد آخر. تحرق أشلاءهم وتنثر رمادها في فضاء المدينة، فتفوح رائحة موتهم في كلّ حي حتى يشعّ الخوف من قلوب الأحياء، فيبكون كالصغار ويلوذون بجحور الصمت كالعناكب والديدان، ومنهم مَنْ يمضي في غياهب النسيان إلى غير رجعة، وآخرون يردّون إلى أرذل العمر!

موت..
هذا الحاطب، يجول في شوارع المدينة بمنجله اللامع، ويندسّ بين الناس، ينتقي ضحاياه بهدوء، وعيناه تشعّ بوميض الانتقام المخيف! ويتحلّق الأطفال حوله ببراءة، يظنّونه (مهرّجاً) جاء ليطرد الملل الثقيل عن قلوبهم الصغيرة، ويُضحكهم في هذا الزمن الذي تظلّله الكآبة والأحزان الداكنة. وإذ يقترب الحاطب من الصغار، يسلّمونه رؤوسهم الناعمة ليمسح عليها بشهوة مرعبة، فيشعرون بلمسته القاسية المريبة.. ويتساءلون: تُرى مَنْ أرسل هذا الفرح البغيض إلينا، وماذا يريد منا؟
يختفي الحاطب خلف تلال المدينة تارة، أو يتلاشى في شفق سديمي ليس ببعيد كالذي نراه مرصّعاً بالنجوم المضيئة كل مساء، ويتربّص بضحاياه دون تمييز.. وتارة يظهر مُمسكاً بمنجله اللامع وهو يمشي متبجحاً بقسوته، وعلى كتفه لفافة بيضاء كالكفن، فيندسّ وسط الزحام، ويتدلّى على ظهره المقوّس كيس واسع يتّسع لرؤوس كثيرة.

ذو صلة