يمكن وصف النجاحات التي حققها استخدام الفنون والآداب المتنوعة في العلاج النفسي خلال الفترة الأخيرة في العالم العربي بأنها مذهلة، فثمة ثورة حقيقية في تطبيقات علم نفس الفن أو (الآرت سيكولوجي)، تنعكس تجلياتها في تلك المبادرات والمعارض التشكيلية وحصص الشعر والموسيقى وورش العمل وغيرها من الممارسات التجريبية، الهادفة إلى حماية صحة الإنسان بواسطة المواد الإبداعية الرفيعة.
وتشير الشواهد إلى تعاظم التأثيرات الإيجابية للفنون والآداب المتطورة على الإنسان يوماً بعد يوم، إلى درجة أنه يمكن اعتبارها باباً موثوقاً به لدعم الصحة النفسية والعقلية والبدنية للفرد ومساعدته في استعادة التوازن العام واللياقة الروحية والجسدية في آنٍ. ويتحقق ذلك الأمر بالنسبة للمبدع الذي ينجز عملاً جماليّاً يعبّر فيه عن دواخله، وللمتلقي الذي تنعكس عليه جماليّات العمل، على السواء، فكلاهما تقوده طاقة الإبداع الخلاقة إلى حالات استشفائية مرغوبة، في عالم مضطرب مزدحم بالضغوط والمشكلات الخانقة.
ومع تزايد الاهتمام الدولي والعربي بـ(الآرت سيكولوجي) أو علم نفس الفن، تعددت صور العلاج بالفنون والآداب المتنوعة مثل الموسيقى والشعر والرسم وغيرها، ولقي العلاج بالفنون البصرية والألوان بصفة خاصة التفاتاً نوعيّاً في مصر والعالم العربي، وذلك من خلال مجموعة من الفعاليات والمعارض والمبادرات وورش العمل التخصصية في هذا المجال المثير، وأحدثها المعرض التشكيلي: (موجات هدوء)، الذي افتتح مؤخراً بالقاهرة للفنانة وفاء ياديس، بهدف تحقيق الهدوء العقلي والوجداني والتكريس لحالة وجودية من الثبات والتأمل، ومن قبله معرض (شمس) للفنانة ذاتها، حول سيكولوجيا الرجل وتقلباته المزاجية وحالاته الإدراكية والشعورية، وكذلك معارض: (ما وراء الجسد)، (أشجار طفولية)، (أرواح كريستالية)، (حالات قمرية)، وغيرها.
وتأتي عادة الفنون العلاجية وإبداعات الآرت سيكولوجي ذات طبيعة تجريدية، لكي تتناسب مع الانطلاقات الحرة للإنسان، في تعبيره عن دواخله ومشاعره المتباينة من دون قيود صارمة أو أطر حاكمة. وتنفتح هذه الفنون غالباً على الميتافيزيقا أو الماورائيات (ما وراء الطبيعة) كفلسفة تنشد حقيقة العلاقات والموجودات وجوهر الظواهر والأشياء.
موازنات عاطفية
من بين مجالات علم النفس المتعددة، يتعمق (الآرت سيكولوجي) في استقراء المدركات الحسية والمعرفية وخصائص الفن وآلياته الجمالية وميكانيزم توليد الإبداع وتفجيره، ليقود ذلك الغوص إلى فهم ماهية الفن الملغزة من جهة، واستثمار الفن من جهة أخرى في بناء صحة جيدة للإنسان، على كافة المستويات.
في هذا الفضاء الشيق، يتحوّل التحليل الفني للإبداع إلى مدخل نفسي، والتحليل النفسي للإنسان إلى مدخل جمالي، ويكون التركيز في التحليلين معاً على تلك العلاقة السحرية السرية بين خبرات الفرد وتجاربه الحياتية والسلوكية والانفعالية، والطرح الإبداعي الذي يقدمه أو يتعرض له ويؤثر فيه، فالفنون من هذا المنظور هي موازنات عاطفية ومرايا عاكسة لتركيبة شخصية معقدة، غير منفصلة عن سياقات ثقافية واجتماعية محيطة.
للألوان، على وجه الخصوص، الكلمة العليا بين الفنون في موازنة الطاقة المطلوبة لانسجام الإنسان، جسديّاً وعقليّاً وعاطفيّاً وروحيّاً. ولكل لون مفاتيحه وتأثيراته، فيعزى للأحمر مثلاً الاستثارة وتحريك الدم، وللأزرق التهدئة والتبريد، وللأصفر استرخاء البدن والعضلات وتحقيق الراحة النفسية. وفي اللوحات الفنية، لا يقتصر العلاج على الألوان، وإنما يقترن أكثر بالطريقة التعبيرية، وأسلوب هندسة الحالة وإبرازها مشحونة بالتوترات الذاتية، فاللوحة الواحدة (التنفيسية) في الإطار العلاجي تمحو الكثير من القلق والاكتئاب والأمراض النفسية والعضوية والمعاناة من الصراعات والأزمات لدى راسمها، وكذلك لدى المتطلع إليها بتركيز وتعمق كافيين.
تجريد الفن هنا، أو لا نسقيته، أو مفارقته للنسب والمعايير الاعتيادية، أو حتى عشوائيته، لا يخل بقدرته على تحقيق الانضباط بالمفهوم العلاجي، فالإنسان ما بعد اللوحة وضربات الفرشاة أكثر ارتياحاً واسترخاءً، وهذا هو المأمول. وتمتلك الموسيقى بدورها، كفن بالغ التجريد، إمكانات هائلة في كسر رتابة الإيقاع اليومي، وزيادة تركيز الإنسان، وتحسين الأمان النفسي، ونمو الذكاء، والقدرة على الاندماج المجتمعي، والتحفيز على العمل والإنتاج، والتخلص من اضطرابات النوم والأرق والاكتئاب.
