مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الصناعات الإبداعية في التشكيل العربي المعاصر

ازدهرت الصناعات الثقافية وتعمقت آليات البحث والانتشار والشهرة للفنان العربي المعاصر، إثر الطفرة الرقمية الراهنة ونظم العولمة الاقتصادية والاجتماعية والفنية في حدّ ذاتها. كما أن للواقع المعاش رهانات وملامح ومعايير تختلف عن العصور السابقة، لتتولد أساليب إنتاجية تعبيرية وإبداعية مختلفة متحيّنة، وفقاً للثورة المعلوماتية والبرمجيات الرقمية في المؤسسات الإنتاجية وأنشطتها المتعددة في مجالات الصناعات الإبداعية ورسمها للهوية والأصالة المحلية. فكيف تتم اليوم صناعة النجم والشهرة الإبداعية في عوالم الرقميات ووسائل التواصل الاجتماعية؟ أي تقنيات يمتلكها المبدع اليوم ليحوز مرتبة مهمة من الانتشار والمعرفة وفق مبدأ التشاركية والوعي الجمعي الثقافي؟ هل بتفرغ المبدع لإنتاج الأعمال الفنية وتجديد مساقاته البحثية وتنشيط مجالاته الفنية يضمن جواز عبوره للشهرة والعالمية؟ أم أن الجانب الأكاديمي وسلطة المعرفة وإتقانها وتجويد محاورها النظرية والتقنية تظل الباب الأوسع لصناعة النجوم في أروقة الفنون البصرية وضمان الهوية التشكيلية في عوالمنا المتغيرة والمتحينة؟

هل تحدد الشهرة (بميولات) يتبعها الفنان العربي، أم أن الاختلاف محفز أساسي للتفرد والإشعاع؟
كيف يصبح الفنان التشكيلي اليوم فناناً معاصر ومعترفاً به؟ أي مقياس للشهرة الفنية؟ وهل هي محلية أم عالمية؟ أهي بقيمة الأعمال فنياً ودلالياً ومعرفياً وتقنياً؟ أم أن نسبة المبيعات وكثرة المعارض والمشاركات هي التي تحدّد اليوم نجومية الفنان الراهن في الوطن العربي بالتحديد؟ وهل حقاً يحتاج المبدع العربي لمؤسسات ثقافية لينتشر إبداعه ويشعّ اسمه في صفوف الأسماء الفنية العالمية المشهورة؟
تضافرت الإسهامات الإبداعية في الوطن العربي لرصد بيئة جمالية وهوية تعبيرية أساسها الأصالة والمعاصرة في رحاب التغيرات الرقمية المستحدثة. فما بعد الحداثة: (ستختار وبالضرورة الفكر الإلكتروني بوصفه بداية لرقي التواصل الإنساني لإحراز أكثر الانتصارات في توثيق العلاقات الإنسانية والعالم، وقد ينزاح النص التقني ليضل النص الفني الإلكتروني منتصراً إلى وقت مديد).
ومن هذا الموقع سعى الفنان العربي الراهن إلى ممارسة الفنون التشكيلية والبصرية بكل ما أوتي من مكاسب ومعارف واطلاع حثيث على ما يحدث في العالم الأوروبي، فكانت المحاولات كثيرة ومرت تاريخية الفنون بمراحل مختلفة وصولاً لعصر صناعة الظاهرة الفنية، والسوق وثنائيات العرض والطلب. وفي غمار المتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فإن الفنان العربي عامة والتونسي خاصة قد انخرط طواعية في لعبة البحث عن الشهرة والانسياق في رحاب العولمة ومكاسبها ورهاناتها، فكيف رسم الفنان التونسي سليمان الكامل طريقه خارج حدود الوطن وأسهم بمعلقاته الثورية وجمالياته التعبيرية الوليدة من رحم المجتمع واليومي في تحديد هويته الفنية الخالصة؟ وإلى أي مدى ساهمت فرص العرض خارج تونس مناسبة جوهرية لسطوع نجومية الفنان ثامر الماجري وانتشار أعماله الفنية وطابعه التشكيلي؟ هل ساهمت الوضعيات الخاصة والحجر الصحي في السنوات الأخيرة في تعزيز فرص التطوير والتحديث للمهارات الفنية وانتشار المعارض الرقمية والتجمعات العالمية للفنانين دون احتساب رقعتهم الجغرافية ضمن مبدأ الفن للجميع، وكيف عملت تجربة مجموعة بالأبيض والأسود من تعميق مسار البحث الفني للأكاديمية هالة الهذيلي وتغيير مساقاتها التصويرية المتحينة للوضعية الجمالية الراهنة؟ وإلى أي مدى نجح الفنان سامي بشير بتعريفه للفن العام بإخراجه للأثر الفني من حدود الفضاء المغلق ونسجه لشبكة تفاعلية بين الطبيعة والأثر المصور والمتلقي وتعزيز مشروعاته المشهدية في حواضن الإبداع اليومية؟ هل فرص الانتشار والشهرة قائمة على مبدأ التكافل بين مناطق الوطن العربي؟ وإلى أي مدى ساهمت الوسائل الرقمية في فتح مجال العولمة وازدهار التجربة التشكيلية؟
إذا ما تم الاتفاق على معنى الشهرة باعتبارها الذيوع والانتشار واكتساب قيمة معينة، ولو عدنا إلى كتاب عفيف بهنسي حول جمالية الفن العربي (لوجدناه جازماً نحن ننتقد فكرة المعاصرة التي تتضمن في حقيقتها التقليد والمحاكاة واستيراد الأساليب الغربية والتي كانت السبب في التخلي عن الشخصية الفنية الأصلية للالتحاق بالشخصية الفنية الغربية. أما المعاصرة بمعناها العام أي معايشة الظروف الراهنة والتطلعات المستقبلية فهي أمر مقبول ولكن لا بد من إيضاحه).
