تحكي إحدى الأساطير أحد أهم روافد الفولكلور الإنساني عن (نركسس) الصياد الإغريقي الجميل، وكان مهووساً بنفسه وجماله إلى الحد الذي جعله يعرض عن كل من يحب أو يهتم في حياته، غضبت الآلهة من هذا الهوس، فذهبت به الإلهة نمسيس إلى إحدى البحيرات، وهنالك رأى الصياد المهووس بنفسه انعكاس صورته على ماء البحيرة، فوقع في حبها على الفور، وهوس بها، ولم يعد بمقدوره أن يترك الصورة المنعكسة، وبقي محدقاً فيها إلى أن مات. هذه واحدة من أوائل صور الهوس التي خزنتها الذاكرة الإنسانية، ضمنتها ضمن حكمتها، وحكت عنها كدرس وعبرة، جيلاً بعد جيل.
الهوس بجمال معين
الهوس بالجمال -وتحديداً نمط معين منه- هو ملمح يتكرر في الفولكلور الإنساني لمختلف الثقافات والحضارات، ويعبر عنه بكثير من الوسائل والأدوات، وأبرزها الأدب والفنون القولية.
فكما تحدثت الأساطير عن نركسس وهوسه بنفسه؛ حكت الملاحم البشرية الكبرى عن هوس باريس الأمير الإغريقي بجمال هيلين حسناء إسبرطة إلى الحد الذي جعله يخطفها رغم أنها زوجة ملك إسبرطة، مشعلاً حصاراً ضرب إلى حدود سبعين سنة وحرباً ضروساً. على الجانب الآخر نجد ملاحمنا العربية وهي السير الشعبية تقارب التعلق العاطفي والذي يخرج عن حدود الحب أو الميل إلى حدود الهوس كذلك.
ففيروز شاه يتعلق بطريقة مهوسة بجمال فتاة لم يقابلها قط من قبل في حياته، فقط هو رأى مجرد صورة مرسومة لها، ويظل يحلم بها ويخرج ليخوض المغامرات والأهوال لعشرات السنوات ليصل لها، كذلك عنترة الذى يحارب جيوشاً جرارة ويطوف أرجاء الأرض شرقاً وغرباً حتى يحصل على ما طلب منه مهراً لعبلة، وليثبت للجميع استحقاقه لها، ولا بد هنا أن نتوقف أن الهوس بابنة عمه في لحظة يتخطاها ليتحول لهوس شخصي لإثبات الذات والجدارة ومن ثم الاعتراف والاحترام، ذلك أن عنترة نفسه في هذه الرحلة يقترن بالعديد من النساء الأخريات ولا يخلص لهوسه العاطفي.
هي نفس الثيمة تتكرر عند سيف بن ذي يزن في سيرته الموسومة باسمه، فهو الآخر يسيطر عليه هوس تحقيق المهر المطلوب منه للاقتران بحبيبته الجميلة، ويخوض أيضاً الكثير من المغامرات، ويرتبط بالكثير من النساء أثناء هذه المغامرات، ولكن سرعان ما يتحول في حالة سيف هوسه الشخصي والذاتي إلى هوس ذي بعد جماعي وقومي وديني عبر حرصه على نشر دين التوحيد في كافة ربوع الأرض وداخل وعوالم الإنس والجن.
الأمثال الشعبية تكشف حقيقة الهوس بالجمال الشكلي
وتبدو الجماعة الشعبية العربية مهووسة بنمط معين من الجمال، تتحقق فيه معايير محددة، فالفلكلور زاخر بأمثال شعبية من نوعية: (خد الغندور واقعد قدامه) و(الحلو حلو حتى لو قام من النوم)، (لا عين كحيلة ولا خد أحمر)، وأخيراً: (يا ليتني بيضاء ولي ضب، والله البياض عند الرجال يتحب). من الوهلة الأولى نحن أمام بناء قيمي مهووس بالجمال الشكلي فقط، هذا الجمال الذى لا بد أن يتوافر فيه بياض اللون والعيون الكحيلة والخدود الحمراء، لكن سرعان ما نجد أنفسنا أمام مجموعة أخرى من الأمثال الشعبية التي أبدعتها نفس الجماعة الشعبية العربية تقول: (خذ بنت الأصول لا الزمن يدور)، و(الحب مستغني عن الجمال)، و(من بره وردة ومن جوه قردة)، وأخيراً: (حبيبك اللى تحب ولو كان دب)، نحن هنا أمام مستوى آخر من الاهتمام، يتجاوز الهوس الشكلي. والتفسير لذلك أن الأمثال التي تتحدث عن الهوس بنمط الجمال الخارجي هي أمثال ساخرة فيها الذم على هيئة المدح والتي تتعلق بالعلاقات السطحية والمؤقتة والعابرة، بينما حين ينتقل الخطاب للحديث عن الحب والزواج تتبدل نبرة الأمثال، وتكون أكثر جدية وشفافية، وتبدأ في التركيز على أصل الشخص وليس جماله كسلاح في مواجهة تبدل الأحوال أو سوئها، والذهاب إلى أن الجمال الخارجي ما هو إلا عنصر ثانوي في حالة الحب، وأخيراً في وعي شديد تخبر الأمثال أن الجمال الشكلي قد يكون قناعاً يخفى وراءه قبحاً داخلياً مستتراً.
