لا شك في أن لموضوع الرمز الثقافي راهنيته من جهة كونه مسألة تمس الواقع الثقافي الراهن، في ظل يسر انتشار المعلومات بدون توسط من رقابة سلطة سياسية مركزية. لكن هذه العملية على ما فيها من (بداهة) وطبيعية تبدو نتاج إعمال وتدبّر وتوجيه مسبق، وهذا ما جعل نسق بروز شخصيات في شتى المجالات والترويج لها على أنها (نجوم) أو رموز مائزة للمجموعة الثقافية؛ يكون متسارعاً وقوياً. ويكاد المتلقي المستهلك للخطابات المروجة لرمزية الرموز، شخصيات أو وقائع أو منجزات مختلفة؛ يقبل بذاك الوسم كما لو كان بديهة وحقيقة لا سبيل إلى التفكّر فيها وربما دحضها. ويهمنا في هذا المقال السريع أن نحاول الإجابة عن كنه الرمز الثقافي من جهة الشروط التي يجب توافرها فيه ليكون.
والمسلك إلى ذلك خطاطة ثلاثية: نفتتحها بحد الرمز والرمز الثقافي، ونثنّيها بمبحث الشروط الواجب توافرها لصناعة الرمز الثقافي، ونختمها بنماذج دالة على كيفيات صناعة النجوم الثقافية مستوحاة من تراثنا الأدبي قديمه وحديثه.
في الحدّ
الرمز مصطلح ناطق عن شحنات مفهومية متعددة بحسب المجال المعرفي الذي إليه ينتمي، فدلالته في اللغة مباينة لدلالته في الخطاب النقدي في علم اجتماع الثقافة. ذلك أن النظر في مدلول دال الرمز في المعاجم قبل استحالته مفهوماً يفيد كل تواصل أو إبلاغ بين طرفين يعتمد نظاماً تواصلياً غير لغوي، مثل استخدام الشفتين أو الحاجب أو اليدين لإبانة عن مكنون الذات، وهو ما يؤيده الاستخدام القرآني في قوله تعالى في الآية 41 من سورة آل عمران: (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).
شهد هذا المفهوم حضوراً لافتاً في الخطاب النقدي الحديث، ارتبط بتحولات المدارس الفنية من الكلاسيكية إلى الرومنطيقية، ليضحي من فرط شيوع ممارسته وسماً يعلّق بتجربة شعرية متميزة في الفضاء الغربي، توسم بالشعر الرمزي، عنه تفرّعت تجارب أخرى مثل الشعر السريالي فالدادائي فالصوتي أو الشعر المحض. ويبدو أن الملمح المشترك بين هذه المدارس الجمالية كثافة حضور الرمز وما تحطّمه وما تبتنيه من علاقات مستجدة بين الرامز والمرموز. وعن هذه الممارسة الإبداعية كان حضور الرمز والرمزية في الخطاب النقدي. وما يرشح عن تلك التنظيرات أن الرمز شكل بلاغي متطور على الوجوه البلاغية التقليدية، من جهة أنه طريقة في إنتاج المعنى على غير السبل التي تنتج بها في العلامة اللغوية وفي الكناية والاستعارة - ليس المجال لتفصيل القول فيها. وجمّاع القول في المسألة: إن حد الرمز الثقافي بالاحتكام إلى علم اجتماع الثقافة كل تجسّد لفكرة تثمنها الجماعة الثقافية على نحو مخصوص، يفيض عن دلالتها الذاتية وقيمتها الإجرائية ليعلّق به قيمة أو فكرة أو خاصية. وهذا التجسد قد يعلق بمنجز فني أو بشخص عين أو بجيل. ومما يدخل تحت صنف الأثر، الأثر الفني: الموناليزا وبرج إيفل ومسرح الأولمبيا والمنحوتات الفرعونية والبابلية.. إلخ. ومما يدخل تحت صنف الأشخاص/الأجيال ما صاغته المجموعة الثقافية العربية الإسلامية من تمثّلات جماعية عن أفراد وجماعات تاريخية ارتقت إلى رتبة تكاد تكون مفارقة لطبيعتها الأصلية البشرية، مثل رمزية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ورمزية جيل الصحابة بأكمله، خصوصاً الخلفاء الراشدين.
