مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

(Hellbound).. من الويبتون إلى المنصات هل سينتهي العالم الذي نعرفه؟

ظلت السينما الكورية لقرابة عقدين من الزمن، تحقق النجاحات وتكتسب أراضي جديدة، في المهرجانات وأسواق العروض العالمية، وأصبح لها مريدون مخلصون من كافة أنحاء العالم في زمن قصير، إذا ما قورن بسينمات أخرى، أكثر عراقة ولم تحظ بنفس الجماهيرية والتقدير النقدي رفيع المستوى، وبلغت ذروة مجدها مع فوز فيلم Parasite بأكثر من 300 جائزة دولية، من بينها السفعة الذهبية مع تنويه خاص أنه حصل عليها بإجماع لجنة التحكيم وهو الأمر نادر الحدوث، إضافة إلى جائزة أوسكار أفضل فيلم وجوائز البافتا والجولدن وجلوب وغيرها، لحق بها نجاح المسلسلات الكورية أيضاً الذي تفجّر مع عرض مسلسل Squid Game، الذي تجاوز الوقوف عند الجوائز ونسب المشاهدة الأعلى، إلى مرحلة كونه تحول إلى ظاهرة عالمية بحق، ويمكن رصد ذلك من حجم مبيعات الألعاب والملابس والعروض الترفيهية المستوحاة منه عالمياً، وربما ذلك النجاح هو ما جعل مسلسل Hellbound لا يحظى بالجماهيرية التي يستحقها، رغم نجاحه النقدي الأكيد، حيث حصل على نسبة 97% على موقع الطماطم الفاسدة، هذا العمل لامس حدود الكمال ويستحق وقفة لتأمله.
مسلسل Hellbound مقتبس عن (ويبتون) باسم Hell، والويبتون هي قصص مصورة تنشر مباشرة على الإنترنت بشكل متسلسل، ولا يتم طباعتها مطلقاً في كتب أو مجلات، وويبتون Hell بالأساس قصة مصورة كورية (مانهوا) -المعادل الكوري لـ(المانجا) اليابانية- ويتميز الويبتون بكونه يُنشر بشكل عمودي طويل، بدلاً من صفحات متعددة، بحيث يسهل قراءتها على الهاتف الذكي أو الكمبيوتر، وفي الأغلب تكون رسوماتها ملونة، نُشرت أول ويبتون عام 2003 وكان معظم من يقدمها من الهواة، اكتسبت الويبتون شعبية متزايدة مع الوقت، وأصبح لها متابعون بالملايين، سواء في المواقع المدفوعة أو المجانية، حتى أن فناني المانهوا التقليديين قرروا نشر أعمالهم الجديدة كويبتون، ومع حركة ترجمة الويبتون إلى اللغات الأخرى وعلى رأسها الإنجليزية، نالت اهتماماً في الأسواق الغربية حتى أصبحت تنافس المانجا اليابانية، وأصبحت أكثر تنظيماً ولها تصنيف عُمري محدد، ويصل حجم مبيعات الويبتون حالياً إلى 368 مليون دولار أمريكي، وكان من الطبيعي أن يجذب نجاح الويبتون صُناع الأفلام والمسلسلات، وكان من أوائل الأفلام المقتبسة من الويبتون هو Tazza: The High Rollers الذي صدر عام 2006، ومع نجاح العمل بنسبة مشاهدة تجاوزت الـ100 مليون، تحول إلى سلسلة أفلام ثم مسلسل، ذلك النجاح أغرى صناع الدراما الكورية لاكتشاف أعمال الويبتون، اللافت للنظر أن الويبتون شكل أدبي يقدم حصراً على الإنترنت، وكثير من المسلسلات المقتبسة عنها تُعرض حصراً على المنصات الرقمية على الإنترنت، أي أنه أصبح هناك دورة اقتصادية كاملة تبدأ وتنتهي وتحقق أربحها من الإنترنت فقط، فهل هذا يعني نهاية دور النشر ودور العرض السينمائي والتليفزيون كما نعرفهم اليوم؟!
فكرة مسلسل Hellbound مثيرة للغاية، تخيل أن يظهر لشخص ما، وجه شبح عملاق من العدم، يخبره بموعد وفاته بالتاريخ والساعة، وأنه أيضاً سيذهب للجحيم، وهو ما يُطلق عليه (المرسوم)، وبعد طول انتظار عند اللحظة الحاسمة، يصل إلى ذلك الشخص ثلاثة كائنات عملاقة تتشابه مع الغوريلا من حيث التكوين العضلي، إلا أنها تبدو كائنات من عالم آخر، ينهال هؤلاء الثلاثة بالضرب عليه، ثم يكونون بأيديهم ما يشبه مثلث الطاقة التي تحرق ذلك الشخص وتحيله إلى هيكل عظمي محترق، وهو ما يطلق عليه (إظهار الهلاك)، الفكرة هنا أن تلك الحادثة تتحول إلى ظاهرة، ظاهرة تنال العديد من الأفراد، منهم من يهلكون بعد 30 ثانية، ومنهم من يهلكون بعد 20 عاماً، فكيف سيتم التعامل مع تلك الظاهرة؟ ذلك هو سؤال المسلسل الأساسي.
