مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عزيز أباظة.. شاعر المسرح التمثيلي

يُعدُّ الشعر المسرحي التمثيلي من الفنون الأدبية التي نشأت عند كثير من الأمم، وقد أخذ العرب هذا الفن عن الأدب الغربي إبّان النهضة الحديثة، ويختلف الشعر المسرحي عن سائر ضروب الشعر، فهو ليس شعراً مقروءاً أو مسموعاً فحسب، بل يصحبه منظر يراه جمهور من الناس، فيكون أثره في النفس عن طريق السمع والبصر، ولهذا لا بُدّ في المسرحية من وجود فنين لا مندوحة عنهما، وهما: فن التأليف المسرحي، وفن التمثيل.

وقد بذل الأدباء العرب جهوداً كبيرة في سبيل إعلاء الشعر التمثيلي، بدءاً بترجمة مسرحيات شكسبير وموليير وراسين، وانتهاء بالمحاكاة. وقد كان لخليل اليازجي محاولة ذات أثر محمود في إنشاء أول مسرحية شعرية في أدبنا الحديث، وهي مسرحية (المروءة والوفاء). وكان لأمير الشعراء أحمد شوقي دور بارز في هذا الفن الأدبي، فقد أمدّ الشعر التمثيلي بنماذج قوية، وجعله جيّد السّبك، جميل الصياغة، حلو النغم، حتى عُدَّ رائد الشعر المسرحي، وقد حاول أحمد شوقي أن ينظم أولى مسرحياته الشعرية منذ عهد مبكر، فأنشأ مسرحية عن (علي بك الكبير) أو دولة المماليك، وهو طالب في باريس، وأرسلها إلى الخديوي، ولكن يبدو أنها لم تلاقِ هوى في نفسه -لأن الخديوي كان ينتظر من أحمد شوقي قصيدة مدح لا قصيدة تمثيل، ولذا انصرف أحمد شوقي عن المسرح الشعري إلى الشعر الغنائي، إلى أن تهيّأت له الظروف المواتية لأن يتم فنه الشعري بالتأليف المسرحي التمثيلي، بطلب من الأدباء والنقاد عندما بايعوه أميراً للشعراء عام 1927م، فكان نبراساً يُحتذى لشعراء المسرحية الشعرية، كالشاعر المصري عزيز أباظة، الذي حمل لواء الشعر المسرحي بعد أحمد شوقي.
لقد ابتدأ عزيز أباظة نتاجه الشعري بديوان (أنّات حائرة)، الذي خرج من وحي زفراته وآهاته، لَمّا فجعه الموت في رفيقة دربه، فرثاها بهذا الديوان الذي يفيض بالأشجان، ويقطر بالدموع الهتان، دلّ به على أروع صور الوفاء لزوجته، وهو أوّل شاعر خصّ زوجته بديوان رثاء كامل، فكان ذلك جديداً في عالم الأدب العربي، الذي لم يشهد مرثيات من لدن الشعراء لزوجاتهم بدواوين خاصة لهذا الغرض الشعري، وقد فتح الباب أمام الشعراء لينفثوا ما في صدورهم من لواعج الفراق، ولهيب الأسى الذي يسري في وجدانهم لما يختطف الموت زوجاتهم، فرأينا عبدالرحمن صدقي يقتفي أثر عزيز أباظة، فيخص رثاء زوجته بديوان (من وحي المرأة)، ومحمد رجب البيومي بديوانه: (حصاد الدمع).
وتوالى نتاج عزيز أباظة الشعري، فما لبث حتى لمع نجمه في سماء الشعر العربي، فغدا قيثارته الصدّاحة، وقد برع في الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، ويُعتبر عزيز أباظة من أبرز أعلام الشعر الكلاسيكي، وهو في طليعة الشعراء المعدودين المجيدين في الشعر المسرحي، فهو الذي حمل راية الشعر المسرحي بعد أحمد شوقي، ويذهب محمد عبدالمنعم خفاجي إلى أن عزيز أباظة (يمثل في الشعر المعاصر كل خصائص المدرسة الشوقية ونزعاتها وضروب التجديد فيها)، ويثني عباس محمود العقاد على الشاعر عزيز أباظة، ويذكره بغاية التقدير، فيقول: (عزيز أباظة شاعر من شعراء الطبقة الأولى في اللسان العربي، ومؤلف من مؤلفي القصص التمثيلي المعدودين في هذا الزمان)، وقد كتبت عنه ابنته عفاف أباظة كتاباً بعنوان: (أبي عزيز أباظة)، عرضت فيه شخصيته وسيرته عرضاً رائقاً جذّاباً، يترك أثره في النفس، بصدق عاطفته، وعمق محتواه.