في الشروط
من الواضح أن الرمز الثقافي قيمة اعتبارية مجردة، ووسم لاحق بالمنجز المادي، متى كنا في حضرة المنجزات المتعلقة بالآثار الفنية أو بالتحقق التاريخي، ومتى كنا في حضرة الشخصيات التي تبوّأت مكانة الرمز الثقافي بالنسبة إلى مجموعة ما. وبالتالي فإن الرمز الثقافي يتحرك في الأصل في عصر ومصر محددين باعتبارهم شخصيات تاريخية. ولكن تسبغ عليهم وعلى منجزاتهم بأخرة قيمة مضافة تجعل الجماعة الثقافية ترى فيها رموزاً لهويتها القومية أو الدينية أو السياسية أو الإثنية. إذن هو وسْم ما بعدي لمنجزات تاريخية تعتبرها المجموعة ناطقة عن حاجياتها العميقة فترفعها إلى مستوى الرمز. لكن دون ذلك شرط ضروري متى توافر أمكن للشخص أن يكون رمزاً ثقافياً، ومتى غاب امتنع ذاك الأمر امتناعاً كلياً؛ وهذا الأمر يتعلق بما يسمّى في علم الوسائط أو الميديولوجيا بالحوامل الثقافية. وتفصيل ذلك أن استحالة المنجز أو الشخص رمزاً ثقافياً يشترط وجود حوامل ثقافية تسمح له بالارتحال في الفضاء ومقاومة فعل التهميش أو النسيان عبر الزمن. والسبيل إلى ذلك وجود تطور تقني يعلق بالكتابة والورق والكتّاب والرواة.. لارتحال الأمواد المشكلة لرمزية الرمز في القديم، ويعلق بكل وسائل التواصل الجماهيري مثل الإذاعة والتلفزيون والكتب والجرائد، وبكل وسائل التواصل الاجتماعي مثل الإنترنت وتويتر وفيسبوك. إيجازاً لنكون في حضرة رمز ثقافي فيجب أن يكون ثمة جهد تحشيدي يروج للشخصية الأدبية أو العلمية أو السياسية على أنه جدير بذاك المقام.
في النماذج
النماذج الناطقة عن صدق ما حددناه من شروط عديدة عابرة للمجالات والاختصاصات وحتى للعصور. نقتصر منها على الرموز الأدبية، لنفرّعها فرعين يعلّق الأول بالقديم والثاني بالحديث.
في القديم: تقدم لنا المدونة النقدية والإبداعية نماذج عدة للاستدلال لوجاهة هذا الطرح، منها ما هو بالخلف، ومنها ما هو بالإبرام. ونموذج البرهنة بالخلف ما ورد في كتب النقد من أخبار عن وجود ثلاثة إخوة شعراء اسمهم منذر ومنتذر ونذير، كان لهم شعر غزير ذهب كله لأنه لم يصل الأمصار، فلم يقاوم فعل النسيان والتلاشي، لأنه لم يحفظ، ولم يتداول، ولم يقيّم. ولو وجدت حوامل ثقافية لأمكن لمثل هذا النمط من الشعراء المغيّبين أن يكونوا صانعي نماذج جمالية تبيح لأحدهم أن يكون رمزاً ثقافياً.