تبدأ الأحداث قبل أن نفهم كل ذلك، برجل يجلس في مقهى ويبدو على وجهه الخوف وهو ينظر إلى الساعة دون سبب، ثم فجأة ينقض عليه الثلاثة كائنات، يحاول الهرب إلى الشارع وبين السيارات، ولكنهم يسببون فوضى عارمة أثناء إمساكه، وينتهي الأمر بجثة متفحمة في الطريق العام، تتعامل الشرطة مع الأمر باعتبار ما حدث جريمة، يجب أن يتم التحقيق فيها، يصل الضابط المُكلّف بالقضية إلى مسرح الحدث، وتتابع الخطوط الدرامية بمنطق من الفاعل؟ وهل ما حدث حقيقي؟ هل يقف خلف كل ذلك تكنولوجيا جبارة غير مسبوقة؟ لا أحد من شخصيات العمل ولا المشاهد يفهم ما هي حقيقة الأمر بالفعل، وحده رجل غامض نكتشف أنه زعيم لطائفة دينية آخذة في التشكّل اسمها (الحقيقة الجديدة)، هو من يدعي معرفة حقيقة الأمر، وله فيديوهات مُسجّلة من سنوات طوال يُحذّر من اقتراب نهاية العالم، تتخذ الأحداث مساراً تصاعدياً مع وصول مرسوم جديد لسيدة بسيطة هي أم لطفلين، رد الفعل على مرسومها من كافة الأطراف هو محور ما يريد صناع العمل مناقشته.
أولاً يعرض زعيم الطائفة مبلغاً خرافياً من المال عليها لتأمين حياة ولديها، في مقابل أن يبث إظهار هلاكها على الهواء مباشرة، وبذلك هو يستثمر في مخاوف الناس من المجهول، للحصول على سلطة جبارة قد تضاهي السلطة السياسية لكوريا، ثانياً نجد رجال أعمال مجهولي الهوية هم من وراء تلك الأموال، تحالفوا مع صاحب السلطة الدينية الأبرز لمشاهدة الحدث في صفين من الكراسي الأمامية ليشاهدوا الواقعة بأفضل صورة ممكنة، وكأن هلاك شخص هو أمر مسلٍ بحد ذاته، ومن ناحية أخرى لتأمين مصالحهم التجارية في ظل وجود شخص يستطيع أن يحرك الملايين بحديثه، ثالثاً نجد الضابط والمحامية والروائي هم الوحيدون الذين حاولوا فهم ما يحدث وأصبح ثلاثتهم منبوذين من المجتمع، ليس مجرد نبذ مجتمعي ولكن تعرض ثلاثتهم لمحاولات اغتيال مرعبة، رابعاً هم جموع الناس الذين سجدوا أمام الظاهرة وسلّموا أنها شأن إلهي لا يجوز محاولة فهمه أو التأكد منه، ليس هذا فحسب، بل وسحق وقتل كل من يحاول التشكيك فيه، وهكذا ولدت من بينهم جماعة متعصبة (رأس السهم)، وهي الذراع المُسلّح لجماعة الحقيقة الجديدة التي تستخدمه لإسكات كل المشككين.
المفاجأة الأكبر على الإطلاق هي أن تلك الظاهرة ليست دينية بالضرورة، على الرغم من صبغتها الطقسية من مرسوم وهلاك وجحيم، لكن يتضح أنها ظاهرة طبيعية تماماً، نتأكد من ذلك من حدوثها لطفل في العاشرة من عمره لم يرتكب أي خطايا بعد، هو نفسه زعيم الحقيقة الجديدة الذي بذلك يفسر سر معرفته المبكرة بالأمر، ونتأكد أكثر وأكثر عندما تحدث لرضيع حديث الولادة، وهو الأمر الذي سيحاول جماعة الحقيقة الجديدة إخفاءه بأي ثمن لأنه سيدمر عقيدتهم من جذورها، وبذلك يخسرون سلطتهم التي فاقت كل الحدود بعد مضي خمس سنوات فقط على بث الهلاك الأول للأم المكلومة، إننا أمام تشريح سيسيولوجي بديع وموجز يختصر تاريخ الإنسان على الأرض، مقولة (الإنسان عدو ما يجهل) نراها هنا متحققة في أفضل صورها، فمنذ فجر الإنسانية والبشر يحاولون فهم العالم، واستنباط القوانين التي تحكمه، وتفسير الظواهر الطبيعية التي تحدث من زلازل وبراكين وفيضانات وأوبئة وأمراض وموت، بل وحتى ظواهر الكسوف والخسوف وغيرها مما لا يؤثر سلباً على البشر، في الحلقة الأولى من المسلسل يقول زعيم الحقيقة الجديدة للضابط إن البشر في العصور القديمة ظنوا بوجود ذئاب تأكل من القمر مما يتسبب في خسوفه، وهكذا أرسلوا الصيادين وراء تلك الذئاب الوهمية لقتلها.