ومن هذا الموقع دأب الفنان سليمان الكامل على قراءة الواقع الراهن واكتسابه في سجلات البحث الإبداعي لتكون وقائع الربيع العربي أحد المحفزات التعبيرية التي أنتجت كماً من اللوحات المدججة بالحركة والمواقف المناصرة للحرية والتعبير واقتناص شواهد يومية معاشة لتكون عناصر تأثيثية للوحة التمثيلية المتنوعة. مارس سليمان الكامل التعبيرات الفنية باستعمال النقطة وتجميعها على محامل كبيرة ضمن تصويرية فيها نسيج الخيال والواقع معاً عبر ألوانه الصارخة والمشعة. انتشرت أعمال سليمان بتونس، فنشد باحثاً عن فرص الانتشار خارج حدود الوطن ليعرض في ملتقيات فنية كثيرة في فرنسا وبريطانيا وداكار وغيرها من المحافل التي ساهمت في تسليط الضوء على تجربته الفتية التي كانت تجوب العالم محملة بنسائم الربيع العربي التونسي الخالص. ولم تخرج تجربة الفنان التونسي ثامر الماجري عن طريقة سليمان الكامل في طلب الانتشار والشهرة، حيث سلك بدوره فرص البحث عن مشاركات خارج حدود الوطن وعرض بمتاحف عالمية ذات أهمية بالغة ساهمت بدورها في إشعاعه وشهرته السريعة في عالم الفنون التشكيلية المعاصرة. يشتغل ثامر الماجري على المحامل الصرحية لينسج قصصه البوليسية والخيالية والطفولية على الفضاء الأبيض الممتد لقماشاته الكبيرة، وليؤسس بدوره طابعه التشكيلي الخاص من خلال تخيّره للألوان الفائقة الإشعاع والألوان الأولية واستنجاده بالخط والفحم كمحفز بصري لكامل التركيبة. اعتمد ثامر الماجري على الطابع العفوي والحركات واللطخات العنيفة التي تحمل اللوحة بطاقات بصرية غامضة ومشوقة، فتعامل مع الفضاء ومع الناتج الفني بدقة وإتقان وسهر على تنشيط هويته البصرية بنشره لأعماله وسياقاته الإنشائية عبر الوسائط الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
سجل سليمان الكامل وثامر الماجري في هذه السنوات الأخيرة انتشاراً مهماً في حقل الفنون المعاصرة ووصولها إلى العالمية بعرض وبيع وتسويق تجربتهم في متاحف وفضاءات معترف بها في تاريخ الفنون الأوروبية المعاصرة، واشتغل كلاهما على تثبيت الواجهة الفردية لنتاجاتهما الفنية وتثمينها بطرق مختلفة. شهد الفنانان شهرة واسعة تخطت حدود الوطن وأصبح اسمهما مرجعاً مؤسساً لصورة الفنان بتونس، وساهمت التقنيات الرقمية الحديثة في انتشار التجربة الفنية وإنعاشها بطرق مختلفة، وضمنت وسائل التواصل الاجتماعي ومنذ فترة الحجر الصحي دوراً متميزاً في التعريف بأسماء متعددة من الفنانين العرب خاصة، حيث باتت شاشة الهاتف والحاسوب فضاءات لقاعة عرض رقمية يمارس فيها المبدع حقه في نشر الناتج التعبيري وسيرورته الإنشائية.