لقد أولى عزيز أباظة الشعر التمثيلي اهتماماً ضافياً حتى برع فيه، فقد جمع في كثير من مسرحياته بين حسن الأداء وبين أصول الفن المسرحي، واستمدَّ من التاريخ موضوعات مسرحياته -على النحو الذي عَمَد إليه أحمد شوقي وعُنيَ به- فأنشأ عزيز أباظة مسرحياته: (قيس ولبنى)، و(العباسة)، و(الناصر -عبدالرحمن الثالث)، و(شجرة الدر)، و(غروب الأندلس)، و(شهريار)، وكلها مسرحيات شعرية تاريخية، تم تمثيلها على مسرح الأوبرا بالقاهرة، وقد حاول عزيز أباظة أن ينحو في مسرحياته منحى آخر، فأنشأ مسرحيات شعرية تعالج مشكلات اجتماعية، ومن ذلك مسرحية: (أوراق الخريف)، و(قافلة النور)، ولكنه لم يحِد عن المسرحية التاريخية، فعاد إليها منشئاً مسرحية (قيصر). ولا يفوتنا أن نشير إلى أن لعزيز أباظة ملحمة شعرية في السيرة النبوية بعنوان: (من إشراقات السيرة الزكية). وبذلك عرفه الشعر التمثيلي مبدعاً مسرحياً، فضلاً عن بحوثه ودراساته عنه، فقد ذكر الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي -بغاية التقدير- محاضرات الشاعر عزيز أباظة التي ألقاها في رابطة الأدب الحديث عن المسرح الشعري بين أمسه وحاضره، ويحفظ له مجمع اللغة العربية محاضرة عن المسرح الشعري، وهو بحث ألقاه في مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورة عام 1960م-1961م، دافع فيه عن اتخاذ الشعر لغة للمسرح دون النثر، مظهراً عوامل قوته، ومدى مناسبته للتعبير عن أحداث المسرحية، فكان لعزيز أباظة إسهام مهم في الشعر المسرحي، وأثر في الارتقاء به، يضارع أحمد شوقي.
وإذا كان عزيز أباظة قد أفاد من تجربة أحمد شوقي في الشعر المسرحي، فإنه كان حريصاً على تجنّب أخطائه، وساعده على ذلك أنه كان كثير الاتصال بالمسرح، خبيراً بخباياه، وكان يعتمد في نسج مسرحياته على التاريخ تارة، وعلى الأساطير تارة أخرى، ولكنه لم يرتفع بمسرحياته الشعرية إلى موسيقية شوقي، واتّساع أفقه، وسُمُوِّ عبارته، ومع ذلك فلا تخلو مسرحيات عزيز أباظة من تنويع الأوزان وتغيير القوافي، وهو في ذلك يسير على درب أستاذه شوقي، بَيْدَ أن عزيز أباظة كان متفوقاً على أحمد شوقي في الحوار الشعري الدرامي، ولم تخلُ مسرحياته من القدرة على الغوص إلى أعماق الأحداث، وأغوار النفس الإنسانية، باعتماده على المنهج التحليلي.
ونرى عزيز أباظة يهدي مسرحية (شجرة الدر) إلى روح أحمد شوقي، ذاكراً فضله، موفياً حقه، فتسمعه يقول: (إلى شوقي الخالد، أزجي أثراً من هديه، ونفحة من وحيه، هديّةَ تقدير وإكبار ووفاء)، وهكذا فمسرحية عزيز أباظة أثر من هدي شوقي، ونفحة من وحيه، وقُلْ مثل ذلك عن كافة مسرحياته الشعرية، ولا غروَ فقد كان عزيز أباظة من أكثر الناس إعجاباً بأحمد شوقي، وإكباراً له، واستمداداً منه، وكان يعتبر أحمد شوقي رائد الفن المسرحي الشعري، ونحن نعتبر عزيز أباظة حامل لواء المسرحية الشعرية بعد أحمد شوقي.
لقد كان عزيز أباظة من أنصار المسرح الشعري، وكان يؤمن بمدى أهمية الشعر ومناسبته للغة الفن المسرحي من النثر، خلافاً لما ذهب إليه الدكتور طه حسين ومن لَفَّ لفّه، فقد زعم طه حسين أن التمثيل شبّ عن الطوق وتمرّد على أوزانه وقوافيه، وآثر حرية النثر وطلاقته وأسماحه على قيود الشعر، فأبدى طه حسين تحفظه أمام التمثيل العربي الذي يعرض على الناس شعراً، ويذهب إلى الحكم على الشعر التمثيلي بالغرابة، ويعتبره لا يكاد يلائم المألوف من أذواقنا الحديثة، ويبدي عدم افتتانه بتمثيليات شوقي، وعدم نشاطه لتمثيليات عزيز أباظة.. رغم اعترافه بجزالة شعر عزيز أباظة، ورصانته، وحسن ملاءمته للفن الممتاز الرفيع.
وقد تتبّع الدكتور محمد مندور مسرحيات عزيز أباظة، فعرض لها بالنقد في محاضراته، ولكنّه حاد عن المنهج الأدبي لما أزرى بعزيز أباظة، وذلك بدعوته إلى العودة للشعر الغنائي، وترك المسرح للثائرين -حسب تعبيره- ممن يفهمون حقيقة الفن المسرحي ويتابعون تطوره العالمي، وفي هذا تهكّم واضح، يخرج بصاحبه عن حدود اللياقة الأدبية، وليت شعري ما الذي قدمه هؤلاء الثائرون من إضافة نوعية في فن المسرحية؟ فحقيقة الأمر أن المسرح تبوّأ مكانة رفيعة مع عزيز أباظة وأستاذه أحمد شوقي، اللذين أمدّاه بروائع الفن التمثيلي، وقد استقوا موضوعات مسرحياتهم من التاريخ ومن الحياة المعاصرة، كما أنهم جمعوا فيها بين التيارين الغربي والشرقي، مما يعد ارتقاء بالمسرحية في أدبنا الحديث.

ذو صلة