أمّا نموذج البرهنة بالإبرام فنجده في احتفاء النّقاد العرب القدامى مع العصر العبّاسي بالمنجز الإبداعي للثلاثي الأموي الأشهر: جرير والفرزدق والأخطل. فمن الواضح أنّ ثمة منجزاً شعريّاً غاية في التّنوع منذ العصر الجاهلي إلى العصر الأموي. سواء في الأشكال النظمية: المزاوجة بين القصيد والرّجز والرمل، وفي النفس الشعري: بين اليتيم والنتفة والمقطوعة والقصيدة والمطولة، وفي البناء التركيبي: من جهة أحاديّة الغرض أو تعدده وتجاوره. لكن ما وقع تاريخيّاً هو اصطفاء لمدونة هذا الثلاثي المتأخّر، وتشقيق شروط الشعر الجيّد انطلاقاً من تلك المدونة، وادّعاء أنّهم يواصلون تليداً ضارباً في القدم، رغم عدم مطابقة أحكامهم تلك لما يتوافر بين أيدينا اليوم من دواوين الشعراء الجاهليين. فكان أن اخترعوا أصلاً للشعر الجاهلي يتطابق مع منجز الثلاثي الأموي، وما كان لهذا الجهد التنظيري ليكون لولا وجود حامل ثقافي تكفل بدور المحافظة والتثقيف لذلك المنجز حتى يتطابق مع حاجيات الثقافة والحضارة آنذاك: ثقافة عالمة ودولة مركزيّة، استحالت بسرعة إلى إمبراطوريّة تحكم قسماً من العالم القديم، لها تمثلات على ذاتها معنية بتثبيتها وإعادة إنتاجها وترويجها حتى من طبقة الموالي المتضخمة الملحقة بالنسيج الاجتماعي للدولة العباسية. فكان فيما أنجزه الثلاثي ما يجسّد سؤال الحضارة/الدولة للثقافة التي تسنده إلى فاعليها بحسب مجالات إبداعهم ومنهم الشعراء. وعليه كانت صياغة متطابقة مع تلك الاحتياجات العميقة: شعراً مركباً مبنياً على شكل القصيد، دون سواه من الأشكال الأخرى، أهم أغراضه المدح والفخر.
في الحديث: يمكن أن نتّخذ مثالين واضحين على أهمّية الحامل الثقافي في صناعة الرموز الثقافية: أولهما يتعلّق بأحمد شوقي في مصر، والثّاني بأبي القاسم الشابي في تونس. فالأوّل بويع في ثلاثينات القرن الماضي أميراً للشّعراء، وفي الأمر مقدار من الشذوذ، يرتدّ إلى أن هذه الحقبة تعدّ لحظة انفجار الشعرية الرومنطيقية في الفضاء العربي: في لبنان ومصر وتونس.. وغيرها، إلى حدّ أنّ عدد الشعراء يحسب بالعشرات. بينما أحمد شوقي ينتمي إلى تجربة جماليّة تقليديّة علاقتها بالعصر ضعيفة وسطحيّة، لأنّها لم تتعلق إلا بالأغراض/الموضوعات والتسميات، أي المفردات الدّالة على مستحدث الاختراعات. ومن هنا تسميتها بالكلاسيكية المحدثة أو الإحيائية. ومن المفروض أن تكون صناعة (النجم) أو الرمز الثقافي مرتبطة بـ(المايحدث) صلب الثقافة والمجتمع. لكن تلك المبايعة في العمق ناطقة عن طبيعة المجتمع المصري والثقافة المهيمنة عليه: مجتمع تقليدي إقطاعي، ومن بيئة ثقافيّة محافظة، فكان شوقي أصدق تعبيراً عن روح اللحظة الحضارية والثقافيّة المصرية. لذا لقي ما يكتبه رواجاً لدى الخاصة والعامة على حدّ سواء. وهذا نموذج على أن الرمز الثقافي مسألة صناعة وليست طبيعة في المنجز أو الشخص.
النموذج الثاني النّاطق عن نفس الفكرة من موقع مقابل هو منزلة الشابي في تونس، فقد أقيمت مسابقة شعرية في الأربعينات بين شعراء تونسيين في مجلة أدبية ورد فيها الشابي في مرتبة متأخّرة جداً وراء شعراء لا قيمة جمالية لمنجزاتهم؛ لكن بمجرد استقلال تونس وتحوّل السلطة من الطبقة الإقطاعية التقليدية إلى طبقة وليدة هي البرجوازية الصغرى؛ يقفز الشابي إلى مرتبة الرمز بالنسبة إلى الثقافة التونسية، وخصوصاً الشعر، ولا يزال ظلّه يحجب إلى اليوم سطوع مبدعين آخرين لبعضهم تجارب مهمة. وليس من تفسير لهذا الانقلاب في التثمين إلا وجود حوامل ثقافية فاجتماعية فسياسية بخست هذا المبدع قدره وأغدقت على من هو دونه ما يزيد على ما يستحقه من مكانة.
ما ننتهي إليه أن الرمز الثقافي صناعة لا بمعنى أنه زيف وكذب، ولكن بمعنى أنه استجابة لحاجيات تفيض عن الفني بل الثقافي لتعلّق بحاجيات الدولة فالحضارة.