ضمنت مجموعة بالأبيض والأسود، باعتبارها تجمع لأكثر من ألفي فنان معترف بهم مثل الفنان محمد العامري من الأردن والفنانة زينة سليم من العراق ومقيمة بكندا والفنانة أسيل عزيز من تركيا وطارق السويسي وإسلام الحاج رحومة ونجوى عبدالمقصود من تونس، وغيرهم من كامل أنحاء العالم، انتشاراً واسعاً في فترة الحجر المنزلي، باعتباره نواة تشكلها عبر الفنانة هيلدا الحياري. تخيّرت المجموعة مواضيع متعددة يرسم من خلالها المبدع وجهات نظره وتعبيراته المتنوعة عبر وحدة الوسيط الخطي والإسكيتش بالأبيض والأسود. كما نشطت المجموعة بطريقة متطورة وساهم عدة فنانين في إنجاح العملية الإنتاجية بدأبهم على نشر أعمالهم والتواصل والتفاعل عبر تقنيات البث المباشر على صفحات الفيسبوك أو الإنستجرام. وفي هذا المجال نذكر تجربة الأكاديمية هالة الهذيلي من تونس واتخاذها صفحة المجموعة كموقع عرض افتراضي لنشر إبداعاتها الخطية ومجالاتها البحثية المترجمة لليومي والحجر والانغلاق وصولاً إلى مراحل النضج التام واتخاذها من الأبيض والأسود مسارات تعبيرية ذاتية تشكل إثرها صور هويتها الفنية في عوالم المتغيرات الثقافية. لقد اشتغلت الفنانة على تحريك سبل انتشار اسمها ونتاجها التشكيلي بطرق رقمية أسهمت في فتح فرص المشاركة بمعارض محلية وعالمية حضورية وافتراضية في ذات الحين. كما مثلت لها مجموعة بالأبيض والأسود جسر عبور للباحثة لتجديد طاقاتها الإبداعية وتجريبها لممارسات تعبيرية مفتوحة على الآخر العالمي وهو ما يدفع لإنبات طرق الشهرة والتأسيس لمكانة فنية ذات خلفية نظرية وتوجهات أكاديمية متجددة داخل تونس وخارجها باعتباره جواز عبور ونقلة نوعية للشهرة والانتشار وتوسع آفاق البحث والعرض.
يدافع الفنان المحلي عن مكانته وطرق انتشار نتاجه الفني، ويصنع بدوره فرصاً متجددة للعرض والتسويق لتجربته الفنية بشكل أو بآخر، وذهب الفنان التونسي سامي بشير في الفترة الأخيرة إلى منهج التعبير المفتوح والفن العام لكي يكسر حواجز الانغلاق وإخراج الأثر الفني إلى حدود المتلقي. تخيّر الفنان الرحلة كمشروع للقراءة والتفعيل ليحمل لوحاته الدائرية الزرقاء إلى ربوع أماكن مفتوحة وفضاءات عامة وتاريخية، فناشد العلاقة التكاملية بين اللوحات وطرق توزيعهم في الفضاء والخلفية التي ساهمت بشكل أو باخر بتنويع قراءة الأثر وتطعيمه بطاقة بصرية متجددة. يناشد سامي بشير بتجربته شهرة نوعية لأثره الفني وطلباً لسطوع نجوميته المستحقة في عوالم تحتد فيها المنافسة وتضيع فيها الطاقات المتخفية عن ساحة العرض وأروقة الفضاءات الرقمية بشكل أو بآخر.
إن صناعة النجوم والشهرة وضمان الانتشار محلياً وعالمياً في مجالات الإبداع التشكيلي أصبح مطلباً استحقاقياً لأغلب ممارسي هذه الصناعة الإبداعية، وتغيرت ثوابت الفنون اليوم في غمرة الرقميات المنشرة والنموذج والميولات الطاغية على نوعيات الفن المعاصر. انفتحت أروقة التعبير وتكاثرت التجارب وامّحت الفواصل بين المحلي والعالمي ليصبح المقياس المحدد لشهرة الفنان متحولاً حسب الحدود الز مكانية لكل تجربة. وهنا تتعدد الاستفهامات التي تختلف نوعية الإجابة عنها والمختصة بأسس بناء النجم الفنان وتمكنه من أن يكون بيكاسو أو فان جوخ عصره. وفي هذا الشأن تجتمع المؤسسات الحاضنة والفرص الأكثر نماء والأكثر ميزانية والأجدر على التوسع والانتشار لتصنع أسماء فنية ونتاجات وأعمالاً فنية معترفاً بها ومشهورة عبر اسم صاحبها أو ثمنها أو مكان عرضها أو بساطتها أو قدرتها على استفزاز الذوق العام في ضل العولمة المستفحلة. تتنامى التجارب الفنية بالعالم العربي وتتغير واجهة الفن التشكيلي لتحتضن سياسات الثقافات العربية فرصاً متعددة وعالمية للقاء الفنان العربي بنظيره الغربي ضماناً لتلاقح الخبرات وإثراء التراث المحلي والخاصيات المحلية وازدهار الساحة العامة وتجويد فنون الشهرة وعوالمها المتحينة في رحاب الوسيط الرقمي المعاصر. وتبقى فرص الشهرة ومقاييسها نسبية وغير مشروطة بإطار أو بآخر لما تضمنه المتغيرات الرقمية وتحولات الذائقة الفنية والوعي الجمعي والثقافة الاستهلاكية من تجديد مقاييس الشهرة وتحفيز مضامين الإبداع وآلياته التقنية والنظرية عبر أسس التفاعل ومبدأ التشاركية بين الفنان والأثر الفني والمتلقي الفاعل.

ذو صلة