لا بد لنا أن نعي جيداً أن الأمثال الشعبية هي نوافذ على تجربة الجماعات الشعبية وروايات لخبراتها ومعارفها، هي تعبير لغوي إبداعي موجز عن حكمتها ورؤيتها لنفسها وللعالم، كما أنها رسالة من الجماعة البشرية لأعضائها حتى تختصر عليهم الطريق وتعفيهم من التجربة وما تحمله من كلفة قد تحدث، إنها وسيلة تربوية ونمط من الإعلان عما ترتضيه الجماعة وتحتقره، فهي حفريات للقيم والأخلاق يستطيع المدقق والراغب في استبيان أنماط القيم والأخلاق الموجودة في جماعة ما في وقت معين. إذا كان المعنى المبدئي لكلمة فولكلور folklore الإنجليزية هو (حكمة الشعب)؛ فلا أعمق من الأمثال لبيان هذه الحكمة وبثها وتناقلها عبر الأجيال المتعاقبة، فالأمثال صنو الحكمة ووعاؤها.
هل ناقشت السير الشعبية الهوس؟
وإذا ذمت الجماعة الشعبية العربية في فولكلورها الهوس السطحي بالجمال الشكلي والابتعاد عن الجمال الحقيقي الكامن في الداخل؛ فإنها أيضاً لم تدّخر جهداً لذم الهوس المرضى بالسلطة والتحكم والسيطرة.
ففي سيرة سيف بن ذي يزن يخدع ملك الحبشة سيف أرعد ملك اليمن الشريف ذا يزن، ويرسل له جارية جميلة على سبيل الهدية والتهدئة اسمها (قمرية)، وفي الحقيقة كان أرعد قد اتفق على أن تغتال قمرية ذا يزن وتستولي على الحكم تحت لوائه، وبالفعل تستطيع قتله على الرغم من الحب الشديد الذى أحبه يزن لها، وتفاجأ بحملها من يزن، وبالفعل تنجب ولداً ذكراً تسميه سيف، ومع سيطرة هوس السلطة والسيطرة تخاف أن يكبر ابنها الوحيد فتحق له السلطة فتقرر قتله، ولكن من توكل لهم الأمر من رجالها يعطفون على الرضيع ويتركونه في الخلاء ولا يقتلونه، بعد مرور السنوات يعود سيف شاباً لا يملك أي ضغينة تجاه أمه ويريد فقط الحياة في كنفها، ولكن مرة أخرى تستمع قمرية للهوس المستعر بداخلها فتقرر التخلص منه سبع مرات متتالية يسامحها في كل مرة ولا تعود عن المرة التالية، وتعاقبها السيرة في عقاب شعري بموتها جزاء هوسها الذى أمات بداخلها أكثر مشاعر البشر غريزية وقوة وهى الأمومة.
هذا الاحتقار لهذا النمط من الهوس نجده أيضاً في الموال القصصي (سعد اليتيم)، حيث يقرر عم سعد اليتيم قتل أخيه الحاكم على المملكة، كذلك ابنه الذكر حتى لا ينتقم، وعندما يعود سعد اليتيم شاباً بعد أن ينجو من الموت صغيراً فاتحاً ذراعيه لعمه راغباً في فتح صفحة جديدة والزواج من ابنة عمه يستمر استسلام العم لهوسه ويظل على محاولاته للتخلص من ابن أخيه المغدور حتى ينال هو الآخر جزءاه بالموت.
أما في سيرة (الأمير حمزة البهلوان) فيستجيب كسرى أنو شروان لهوسة بالسلطة والحفاظ عليها وينقلب على الأمير حمزة البهلوان (العرب) الذي كان قد أنقذ له هذا العرش وقام بتسليمه له، ويحاول الملك الفارسي الغدر بحمزة وقتله على الرغم من أن كل ما سيطر على حمزة هو الرغبة في الزواج من ابنة ملك الفرس والعيش في الحجاز في سلام وأمان.
يحاول كسرى صنع المكيدة تلو المكيدة، ولكن ما يحدث في الحقيقة هو عكس ما يريده كسرى، ويقلد حمزة بعرش كسرى بالفعل وهنا تنسج الجماعة الشعبية عقابها الشعرى المستحق والساخر في نفس الوقت، فالهوس بالسيطرة وبالسلطة (أياً كانت هذه السلطة أو تلك السيطرة)، والذي يدفع الأفراد للإتيان بكل ما هو مكروه ومذموم أخلاقياً أو حتى إنسانياً؛ يكون هو أيضاً السبيل والمنهج لضياع هذا الحكم وانتهاء هذه السيطرة وزوال هذه القوة التي يبذل هوساً من أجل حمايتها كل شيء.