وبالفعل ظل الإنسان عبر العصور يبتكر قصصاً وأساطير، حاول من خلالها التعاطي مع الظواهر الطبيعية، بحيث يهدئ من روعه تجاهها، ومن ناحية أخرى يجد نسق يستطيع من خلاله أن يقلل منها، أو على الأقل أن يتجنب ضررها، وهكذا ابتكرت الحضارات القديمة الآلهة التي تتحكم في قوى الطبيعة، وقدسوها وصنعوا لها التماثيل والحكايات، وأصبحت القرابين وسيلة التقرب إليها، فكان على بحارة الإغريق تقديم القربان المناسب لإله البحر بوسايدن، حتى لا يغرق سفينتهم ويهلكهم.
جانب آخر بديع من روعة السيناريو، أنه لم يغفل حاجة الإنسان للمعنى، تلك الرغبة الملحة التي تكمل الضلع الثاني من مخاوف الإنسان الأساسية في كل زمان ومكان، وهي أن يكون لحياته معنى يتسق مع المعتقدات التي كوّنها عن طبيعة الحياة، وأفضل مثالين على ذلك من شخصيات المسلسل هما زعيم الحقيقة الجديدة، والمؤثر المنشق عن تلك الجماعة، فالزعيم علم منذ طفولته أنه سيهلك في الجحيم بعد عشرين عاماً، عاش خائفاً طوال حياته، وحاول أن يجد تفسيراً لماذا يكون مصيره بهذا الشكل، رغم أنه لم يفعل شيئاً، سافر العالم ومارس التأمل والتفكير، وتوصل في نهاية الأمر أن خوفه ذلك الذي منعه من ارتكاب أية أخطاء، هو سبيل البشرية الوحيد للارتقاء الأخلاقي، ولذلك كرّس حياته لينشر الخوف في نفس الناس، نبههم وحذرهم من قدوم هؤلاء الكائنات التي لا ترحم، وأراد بتصوير الأم على الهواء، أن يقتل أي شك في نفوس الجماهير، غذى خوفهم من المجهول وأكد لهم حقيقة أفكاره، ولأنه قريب جداً من الموت، اختار رئيس كنيسة محلية ليخلفه في المنصب، حتى يتأكد من استمرار أفكاره، والمفارقة أن الزعيم الجديد، كان على معرفة ويقين تام بعدم ارتباط تلك الظاهرة بأية دلالة دينية حقيقية، ولكنه وافق للسلطة الروحية التي سيكون عليها.
أما المؤثر الذي كان يدعم جماعة الحقيقة الجديدة وعصابة رأس السهم، ويهاجم بشراسة ويحرض بالقتل على أي متشكك أو عقلاني، فقد انشق عن كل ذلك واعتزل الإنترنت بعدما جاءه هو شخصياً مرسوم يتوعده بالهلاك، وقتها فقد المعنى من كل ما يفعله، ولكن عند ظهور الرضيع الذي سيهلك قبله بخمس دقائق فقط، شعر أن ذلك لا يمكن أن يكون مصادفة، وأنه بالتأكيد لن يموت موتة مجانية، بل ستكون ذات معنى كبير ولكنه لا يفهمه، لذلك عن اتصاله بزعيم الحقيقة، لم يجد الأخير مفراً من إيهامه أن موته سيأتي لتصحيح خطأ الإله الذي سيقتل رضيعاً بلا معنى، ليموت هو من بعده افتداءً لتصحيح عقيدة الحقيقة الجديدة، وهكذا وجد الرجل في موته رسالة نبيلة مقدسة، وهو ما يبرر تصرفاته الجنونية طوال الحلقة الأخيرة، لأجل تحقيق تلك النبوءة.
وكما اكتشف الأطباء بالصدفة أن غسل أيديهم، يقلل من وفاة الرُضّع الذين يولدون على أيديهم، مما قاد البشرية لاكتشاف وجود جراثيم وبكتيريا تتواجد على أيدينا ولا نراها، وأصبح التعقيم جزءاً لا يتجزأ من أي إجراءات وقائية وطبية، أيضاً قاد الكوريون اكتشاف أن هلاك رضيع لا يمكن أن يكون جزءاً من عقيدة الحقيقة الجديدة، التي تدعي أن الهلاك لا يأتي إلا للخطاة فقط، وهو ما جعل الجماهير تنتبه وتتعامل مع أفراد الجماعة بقلة احترام، وهو ما يقود أحدهم إلى ثورة غاضبة، لا يوقفها عن حدها إلا إعمال دولة القانون، في صورة رجل الشرطة الذي وضع الأصفاد على يديه، لارتكابه جريمة في حق أحد المواطنين.
روعة مسلسل Hellbound الحقيقية، تأتي من تسليطه الضوء على قضايا معقدة وجدلية، وقد لا يتصور أحد أنه سيتمكن من مناقشتها دون الوقوع في فخ الخطابية والمباشرة، ولكن المسلسل قدم درساً لا ينسى في كيفية معالجة أكثر القضايا حساسية، في قالب فني بديع وممتع، ولا يخلو من التشويق.

ذو صلة