وللمبدعين المصريين والعرب باع في تناول مجالات التداوي بالفنون، كما في كتاب (العلاج بالشعر) للشاعر فاروق شوشة على سبيل المثال، الذي يتناول دراسات أمريكية لعلماء في الطب وعلم النفس والفلسفة واللغويات والنقد الأدبي والاجتماع، وذلك بالاستناد إلى نظرية التطهير لأرسطو، التي تقرن الشعر التراجيدي بمشاعر الشفقة والخوف، ما يؤدي في النهاية إلى التهذيب والتصحيح والتخلص من أمر مؤلم ومفجع. وفي الشعر العلاجي، كما في التشكيل والموسيقى، يبدو الهدف هو علاقة الفرد الخاصة بالعمل الإبداعي، وليس العمل بحد ذاته.
معارض ومبادرات
بالاتكاء على تلك الخلفيات الواسعة في العلاج بالألوان والفنون، انطلقت في مصر والعالم العربي على مدار الأسابيع القليلة الماضية مجموعة من المعارض والمبادرات والورش التفاعلية الحية، أبرزها ما قدّمته بشكل تطبيقي الفنانة والمعالجة وفاء ياديس في سلسلة من الفعاليات المتتالية، وهي تشكيلية مصرية بارزة، معروفة على الصعيد الدولي، وقد تخرجت في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان بالقاهرة، وحصلت على الدكتوراه من جامعة سيدونا بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها ممارسة دولية للعلاج بعلوم الميتافيزيقا والسيكولوجي والفن والألوان والطبقات الصوتية.
وفي أحدث معارضها هذا العام في مجال الـ(آرت سيكولوجي)، قدّمت ياديس تحت عنوان (موجات هدوء) تجربة حية للعلاج بالفن، إذ تعاطت لوحات المعرض مع الموجات اللونية التي تختزل التجسيد الشكلي لتكوين أنساق غير محددة مستقاة من طيف بشرة أو ملبس أو جسد آدمي، ويبدو التشكيل أحادي الخط محاطاً بالموج اللوني، في حالة سكون نفسي، من دون تفاصيل، ومن ثم تنقلب المشاهد والمواقف والمعارك الحياتية إلى استرخاء واستسلام لمرحلة هدوء عقلي ووجداني، وتتحقق حالة وجودية من الصفاء والثبات والتأمل العميق، ويعكس المعرض، الذي جرى توثيقه عبر قنوات يوتيوب، مناخ الاستقرار الذي تعيشه مصر في اللحظة الراهنة، بعد موجات الصراع والغضب الثوري والتحولات المجتمعية والسياسية.
كذلك، قدّمت وفاء ياديس تحت عنوان (شمس) مجموعة لوحات/ حالات تجريدية، تقصت خلالها سيكولوجيا الرجل، وتراوحاته الشعورية والمزاجية بين الحب بالمعنى العاطفي، والأبوة، والذاتية، والتنافس مع الآخرين، والرغبة في التفوق، والسموّ العقلي، وغيرها من الحالات والأجواء المتباينة.
انخرطت الفنانة المصرية في تقمص شخصية الرجل، مطلقة ما سمّته (معادلات سيكولوجية) من خلال طرطشات لونية هادئة وهادرة وصاخبة، وجاءت بعض اللوحات بتقنية اللون الواحد (مونوكروم)، والأخرى ثنائية اللون (بيكولور)، مع التركيز على الأخضر والنحاسي بأسلوب الصور الشعاعية (إكس راي)، وكأنما تنقلب الألوان إلى إشعاعات شمسية ذكورية، تفضح أعماق الرجل بخطوط ورسوم مبسطة، تظهر فيها تفصيلات الرجل الفيزيائية (القلب والمعدة والقفص الصدري والعظام) بطريقة تجريدية غرافيكية، وتبدو في المحصلة ثرية الدلالات، متعددة التأويلات.
زهور المستقبل
وإلى جانب معارضها الشخصية، ومنها معرض (ورد) لأعمال التشكيل الميتافيزيقي التي تخاطب مراكز إدراكية عقلية وجسدية لنظام الإنسان، فقد عمدت وفاء ياديس إلى النهوض بالفن العلاجي عبر الرسم والألوان، من خلال تبنّيها مبادرات وورش عمل وصفحات إلكترونية، لا يزال نشاطها الفني والعلاجي مستمرّاً.
ومما نظّمته مؤخراً معرض (زهور المستقبل) لأعمال الأطفال الموهوبين في مصر والوطن العربي، ومعرض (أشجار طفولية) لمخاطبة العقل الواعي والعقل الباطن وعلاج التوتر النفسي واضطرابات النوم وفوبيا الأشجار، وورش عمل وجلسات تخصصية في الـ(آرت سيكولوجي) والعلاج بالألوان.
وتراهن هذه التجارب الفردية وغيرها على تأثيرات هذه الأعمال الفنية والحالات النفسية الشكلية واللونية، على المتلقّي، سواء كان طفلاً أو شابّاً أو كهلاً، أملاً في منحه ترياقاً يساعده في مواجهة الحياة ومطباتها الصعبة، لكنها لا تزال محاولات محدودة تدار في إطار نخبوي، ولعل انفتاحها الأخير على صفحات السوشال ميديا وقنوات يوتيوب يمنحها المزيد من التأثير والانتشار في المستقبل القريب.